مقالاة عام 2006 - 160
القضاة .. في ظل العسكر والمباحث
صلاح الدين محسن
الحوار المتمدن 2006 / 12 / 29
عندما يعم الفساد بفئة من فئات المجتمع ، أو بدولة ما بأكملها ، فبالتأكيد بالتأكيد لابد وأن هناك اناس شرفاء ..
وعند الحديث عن الفساد في فئة من المجتمع أو الدولة بأكملها يجب علي الشرفاء – القلة ! - ألا يغضبون وألا تنتابهم الحساسية ، فهم يعرفون أنفسهم ، والناس أيضا يعرفون أنهم شرفاء ..
وقولنا هذا ليس رخصة لغير الشرفاء لكي يطمئنوا ويعدوا أنفسهم ضمن الشرفاء وأن الكلام عن الفساد والفاسدين لا يعنيهم هم .. كلا .. فالناس أيضا يعرفونهم ويعرفونهم تماما ..
وقت اعتصام القضاة منذ شهور بناديهم بالقاهرة ، كتبنا ككثيرين غيرنا من الكتاب ، نتضامن مع القضاة المعتصمين ونؤيد مطالبهم في استقلالية القضاء وضرورة أن يرفع النظام – العسكري المستبد - يده عن القضاء والقضاة ..
وفور نشر المقال جاءتنا تعليقات من قراء يلوموننا علي تضامننا مع القضاة المصريين ويقولون ليس بمصر قضاء أو قضاة .. ، انما قضاة مصر نصفهم ينتمون لجماعة الاخوان المسلمين المحظورة لخطورتها علي أمن الوطن– يؤيدها هؤلاء القضاة – وسعيها الي اعادة مصر 1400 سنة للوراء ، لأيام محمد وحروبه وأسراه وقتلاه والعلاج بحبة البركة التي لم يعالج نفسه ولا ابنه ولا أحد بها (!!) و..و .. الي آخر ذاك الخبل العربي الجاهل العتيق في جهله الذي يريد الاخوان والقضاة منهم ! اعادتنا اليه !
هذا عن نصف قضاة مصر الاخوانجية ..
أما نصف القضاة لآخر فهم ممن كانوا ضباط شرطة ! جلدوا أبناء الشعب ولي نعمتهم وأوسعوهم سبابا بذيئة .. وبعد أن شبعوا من اهانة الشعب دخلوا سلك النيابة وتدرجوا وأصبحوا قضاة يجلسون فوق منصة العدالة (!!!) .. هذا ما أرسل يقوله لنا عدد من القراء ..
= نكرر : القضاة الشرفاء والمستنيرون الذين لا هم من هؤلاء ولا من أولئك .. نعرف بأنهم موجودون وأنهم يتحملون الكثير .. =
ويمها كان ردي بأن تضامننا مع الحريات عموما لكل الفئات ، وضد هيمنة الحكم العسكري الطاغي علي كل شيء .. أما القضاة فما يمكن وما يجب أن يقال عنهم كفئة من فئات المجتمع ، هو كثير ، وهم ليسوا ملائكة فوق النقد ..
وليس من الحكمة أن ننتقد القضاة بينما هم يتعرضون لبطش نظام فاسد هو المسئول عن فساد كل شيء بمصر بما في ذلك القضاء والقضاة أنفسهم = أي أن الفساد في القضاة هو صنيعة نظام العسكر والمباحث .. وهو مجرد جزء من الفساد العام =
ووعدنا هؤلاء القراء بأننا بعد انتهاء أزمة اعتصام القضاة .. سوف نطلعهم علي واقعة من داخل القضاء بطلها أحد قضاة عصر العسكر والمباحث .. سنريكم فيها ما لا يمكن أن يخطر علي بالكم ولا علي بال حسني مبارك نفسه !
ونمهد لرواية ما حدث بالقول : أنه من المعروف =- أو كان معروفا .. - أن القاضي هو انسان رزين رصين ، يتحسس ألفاظه وكلماته قبل النطق بها ، ليس في المحكمة فقط وانما في حياته بشكل عام .. ويعرف أنه بخارج المحكمة بوسط الناس وبالشارع أو النادي أو أي مكان عام ، كل حركة أو سكنة أو لفظ ، هو محسوب تماما علي سيادة القاضي .. الذي هو منصة العدالة بين الناس .
ولو كان كل الناس يسبون رئيس الدولة بكل مكان فان الوحيد الذي يجب ألا يخرج السباب من فمه هو : سيادة القاضي .. ، وأنه ان أراد التعبير عن اعتراض أو امتعاض من رئيس الدولة ككل النا س فله كلمات أخري غير كلمات العامة .. كلمات موزونة مهذبة مؤدبة ..
فان خرج عن زمام نفسه وسب وشتم فان ذلك لا يمكن أن يكون أبدا في مكان عام .. وانما : ربما .. يحدث وسط مجموعة قليلة من أصدقائه المقربين .. ان حدث ..
