مقالات عام 2006 - 127


عقوبات اسلامية ضد الرحمة والتوبة


هذه قصة من الواقع كتبتها ضمن كتابي " مجموعة قصص " من حديقة البشر " عن اناس قابلتهم في حياتي قصصهم وحياتهم جديرة بالتوقف عندها :
عرفت رجلا ريفيا باحدي القري جنوب القاهرة بحوالي مائة كيلو متر ، يلبس جلبابا وعمامة كأهل الريف ، ويعرف القراءة والكتابة فحسب تعلمها بكتاب القرية .. كان من عمر جدي وكنت موظفا شابا بهذه القرية لم أكن قد أكملت العشرين بعد ، وكان هو واحد من أعيان ووجهاء تلك القرية .. وقد صرنا أصدقاء بسبب الشعر .. فوجئت به يلقي بعض أبيات الشعر بفصاحة واقتدار وسط مجموعة من زملائي الموظفين ، فانشددت أستمع اليه بينما الباقون لم يعطوا ثمة اهتمام لما قاله .. وفرحت جدا لأنني وجدت بالقرية راوية للشعر ، و هو فرح لأنه قد وجد له مستمعا .. وسمعت منه شعرا لابن عربي وللامام البوصيري وغيرهما .. الشعر الذي يرويه عن ابن عربي هو صعب ، ليس لأي شخص أن يفهمه ولا لأي شخص أن يحسن قراءته الا اذا كان محبا للشعر وللغة معا ..
صرنا أصدقاء رغم فارق السن الكبير بين الجد والحفيد .. يروي لي الشعر وهو سعيد لوجود مستمع ، وأنا مستمتع بسماع هذا الشعر البالغ الروعة والسمو والفلسفة .. أنا مندهش لكون راوية هذا الشعر رجلا ريفيا بجلباب وعمامة !! ، وهو يندهش عندما يحاول شرح معاني بعض الكلمات الصعبة ، والتعابير المركبة الفلسفية فيندهش عندما يفاجأ بأنني وأنا الشاب الصغير ، قد فهمتها بدون شرح ..
وذات يوم سألته كيف له وهو الريفي الذي لم يتعلم بمداس أن يحفظ ويروي شعرا علي ذاك المستوي؟ّ!
هنا صرح لي بسر عمره ما يقرب من نصف قرن ، وما كان يمكن أن أعرفه ، ا قال لي بهدؤ هامس :
تعلمته في السجن ..
وقبل أن أساله ولماذا دخل السجن أجاب هو علي السؤال بالقول : وأنا شاب صغير كنت حرامي ، وكنت شضلي .. !!
وبعد سنوات صار من وجهاء وأعيان القرية .. وعضو بارز – منتخب من الناس - باحدي الجمعيات .
سجنوه لأنه سرق .. وبموجب القانون المدني الرحيم – لا الديني – وبعد أن تاب وأقلع عن السرقة بسنوات .. تاب عنه الجميع : الله والمجتمع .. ودخل في زمرة وجهاء مجتمعه بعد أن كان في زمرة لصوصه .. وها هو سمعته سليمة ونظيفة ، وجميع أعضاء جسمه كاملة وسليمة !

