مقالات مختارة
مقتطف من مقال :
رؤية علمانية للرهبنة المصرية
من الممكن لمتهوس أو انتحاري أن يقدم على إنهاء حياته دفعة واحدة، وبعدها لن يكون متواجداً إلا كجثة هامدة، أما أن يظل حياً بيولوجياً، وفي نفس الوقت تموت مشيئته وإرادته عن العالم، فهذا هو المستحيل بعينه، طالما بقيت سائر أجهزة جسمه تعمل. . حتى من اتبع من الرهبان النسك الزائد والزهد إلى حد شبه امتناع عن الطعام، فإن هذا ولو أنه يضعف الجسد بالفعل، إلا أنه لا يقتله، ولا يسكت صرخات غرائزه.
هكذا فإن الرهبان الذين تصوروا أنهم قد هجروا العالم، نجد أنهم قد حملوا العالم معهم داخل أجسادهم، ونسمع ما سجلوه لنا عما اعتبروه محاربات الشياطين لهم في صوامعهم طوال الليل، تلك المحاربات التي لم تكن غير صرخات وخيالات شهوات الجسد المقموعة. . هو إذن لم يكن صراعاً بين الناسك والشيطان الذي يروم صرفه عن العبادة، بخيالات نساء عاريات يحاولن استدراجه للخطية، كما تصور لنا كتابات آباء البراري القديسين، وإنما هو صراع بين الطبيعة الإنسانية، وبين محاولة لقتلها داخل الإنسان، بأمل أن يتحول إلى ملاك، وفق الوصف الذي يزعمه خطاب الكنيسة للرهبان بأنهم "ملائكة أرضيون، أو بشر سمائيون"، وهو وصف مفارق بالتأكيد لواقع وحقيقة الموصوف، ولا يعبر إلا عن تلك الفكرة الخيالية، التي نبتت من احتقار وازدراء الطبيعة الإنسانية، ومن ثم محاولة التسامي عليها، بمعاندة كل ما هو طبيعي، بحيث تستدعي للذاكرة ما نعرفه عن محاولة عباس بن فرناس الطيران، فكان أن سقط من حالق وكسرت رقبته.
كان تحول الرهبنة المصرية من التوحد الأنطوني إلى نظام الشركة على يد "أنبا باخوميوس"، النتيجة الطبيعية لفشل فكرة الفرار من المجتمع الإنساني والتفرغ التام لعبادة الإله، وقد أدى نمو الرهبنة وتزايد عدد طالبيها بصورة مذهلة، إلى ضرورة وجود نظام مجتمعي يجمع هؤلاء ويسيطر في نفس الوقت عليهم، ليتحول الأمر هكذا من "موت عن العالم" إلى انتقال لعالم صحراوي، محاط بأسوار معنوية من القداسة والتطهر، لكنه كان وحسب ما تخبرنا به سير وأقوال الرهبان، كان عامراً بكل ضعفات ومشاكل الإنسان التي تلازمه أينما وجد، علاوة بالطبع على التشوه المتوقع لمجتمع غير طبيعي من حيث ذكوريته المحضة، ولنا أن نتوقع ونقرأ في سير الرهبان ما ترتب على هذا النقص أو التشوه الخطير من نتائج سيكولوجية وبيولوجية في غاية الخطورة. . فالغرائز البشرية إذا لم يتم إشباعها، فإنك لن تقضي عليها حقيقة بالإهمال أو بالقمع، وإنما سوف تدفع بها أو تدفع بك إلى اتجهات أخرى، تقلب موازين ومعايير الحياة الإنسانية الطبيعية، مسببة تشوهات سلوكية وفكرية ونفسية، وهذه جميعها نستطيع أن نقرأها بوضوح فيما جاء بكتاب "بستان الرهبان" لبلاديوس، سواء في نسخته المصرية المنقحة، أو في نسخته الأصلية التي تذكر من مهازل الحياة الرهبانية الكثير مما قد لا يصدقه العقل الذي تربى على ابتلاع خطاب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية دون مضغ وتذوق!!
