مقالات مختارة - تساؤلات حول الهوية

                                           
                                             تساؤلات حول الهوية

محمد مهاجر - كاتب سوداني  هولندي -
الحوار المتمدن 2018 / 6 / 25

حين يعزى الناس الحروب الطاحنة فى افريقيا الى الصراعات حول الهوية فان المتلقى فى اغلب الاحيان يميل الى الاعتقاد بان مثل هذه التحليلات اما انها تدل على عدم دراية بالواقع او على استهتار بالعقول, لان افريقيا هى فى الاساس ارض السمر. لكن الواقع يقول عكس ذلك اذ قامت فى افريقيا وغيرها مجازر بشرية كثيرة وحملات ابادة كانت دوافعها الرئيسية هى القتل والابادة على اساس الهوية. ومثلما ادت حملات النازيين الى ابادة جماعية هى الاسوأ فى التاريخ, كذلك شهدت افريقيا عمليات ابادة لم تنتهى بعد. وفى السنوات القليلة الماضية علم الناس بقتل مئات الالاف فى جنوب وشرق السودان والنيل الازرق وكردفان ودارفور وتشريد الملايين, والسبب هو رسوخ فكرة نفى او اعدام الذين يرفضون الهوية العربية الاسلامية المجتزفة, وهى فكرة تبنتها معظم النخب السودانية التى تعاقبت على حكم السودان

الانسان يجد نفسه مدفوعا, بحكم الغريزة, الى تحقيق مطالب الامن والبيولوجيا لكنه كذلك يمتلك الوعى بنفسه منذ سن مبكرة, لانه يقارن ويصنف ويريد الاعتراف والتقدير. والطفل الصغير, او الطفلة, يرسم صورة لهويته لكن هل تبقى تلك الصورة صامدة لمدة طويلة؟ من ناحية بيولوجية فان تعريف ذلك الطفل لنفسه لا يتغير كثيرا بمرور الزمن, بمعنى اننا اذا اعتمدنا على المعيار الكمى فالرجل هو ذاته ذو يدين ورجلين وعينين, وبذات الاسم, والمراة هى ذاتها, والصف الدراسى الاول أ هو ذاته ما دام عدد التلاميذ ظل ثلاثين تلميذا طول السنة. لكن هذا المعيار لا يمدنا بمعلومات كافية عن جوهر الاشياء, مثلا عن السمات غير المادية للصف الدراسى الاول أ. ان الوعى غير المادى هو المعيار والمحك الاساسى وهو معيار كيفى لا كمى, فذلك الطفل الصغير سيكبر وسيعرف الناس بنفسه ويقول انه معلم او مهندس او كاتب او سياسى او فوضوى, او ان له مهنة من المهن او ميل او فكرة او عاطفة

انشغل الفلاسفة منذ القدم بمسالة الوعى وعلاقته بالشعور, او علاقة العقل بالجسد. ويفرق ديكارت بين الجسم والعقل, وهو يرى ان الجسم هو شئ ثلاثى الابعاد علامته الفارقة هى الامتداد اما العقل فهو شئ غير مادى وسمته الاساسية هى التفكير. ويتفق عدد من الفالاسفة على مفهوم الشكليات الثانوية مثل اللون والمذاق والرائحة والصوت وغيرها. ولان الحواس تخدع كثيرا فان المعرفة الحقيقية هى المعرفة العقلية التى تاتى عن طريق الاستبطان. والرجل الذى يجلس على كرسى الحلاق ويخفى كفيه يدرك بعقله ان اليد التى يحركها هى اليد اليمنى, لكنه ينظر الى المراة فيعتقد انه اخطأ ويشك فى المعلومة فينظر الى الحلاق لبرهة فيظن ان الحلاق يمسك الالة بيده اليسرى لا اليمنى فيدير راسه فيرى ان الحلاق الاخر كذلك يستخدم يده اليسرى. والحقيقة ان الصورة التى يكونها ذلك الرجل عن نفسه وعن الاشياء هى صورة حقيقية لكنها صورة عقلية بحتة اما الصورة خلف المراة فهى صورة تكونت بانعكاس الضوء. وعلى الرغم من ان مبدأ الثنائية الديكارتى يبدو متماسكا الا ان جون لوك يعتبر ان الصفات الثانوية هى تفسير عقلى اما الماديون فيرون انها طاقات

