مقالات عام 2006 – 130
زهور الأمازيغ تتفتح بعد 1400خريف
صلاح الدين محسن
2006 / 10 / 23
أفرح فرحا لا حدود له عندما أري شجرا جافا يابسا يبدو حطبا ، بعدما جثم الخريف فوق أنفاسه ، وظل صامدا ومحتفظا بكنه الحياة بداخله ومحافظا علي سرها .. وما أن ينزاح الخريف الظالم حتي يورق الشجر من جديد ويخضر ويلبس حلة زاهية ينشر بها االبهجة في نفوس كل الكائنات من حوله ..
أفرح جدا عندما أري أرضا ببلاد الجليد ظل الثلج يكسوها لشهورعدة ، حيث يدفن تحته كل ما هو أخضر فلا نكاد نري للأخضر ثمة أثر ، ولكن النبات يظل صامدا صابرا تحت ركام الجليد القاسي .. وما أن ينزاح فصل الجليد.. حتي تعود للحياة من جديد .. نباتات وزهور تقوم من رقدة العدم ، تنبت بذور وتنمو وتكبر وتمضي في النمو وتتفتح أزهارها وتنشر أريج العطر والبهجة في وجه كل الحياة ، وتتبادل التحية مع الشمس والنور والنهار وتسعد البشر وتستضيف نحل العسل وتكرم ضيافته .. لهذا أفرح جدا ..
وكذلك أيضا ..
كذلك أيضا أفرح عندما أجد شعبا قد تعرض لظلم وعدوان من شعب آخر كتم علي أنفاس هويته ولغته وشخصيته التاريخية لسنوات وسنوات ، ولكن الشعب المظلوم يظل محافظا علي لغته وهويته كما تحافظ الأشجار والأزهار علي سر حياتها وكنه وجودها في وجه الخريف وتحت ركام الجليد ثم تعود لتنمو وتورق وتزهر وتعانق الحياة من جديد ..
فقد فرحت وأحسست بنفس البهجة عندما زرت العراق عام 1977 ، وفوجئت وأنا أسير بأحد شوارع بغداد – لعله شارع السعدون – بما لم أكن أتوقعه ، وجود جمعية باسم الآثوريين ، وأخري – حسبما أتذكر – للسريان والكلدان .. .. فقلت لنفسي طربا : أي أن صناع حضارة العراق القديم لا تزال لهم بذور وبراعم موجودة !! لا يزال لهم أحفاد باقين رغم هبوب رمال لا حصر لها من صحراء الربع الخالي من بلاد الحجاز علي بلاد حضارة وادي الرافدين مما أصابتها بالتصحر ، وزرع الشوك العربي والصبار واستحد ث نهرا ثالثا بالعراق ولكنه نهر من الدماء متجدد ، ودائم التدفق في : كربلاء ..!
صمود الانسان ضد الطغيان سواء جاء من عوامل الطبيعة أم جاء من ظلم أخيه الانسان ، والاصرار علي البقاء والنهوض والانتصار .. ومعاودته للنمو والازدهار تشعرني ببهجة غريبة كتلك البهجة التي كنت أشعر بها في الريف المصري – حيث نشأت – عندما يعود شجر التوت ليورق ويزدهر ويخضر ويثمر من جديد وتعقد العصافير فوقه حفلاتها وتشقشق بأغاريدها بعدما كان الخريف القاسي قد حوله الي حطب جاف واقف لا حياة فيه ..
وأشعر أيضل بارتياح – مشوب بالقلق والحذر – لوجود معهد ببلدي مصر يدرس لغات مصر قبل الاحتلال البدوي الصحراوي لها من 14 قرن ، وكذلك عندما قرأت أخيرا أن المتحف المصري بالقاهرة ومكتبة الاسكندرية الجديدة ينظمان دورات دراسية لتعلم لغات مصر الحضارية القديمة .. وسبب قلقي وقلة اطمئناني يعود الي انتشار وباء الثعابين الوهابية بمصر ونجاحها في بث سمومها في كافة الأرجاء بل ونجاحها في ثعبنة الكثيرين جدا من المصريين – أي تحويلهم الي ثعابين وهابية – ولكن عزاءنا أن المستقبل للعلم لا للجهل والتجهيل ، المستقبل للحضارة لا للبداوة والبدائية المتلحفة بلحاف السماء والادعاء الكاذب.
وأقدر شعب النوبة كثيرا جدا لأنهم رغم أنهم تعرضوا علي أيدي التتار العرب المحمديين لنفس ما تعرض له المصريون ، ورغم طيبة ووداعة شعب النوبة ، الا أنهم ظلوا متمسكين بلغتهم ، حتي الآن في وجه العربية لغة البدو المعتدين ، ويتكلم أهل النوبة لغتهم حتي الآن ..، مثلهم في ذلك مثل الفرس والترك .. حافظوا علي لغتهم ولم يسلموها للمحتل العربي البدوي التتري ليدفنها .. ومن المفارقات المحزنة أن من فرطوا في لغتهم لصالح المعتدي المحتل البدوي الهمجي هم الشعوب صاحبة أعرق الحضارات – مصر والعراق وسوريا - !!!