الخطير في الأمر ليس بالدرجة الأولى ذلك الانسحاب أو الفرار من الحياة، الذي انتهجه هؤلاء الناس، سواء هروباً من الاضطهادات وسوء الحالة الاقتصادية المصرية على مدى عدة عصور، أو نتيجة لما استنتجه بعض المؤرخين من مرور المصريين بفترة قحط جنسي، أدت لازدهار حركة التبتل والهروب للصحراء، فلكل إنسان عموماً الحق في أن يفعل بنفسه ما يشاء، حتى لو كان يعاند ويعادي الطبيعة البشرية. . الخطير بحق هو تأثير تلك التجمعات الرهبانية غير السوية إنسانياً على بيئتها المحيطة، والتي يخبرنا التاريخ ببعضها، مثل حادثة مصرع الفيلسوفة هيباتيا، التي قام الرهبان باغتيالها عارية، وجلسوا طوال الليل يفصلون بأصداف المحار لحمها عن العظام، وكتدخلات الأنبا شنودة وفرقته في حياة القرى المحيطة، ولعبه دوراً أشبه بما ندعوه الآن بالبلطجة.
إلى هذا الحد كان أمر التأثير السلبي للحركة الرهبانية على الشعب المصري محدوداً وموضعياً، لكن ما حدث وكان بلاشك متوقعاً من قواد تلك الكتائب قاطنة الصحراء، أنهم استداروا ثانية إلى العالم الذي زعموا الموت عنه، مستغلين حسن تنظيمهم، وما حققوه من شعبية بين الجماهير، الذين خلب لبهم اعتكاف هؤلاء في الصحراء، فراحوا يطرقون أبوابهم التماساً للبركة والنصح، ليتطور الأمر إلى قفز هؤلاء على مناصب الكنيسة القيادية، ليدين لهم مع الوقت احتكار مناصب الأساقفة والبطريرك. . قد لا يبدو للوهلة الأولى أن ليس في ذلك ما يضير، بل ويمكن أن يُعد ميزة أن تسلم القيادة لمتفرغين متطهرين لا هم لهم إلا خدمة المسيح وكنيسته، وهذا كله يمكن أن يكون صحيحاً في بعض الحالات والجوانب، لكنه من جوانب أخرى يتضمن سلبيات لا حدود لتداعيات بعضها الوبيلة على الشعب القبطي.
نقصر تركيزنا هنا على نقطتين فقط من تلك السلبيات المتوقعة نتيجة تبوء رهبان للمناصب القيادية للكنيسة، أولهما أن توجهات هؤلاء القادة في حكم الكنيسة، لابد وأن تكون وفق نشأتهم في تجمعاتهم الصحراوية على القواعد الصارمة لباخوميوس (أب الشركة)، وهي التي ترتكز وتركز على الطاعة العمياء والانصياع للأوامر المقدسة غير القابلة للنقاش، والتي تستند أساساً على التعلق بالفكرة والمبدأ، على حساب الاحتياجات والظروف العملية والإنسانية، محولين الشعب بذلك إلى قطيع عليه من قِبَل القداسة والتقوى أن يسير وراء قادته معصوب الأعين مغلق الفم مجمد الفكر.
النقطة الثانية هي خطورة أن تكون القيادة مفارقة لطبيعة القاعدة الشعبية، مفارقة في ظروف النشأة، كما هي مفارقة لاهتمامات الجماهير واحتياجاتها الحيوية. . هنا وفي ظل القداسة التي يلتحف بها القادة ومناصبهم، يحدث التعالي على القاعدة باسم التسامي والتطهر والروحانية، ويصير النموذج المثالي ليس هو هبوط القادة إلى الأرض لاستشعار مشاكل الجماهير والبحث عن حلول لها، لكن النموذج المرجو هو أن ترفع تلك الجماهير قلوبها لتكون عند الرب، وأن تنسحب من انتمائها لهذا العالم الذي وضع في الشرير، لتنتمي إلى العالم السمائي الذي سوف تنتقل إليه بعد حين!!. . هنا لابد أن ينقلب الوضع رأساً على عقب، ليكون الشعب في خدمة القادة ورغباتهم ورؤاهم، وليس القادة هم خدام الجماهير، كما سبق وأن نبه إلى ذلك السيد المسيح!!
ليس لنا أن نتوقع بعد ذلك وبكل ذلك للشعب القبطي، إلا أن يكون ألعوبة في يد قادته، كما يصير بقادته ألعوبة في يد الزمان، الذي يجلب له دوماً متغيرات لا قبل له بمواجهتها بما تتطلب من ردود أفعال، من المفترض أن تصب في صالح ديمومة الحياة وازدهارها، لكن أنى له ذلك مادام على رأسه قادة تبرمجوا على تحريض الشعب على النظر إلى فوق حيث الملكوت، في حين أنهم قد استداروا بعدما أعلنوا موتهم عن العالم، لكي يسيطروا على العالم بثروته وسلطانه؟!!
==================
تعليقات
إرسال تعليق