اذا كانت هوية الانسان هى وعيه المستمر بنفسه, اذن ما الذى يجعل هذه الهوية عرضة للتعديل والتبديل؟ و بالرغم من ان ازالة احد نصفى الدماع ليس لها اثر على العمليات العقلية الا ان البعض يخشى ان تؤثر فى وقت لاحق على ميول الشخص, لان الفص الايمن يؤثر فى الميل الى الفنون والعواطف بينما يؤثر الايسر فى ملكات الرياضيات والمنطق. اما الموضوعات الاكثر اثارة للجدل فهى موضوعات مثل التبدل الذى يحدث للهوية بعد اجراء عمليات للمتحولين جنسيا او بعد تطور وعى الاطفال الخلاسيين. والملاحظ ان كل هذه الاسئلة تدور حول الوعى البيولوجى بالهوية. لكن ماذا عن الذاكرة؟ فهى بالضرورة معرضة للنسيان والتاكل بمرور الوقت او بفعل الشيخوخة وكذلك يؤثر فيها النوم وتشتت الانتباه والسكر. ان الهوية التى تستطيع الصمود اكثر هى الهوية غير المادية مثل حقيقة التنوع والتعدد الثقافى فى الفصل الاول أ او المشاعر او القيم او المبادئ التى يحملها الانسان


اذا كان الروائى او الشاعر المسلم يستطيع بسهولة التماهى مع الادباء اليهود او المسيحيين او البوذيين او الهندوس فلماذا يحتفظ هذا الاديب لنفسه بشجرة نسب او الة تكفير جهادية حتى يستطيع استخدامها عند الضرورة؟ ان الهوية الاجتماعية هى كذلك ضرورية للانسان ويلجأ اليها كثيرا خاصة فى حالتى الخوف والطمع. فى الدول المتقدمة ماديا واخلاقيا يتماهى المهندس مع المهندسين والكاتب مع الكتاب والرياضى مع الرياضيين والسبب هو سيادة قيم العدل والحرية والرعاية الاجتماعية والكفاية والتكافل والتعاضد والتقمص والسلام والمحبة وغيرها. اما فى الدول الظالمة فان النخب الحاكمة لا تكتفى فقط بتحويل هويتها الذاتية الى هوية للدولة وللامة لكنها تلزم كذلك جميع المواطنين بهذه الهوية الزائفة. والشخص الذى يرفض الهوية المجتزفة قد يصنف بانه عميل او مخرب او مستلب وقد تقوم الدولة باقصاءة من المناصب او المزايا المهمة, اما المجموعات فانها تستهدف فى ارزاقها وثقافتها وقيمها و تتعرض للاقصاء ومحاولات طمس الهوية والاستهداف المنظم بهدف دفعها الى الحرب

ان الكثير من الدول التى تضطهد مجموعة او مجموعات من مواطنيها تستخدم اساليب قذرة مثل الحرب والخداع والتدليس وتشوية الحقائق و طمس الاثار والتاريخ لكى تفرض الهوية القومية المجتزفة. ومن الاساليب المستخدمة كذلك الترحيل القسرى للسكان المهمشين واهانة ثقافاتهم وتشوية رموزهم القومية وقيمهم وسير ابطالهم وتبخيس انجازاتهم المادية والفكرية. وفى المقابل نجد ان هنالك ابطالا مزيفين تم تقديمهم للجمهور وانجازات لا وجود لها فى الحقيقة واساطير وشهادات مزورة. ان اسلوب الصدمة هو من الاساليب التى تستخدم لترحيل السكان الاصليين وتشتيتهم, وهو يعتمد كثيرا على اساليب مثل الحرب والكوارث التى يصنعها الانسان كالسدود والحرائق. وقد استخدم هذا الاسلوب فى دول مثل تركيا العثمانية ورواندا والسودان وبورما. وفى كل هذه الدول كان الهدف هو فرض هوية النخب الحاكمة بالقوة

وماذا عن تاثير العولمة؟ ان التطور التعليمى والتكنولوجى الهائل وامتلاك الناس للوسائط الجديدة مثل شبكات الانترنت والهواتف الذكية, وفر امكانيات كبيرة لكى يتواصل الناس مع بعضهم البعض بصورة افضل بكثير مما كان عليه الحال قبل ربع قرن. والنتيجة ان هنالك مجتمعات افتراضية نشأت وهنالك قيم ومبادئ وسلوكيات جديدة, فهل تنشأ هويات جديدة عابرة للقارات والدول؟ مثلا ان يقول احدهم انا تويترى او انستقرامى او فيسبوكى؟ والحقيقة التى لا مراء فيها هى ان التدوين الالكترونى قد اصبح مهنة وهواية واصبحت له مزاياه وسماته الواضحة

                                     
 ====

تعليقات