الأوطان والمغتربون
من الفيسبوك - صفحة . محمد عبد المجيد - طائر الشمال -
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو النرويج
14-7-2019
المغترب يموت مرتين: عندما يتذكر الوطن الأم و.. عندما ينساه!
الهم الاغترابي الأكبر هو أن الوطن الأم يحتل مساحة كبيرة في الحواس الخمس للمغترب، فهو يسمع وطنه، ويشمه، ويلمسه، ويراه، ويتذوقه، ثم يأخذه معه في كل مكان، فإذا عاد إلى البيت وضعه تحت وسادته ليكمل به أحلامه بأثر رجعي!
تشاهد مستشفى في سويسرا أو النرويج فتتخيلها في وطنك الأم، وإذا أجريت عملية جراحية ولم تدفع شيئا لأن الدولة تتحمل عنك كل المصروفات، تتساقط من عينيك دمعتان على الوطن الأم، ودمعة ثالثة على الحلم المستحيل.
تقرأ البرنامج الجديد في التعليم الابتدائي في السويد ثم تقفز إلى ذهنك عفاريت التعليم في بلدك، وتصمت بعدها كأنما نظام الحُكم في بلدك صكَّ وجهك وقال : عجوز عقيم!
تتأمل معامل البحوث العلمية في ألمانيا والدانمرك وبريطانيا، فيصيبك دوار كأنك في عُرْض بحر لا نهاية له، وبين أمواج تتسابق لتصفعك على وجهك.
تقابل أبناء بلدك من العلماء والنابغين والموسوعيين فتسألهم عن سبب مغادرتهم الوطن وتكون الإجابة واحدة لا تتغير: لقد طردونا باحتقارهم إيانا، وفتحوا لنا باب الهجرة باغلاق باب دعمنا للوطن، وجعلوا مؤسسات الدولة مقتصرة على المعاقين ذهنيا، وبسطاء العلم والثقافة و .. العقل.
ومع ذلك فيظل المغتربُ يطرح السؤالَ تلو السؤالِ: لماذا لا تتسرطن المزروعات في هولندا؟ لماذا يتم فحص مياه الشرب عدة مرات في اليوم في اليابان؟ لماذا ينحني الآيسلندي في الشارع ليلتقط ورقة ويضعها في صندوق القمامة؟ لماذا يدفع الفنلندي الضرائب عن طيب خاطر؟ وتظل تجمع علامات استفهام حتى يضيق صدرك، فأنت في حالة عشق للوطن، وتريد أن تجمع كل صور التقدم من بلاد الدنيا وتـُـقــَـدِّمها للمسؤولين في بلدك، وتعرف مسبقاً أنهم سيلقون بها في أقرب بالوعة لم تنفجر مواسيرها بعد في شوارع الوطن المسكين.
الهم الاغترابي يبدأ من اهمال وطنك إياك قبل السفر وبعد الهجرة، وعدة ملايين مهاجر لا يستفيد الوطن الأم منهم إلا في التحويلات المالية، أما الأدمغة فمسؤولو الوطن الأم قاموا بمنحها مجانا لدول المهجر، ولو كان الدكتور أحمد زويل، رحمه الله، مُدرِّسا للعلوم في مدرسة ابتدائية بوطننا العربي الكبير، فإن مدير المدرسة سيطرده في الاسبوع الثاني لأنه يُعـَـلـِّـم التلاميذ أشياء خارج المقرر الدراسي.
في الوطن الأم تتسع دائرة الكبرياء المعرفي، ولازلت أتذكر عندما أرادت ابنتي التقدم لجامعة مصرية رغم أن كل الجامعات الاسكندنافية مفتوحة لها، فهنا لغتها وبلدها وتعليمها وثقافتها. طلب مني سكرتير رئيس الوزراء في مصر أن نقوم بترجمة جميع الكتب التي درستها في الثانوية العامة النرويجية بأوسلو للتأكد أن الدول الاسكندنافية بها نظام تعليم متقدم مثل مصر!
اجمع كل أحلامك وتجاربك وما شاهدته في العالم المتقدم وقم بتلخيصه لمسؤول عربي فسيركله بحذائه، وتلك هي المعضلة الكبرى في غطرسة المسؤولين الذين يريدون الاحتفاظ بالتأخر لأنهم لا يتنفسون إلا به و ..فيه.مشكلة المغترب أنه يحلم لوطنه بالأفضل، ولكن أبناء الوطن الأم يظنون أن أحلامهم أبقىَ وأكبر وأكثر واقعية، والحقيقة أنها أحلام متواضعة لا تكفي لبناء قرية صغيرة.