ولكنني لا أتصور أبدا أن يفعل أحد القضاة ذلك ويتلفظ بلفظ خارج علي الآداب العامة ويخدش الحياء بينما هو جالس فوق منصة القضاء ! ، وليس ضد متهم مجرم ماثل أمامه ، وانما ضد رئيس الجمهورية الجالس علي كرسي رئاسة الدولة والذي صورته مرفوعة فوق رأس كل مسئول بكل مؤسسات الدولة !
هذا مالم أكن أتصوره .. فهل أحد من حضرات القراء يتصور حدوث ذلك ؟!
بل حدث ..
فكيف ؟
توسل الي أحد جماعة البهائيين بالمعتقل السياسي ، راجيا أن يأخذ صفحه من جريدة الأهرام معه في الغد وهو في طريقه للمحكمة ، والصفحة منشور فيها قول للرئيس مبارك عن وقوفه بجانب حرية العقيدة وحرية الرأي ، ورأي أن فيما نشرته أكبر صحف الحكومة علي لسان رئيس الدولة هو طوق نجاة يقدمه للقاضي ليفرج عنه علي الفور ، حيث كانوا معتقلين بسبب اعتناقهم للديانة البهائية ..
وكنت مشتركا بجريدة الأهرام وتصلني يوميا بداخل السجن ، أقرأها في الصباح ثم يستعيرها مني عدد كبير من أفراد الجماعات الاسلامية ، تبقي معهم حتي قبل المغرب – قبيل اغلاق أبوب الزنازين علي الجميع - فيعيدوها ، وأعطيها للبهائيين يقرءونها معا في الليل ثم يعيدوها لي في صباح اليوم التالي ..
ولأن أحد أفراد الجماعات الاسلامية يكره البهائيين ويتمني ألا يخرجوا من السجن بل يتمني لهم القتل ويجاهر بذلك في وجوههم .. لذا فانه عندما سمع بنية البهائي في أخذ الخبر من الجريدة لاطلاع القاضي عليه ليفرج عنه ، فقد توعده بأنه لن يمسك بنلك الصفحة من الجريدة ..! وراح صاحبنا البهائي يتوسل الي بأن أعطه تلك الصفحة التي بها الخبر ففيها انقاذ له من المعتقل ، وهو يخشي من كيد الأخ الاسلامي – يتبع تنظيم الجهاد – بأن يخفيها أو يمزقها ..!
ولكي أطمئنه سحبت الجريدة بهدوء من أخينا بزعم مراجعة شيء صغير لدقيقة واحدة ، ثم سحبت الورقة بأكملها من الجريدة وطبقتها وسلمتها للبهائي بعد أن أعدت الجريدة لصاحبنا الجهادي الذي لم ينتبه بأ هناك صفحة مسحوبة منها ..
اطمأن قلب الأخ البهائي ووضع الورقة في جيبه ونام في تلك الليلة مطمئنا الي وجود الورقة التي ستخرجه من السجن بمجرد اظهارها لللقاضي ، وفي الصباح أخذوه لحضور جلسته بالمحكمة كانت جلسة تسمي : مشورة
ولما عاد من الجلسة في منتصف النهار سألته : خيرا .. لعل القاضي أمر بالافراج عنكم بعد أن قدمت له صفحة من الجريدة الرسمية حاملة تصريح الجمهورية شخصيا ، بحقكم في حرية العقيدة ..
فقال لي بحزن : لا أبدا ..
فقلت : لماذا ؟ هل صادروا الورقة منك عند التفتيش ولم تتمكن من ايصالها لسعادة القاضي ؟
فقال – بأسي - : لا .. قدمتها له .. !
قلت : فماذا قال ؟
فرد : بمجرد ما قلت له ان الرئيس حسني مبارك يقول ومددت له الورقة لم يدعني أكمل بل جذبها من يدعي بقسوة وقام بتمزيقها قائلا : ( ... أم حسني مبارك )
عزيزي القاريء : مكان النقط لفظ قاله سيادة القاضي فوق منصة القضاء واللفظ هو من الألفاظ المخلة بالآداب الخادشة للحياء التي يعاقب القانون من يقترفها ! .. واللفظ مكون من حرفين هما : حرف الكاف ، وحرف : السين ..
ما ان سمعت منه ذلك حتي أسقط في يدي – كما يقال - ، وذهلت ولم أصدق ما سمعته ، اذ لا أتخيل امكانية أن يحدث قول كهذا من قاض وفوق منصة القضاء ..! وكذلك لا يمكنني تصور هذا الأخ يكذب أو يبالغ فهو شخص محترم للغاية وجاد للغاية ..
فسألته : غير معقول ، غير معقول .. !!
قراح يؤكد ويقسم بأن هذا ما حدث .. !!
قلت له : أنت متأكد من أنك كنت بالمحكمة ؟ ألا يمكن أن تكون المشورة تلك بفرع أمن الدولة ، وأنت لم تنتبه ..!
فقال : كلا .. كلا .. بل بالمحكمة ..