فتري لو كان قد عوقب بقانون القرآن ، وقطعت يده ..؟! هل كان المجتمع سيغفر له ويجلسه وسط وجهائه بيده المقطوعة الدالة ولو بعد نصف قرن علي أنه كان لصا .. ؟!
ان القانون المدني الرحيم يشطب الجريمة من سجلاته بعد سنوات معينة مالم يعد صاحبها لها مرة أخري .. .. فان تاب المجرم بعد تلك السنوات ، وسألنا سجلات الدولة عنه وجدنا صفحته قد صارت بيضاء .. فقد تاب وغفر له المجتمع ويعامله ككل الناس الأبرياء ..
ولكنه بقانون قطع اليد سيظل طوال حياته في رأي المجتمع لصا .. ويده المقطوعة سجلا عاريا مفتوحا باستمرار يقول للكل : هذا لص .. ولو بعد نصف قرن من الزمان (!!!) .
ولو ذهب لقرية أو مدينة بعيدةعن بلدته فربما يصيح عليه الصغار ويزفونه بالعار : الحرامي .. الحرامي .. !!
ولو أراد ابنه أو حفيده أن يسافر لخطبة فتاة أعجبته من محافظة أخري ورأي اصطحاب وجهاء عائلته معه ، لقالوا له ابق أنت .. بسبب يده المقطوعة التي ستتسبب في رفض العروس وأهلها لهذا النسب ..
ولو جاء أهل خطيبته من بلدهم لزيارة أهل العريس .. لمنعوه من مقابلتهم بيده المقطوعة الدالة علي أن هذا البيت به لص .. بينما هو تاب منذ سنوات بعيدة .. !
ولو أن حفيد ه – الطفل الصغير – سأله ببراءة الأطفال : من الذي قطع لك يدك يا جدي ؟!
لوخزه هذا السؤال في قلبه .. بسبب جريمة تاب عنها من نصف قرن من الزمان ..!!
وكلما حدث خلاف بسيط بينه وبين أحد الأشخاص .. قد ينظر هذا الأحد ليده المقطوعة ويهز رأسه هزة لها معني المعايرة ( فقط دون مزيد ) ليطعنه في قلبه بسبب جريمة تاب عنها من زمااااان ولكن لا أحد يقبل توبته بسبب يده المقطوعة ...!!!
ولو كانوا قد عاقبوا صديقي الرجل الريفي بقطع اليد " الحاج سيد .... رحمه الله وكنت أود كتابة اسمه كاملا لشدة معزته عندي " لما كنت قد استمعت اليه ولا الي الشعر بل لتجنبته قبل أن أسمع منه شيء بسبب يده المقطوعة ، ولضاعت علي فرصة الاستماع لشعر بن عربي لأول مرة منه .. ولضاعت عليه فرصة أن يكون له صديق يكتب عنه فيما بعد / كتبت عنه قصة أخري بنفس كتابي السابق ذكره " مجموعة قصصية تركتها للنشر لدي اتحاد كتاب مصر ، قبل سفري للخارج – مع ذكر اسمه كاملا بتلك القصة والتي ليس بها شيء يشينه بل العكس ) . ولكن من حسن حظي وحظه أنه حوكم بالقانون المدني الرحيم وليس بالقرآن ، فلم تقطع يده ..
ولو كان تشريع قطع يد السارق يقضي تماما علي جريمة السرقة لما رأينا بمكة والمدينة بالسعودية ومنذ 1400 عام اناس حتي يومنا هذا اناس تقطع أياديهم بسبب السرقة (!) - طعا من العامة و الفقراء لا الأمراء !! فمن ذا الذي يستطيع القول لأمير ، أنه سارق أو زاني ؟
نفس الشيء بالنسبة لجريمة الزنا .. التي يتم القتل رجما للزانية والزاني ..
فان كان الجاني قد قتل .. مات .. فمتي وكيف تكون أمامه أية فرصة للتوبة عن جريمته والرحمة به بعد التوية ؟!
طبعا لا توجد أية فرصة .. فقد قتل .. مات .. أي : تم اغلاق الباب تماما في وجه الرحمة والتوبة ..
والتوبة هي أن يقلع المجرم عن جريمته ويندم عليها – بعد معاقبته عقوبة رحيمة – وبعد مدة من اقلاعه واستقامته يصفح عنه المجتمع وينسي ما كان منه ويعامله كانسان سوي ، ويغفر له الله .
ولكن ان تم قتله فمتي يندم ومتي يتوب ومتي يستقيم ؟!!
الجواب : خلاص .. فقد تم اغلاق باب التوبة وباب الرحمة .. كلا البابين تم اغلاقهما والعياذ بالله
فحاشا لله التواب الرحيم أن يقر أو يشرع تشريعات ضد الرحمة وضد التوبة
والويل لكل كذاب يدعي علي الله بالباطل ولاسيما ان فرض ادعاءاته الباطلة الفظة القاسية غير الرحيمة علي الناس بالسيف ! هذا لايغفر له الله ولا يصلعم عليه أبدا مهما زعم الزاعمون وادعي المدعون بأن كل الصلعمات يخص الله بها صلعم ! .

تعليقات