كذلك طربت عندما عرفت من بعض قرائي بسوريا بأن جامعة سريانية سوف تفتتح ..! والسريانية هي احدي اللغات التي حاولت العربية علي أيادي وسيوف بنيها وأدها ، دفنها دفنا رغم كون العربية مجرد ابنة بل حفيدة للغة السوريانية – وقد نصب العرب لغتهم لغة لأهل الجنة ..رغم علمهم بأن أن الجنة تحت أقدام الأمهات ..والسريانية أم كبري للعربية بينما العربية كلغة لا بنات لها ولا بنون ، أي ليست أما ولن تكون !!
نعم أفرح بكل لغة قديمة جدا لم ينجح القهر الاستعماري البدوي في محوها من قلوب وعقول ونفوس الأحفاد جيلا بد جيل .. بل ظلوا محافظين علي هويتهم كما نحتفظ الزهور ببذورها لشهورعدة تحت ركام الجليد لتنبت وتكبر وتزهر من جديد !! انها ارادة الحياة .. فيا لها من ارادة جديرة بالفرح بها والاكبار لها ..
صحيح أننا نؤمن بأن اللغة هي مجرد وسيلة للتفاهم ، ومن حق أي انسان أن يترك لغته الأم ليتعلم لغة أخري لعلم يسعي اليه أو لرزق يطلبه أو لزوجة أحبها أو لزوج أحبته امرأة .. لا مانع ولكن :
علي أن يكون ذلك باختيار الانسان ، برغبته وبارادته الحرة وليس بالضغط عليه ولا باصدار السلطان المحتل لفرمان يقول فيه من يتكلم بغير العربية فسوف نقطع لسانه – كما حدث مع شعب مصر لفرض تعريبها عليه فرضا بالقهر - ..! ولا بالتضييق علي الشعب أو الفرد بطرق شتي لاجباره اجبارا علي ترك لغته الأم وهو في بلده !! ليتعلم ويتكلم بلغة المحتل الغاصب ...!
لنعود لموضوعنا الرئيسي الذي هو زهور الأمازيغ التي تتفتح بعد 1400 خريف ! وان كنا نعتقد في أننا لم نبتعد عن الموضوع وانما نحن في الصميم .. فالموضوع واحد وانسانية القضية واحدة ..
فقد فرحت أيضا بل ابتهجت بشدة عندما سمعت جزائريين منذ سنوات قليلة باذاعة لندن وقت اضطرابات ومظاهرات الجنوب يقولون معبرين عن مطالبهم من الحكومة : يجب علي الحكومة الجزائرية أن تصحح التاريخ ، نحن لسنا عربا بل نحن أمازيغ ... !
حينها صحت طربا .. اذن تحت الجليد لا تزال هناك جذور ، تحت رمال صحراء الربع الخالي التي هبت علي بلادهم من بلاد الحجاز وغطتها ، توجد بذور لزهور قوميتهم ولغتهم الأمازيغية .. اذن سوف تنبت البذور وستعود الزهور ..! وبعد 1400 خريف من الزمان ستعود ! .. لا زالت البذور والجذور حية ، وسوف تصعد الزهور وتعلو وتتفتح ..!!
ثم اتضح لي بعد ذلك أن زهور الأمازيغ حية ليست وحسب بالجزائر وانما تمتد أراضيها من ليبيا وحتي المغرب – أو بالعكس أيضا – وتمتد بداخل دول أخري .. ان زهور الأمازيج ليست كالسوريانية والكلدانية والآشورية موجودة بدولة واحدة فقط – العراق – أو دولتين فقط – سوريا والعراق .. كموطن أصلي – وانما هي موجودة بعدد من الدول، ومن الواضح أن ربيعها قد بدأ وأنها زهور مكافحة وقد أخرجت كل ما لديها من طاقة الاصرار والكفاح لأجل العودة للحياة علي أراضيها والانتشار في كل بلادها لتعود وتأخذ مكانها ومكانتها بدلا من نبات الشوك والطلح والصبار الصحراوي البدوي القادم اليهم من بعيد بعيد : من صحراء الربع الخالي ! ويحمل معه كل غبار الجهل والتزمت والازدواجية والسكوباتية وكافة معوقات النهوض والتحضر اللائق بالقرن الواحد والعشرين الميلادي وعصر سفن الفضاء والانترنت والفمتو ثانية ، و الصواريخ عابرات القارات ...
الحوار المتمدن-العدد: 1712 - 2006 / 10 / 23
======
تعليقات
إرسال تعليق