ومضيت أقول له : غير معقول أبدا .. هذا مستحيل أن يحدث من قاضي ,, هذا مستحيل ..! .. .. بينما هو يؤكد أنه القاضي وبالمحكمة..!
عدت أقول له : ربما بالمحكمة ولكن بغرفة غير قاعة المحكمة ومن قال ذلك هو ضابط أمن دولة فهذا ما يحدث ويعرفه الجميع من ضباط الشرطة والأمن ولكن .. هل وصل لسب ام رئيس الجمهورية ؟؟!! هذا ما لم أعلم به بعد !!!
لم أصدق بالطبع ولم أشك في مصداقية أخينا هذا وقلت أكيد هناك لبس ولم يكن بالمحكمة ولم يكن الشخص الشتام البذيء هو القاضي .
الي أن جاء يوم كانت فيه الجريدة تنشر أخبار احدي القضايا مع صورة لهيئة المحكمة ، واذا بصاحبنا يأتيني مسرعا بالجريدة في يده مشيرا لصورة قائلا : هل تذكر القاضي الذي قلت لك أنه سب أم حسني مبارك ، ولم تصدقني وقلت لي مستحيل ، أكيد هو ضابط وليس قاضي ؟!
قلت = نعم ، وهو موضوع لا يزال يشغلني .. ولا أفهم كيف يحدث من قاضي ..!!
فقال : ها هو ... ها هو القاضي .. !! وأشار لصورته فوق المنصة !
هنا وجدت أنه لا مفر من أن أصدق بأن قاضيا سب أم رئيس الجمهورية من فوق منصة القضاء وأمسك مستندا من جريدة الدولة الرسمية ومزقه علي طريفة ضباط الشرطة بأقسام الشرطة عندما يأخذ أحدهم كارنيه نقابة المحاميين أو نقابة الصحفيين من المحامي أو الصحفي ويمزقه ويرمي به بمنتهي البساطة دونما سبب ودونما محاسب يحاسبه علي تلك الفعلة .. !!
صدقته .. ولكن بقي أمامي لغز .. لغز كبير ظل يدور برأسي بحثا عن حل له وهو : كيف يحدث ذلك من القاضي .. عرفناه وألفناه يحدث من ضباط الشرطة والأمن .. ولكن كيف ومتي يحدث من القاضي ..؟!!!!
ظل اللغز حائرا برأسي ..
الي أن جاء يوم بينما كنا نتريض نحن نزلاء المعتقل كالعادة بداخل فنائه وحول سوره الداخلي .. كان من ضمن من يمارسون التريض معنا – بالجري أو بالألعاب السويدية .. قاضي ورئيس محكمة ، محكوم عليه بالسجن بتهمة الرشوة – ايهاب – وقد لفت نظري أنه يلعب رياضة لمدة طويلة وأنه بالغ الحيوية والنشاط والرشاقة مما يوحي بأنه ينتمي لمهنة أخري غير مهنة القضاة التي تتطلب الانكباب الدائم علي ملفات القضايا والجلوس علي المنصات .. فلما أبديت ملاحظتي تلك ، اتضح بأنه أصلا : ضابط شرطة ..
ولم أكن أعرف أن ضباط الشرطة من يريد منهم أن يكون قاضيا فباستطاعته دخول سلك النيابة ثم التدرج ليصل لمنصب القاضي !!
وهنا تم حل اللغز .. وعرفت كيف يكون سيادة القاضي سبابا بذيئا حتي وهو يجلس فوق منصة العدالة للحكم بين الناس بالعدل ؟
= عندما يكون سعادته من قبل : ضابط شرطة !!!!!!!!!!!!!
ان الحكم العسكري البوليسي الاستخباراتي لمصر الذي بدأ عام 1952 ولا يزال يمسك كالقراد بجسد مصر ، وسمح للعسكر والبوليس بأن يتسللوا لكل قطاع من قطاعات الدولة حتي أشاعوا بمصر كلها الفساد والخراب ..
لم يترك للشعب ولا حتي جهاز العدالة ! : جهاز القضاء .. ! ذاك الجهاز الذي يجب علي أي برنامج اصلاحي جاد أن يوقف تماما دخول الضباط الي هذا الجهاز - هو وسلك النيابة - ، ويتم تطهيره تماما ممن جاءووه من بين الجلادين الذين يسبون أولياء نعمتهم أسيادهم أبناء الشعب بأقسام الشرطة ! ، ومن الممكن ألا يتورعوا عن السب وبذاءة اللسان حتي فوق منصة مقدسة كمنصة القضاء ...
وكيف يكون القاضي البذيء الشتام : عادلا ؟؟؟ كيف ؟!!!
طبعا لسنا بحاجة لأن نكرر ما قلناه في البداية من أن كل فئة مهما بلغ ما بها من الفساد ، فيها اناس يستحقون الاحترام ، وأنا شخصيا عرفت ضباط شرطة يستحقون الاحترام ولكنهم مع الأسف قلة . وكذلك الأمر بالنسبة للقضاة – وحديثنا هذا ليس موجها ضد القلة الشريفة .
============
تعليقات
إرسال تعليق