جلست في 8 مايو 1990 في المؤتمر الشعبي للتضامن مع العراق في قلب بغداد الذي حضره 2500 من قياديي الفكر والإعلام والثقافة. بجواري كان يجلس أستاذ جامعي مصري، ولما عرف أنني أعيش في النرويج ضحك ساخرًا وقال لي: لا بد أنك لا تعرف شيئا عما يدور في مصر. ألقيت بعدها كلمة عن السلطة والصحفي كادت تُلقي بي وراء الشمس، فصدام حسين يسمعني، وضجت القاعة بالتصفيق ثمان مرات في ثمان دقائق، وكانت كلمتي آخر عهدي بالعراق!
نحن نحلم لهم ونتمنى الخير للوطن، وهم يظنون أن من يعيش على أرض الوطن أقدر على معرفة شعابه وهمومه وأزماته وحاجياته من المهاجرين والمغتربين في بلاد الدنيا الواسعة!
--- من إدارة المدونة - غناء نجاة وعبد الرؤوف اسماعيل . شعر أحمد مخيمر . ولحن محمود الشريف :
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو النرويج
14-7-2019
المغترب يموت مرتين: عندما يتذكر الوطن الأم و.. عندما ينساه!
الهم الاغترابي الأكبر هو أن الوطن الأم يحتل مساحة كبيرة في الحواس الخمس للمغترب، فهو يسمع وطنه، ويشمه، ويلمسه، ويراه، ويتذوقه، ثم يأخذه معه في كل مكان، فإذا عاد إلى البيت وضعه تحت وسادته ليكمل به أحلامه بأثر رجعي!
تشاهد مستشفى في سويسرا أو النرويج فتتخيلها في وطنك الأم، وإذا أجريت عملية جراحية ولم تدفع شيئا لأن الدولة تتحمل عنك كل المصروفات، تتساقط من عينيك دمعتان على الوطن الأم، ودمعة ثالثة على الحلم المستحيل.
تقرأ البرنامج الجديد في التعليم الابتدائي في السويد ثم تقفز إلى ذهنك عفاريت التعليم في بلدك، وتصمت بعدها كأنما نظام الحُكم في بلدك صكَّ وجهك وقال : عجوز عقيم!
تتأمل معامل البحوث العلمية في ألمانيا والدانمرك وبريطانيا، فيصيبك دوار كأنك في عُرْض بحر لا نهاية له، وبين أمواج تتسابق لتصفعك على وجهك.
تقابل أبناء بلدك من العلماء والنابغين والموسوعيين فتسألهم عن سبب مغادرتهم الوطن وتكون الإجابة واحدة لا تتغير: لقد طردونا باحتقارهم إيانا، وفتحوا لنا باب الهجرة باغلاق باب دعمنا للوطن، وجعلوا مؤسسات الدولة مقتصرة على المعاقين ذهنيا، وبسطاء العلم والثقافة و .. العقل.
ومع ذلك فيظل المغتربُ يطرح السؤالَ تلو السؤالِ: لماذا لا تتسرطن المزروعات في هولندا؟ لماذا يتم فحص مياه الشرب عدة مرات في اليوم في اليابان؟ لماذا ينحني الآيسلندي في الشارع ليلتقط ورقة ويضعها في صندوق القمامة؟ لماذا يدفع الفنلندي الضرائب عن طيب خاطر؟ وتظل تجمع علامات استفهام حتى يضيق صدرك، فأنت في حالة عشق للوطن، وتريد أن تجمع كل صور التقدم من بلاد الدنيا وتـُـقــَـدِّمها للمسؤولين في بلدك، وتعرف مسبقاً أنهم سيلقون بها في أقرب بالوعة لم تنفجر مواسيرها بعد في شوارع الوطن المسكين.
الهم الاغترابي يبدأ من اهمال وطنك إياك قبل السفر وبعد الهجرة، وعدة ملايين مهاجر لا يستفيد الوطن الأم منهم إلا في التحويلات المالية، أما الأدمغة فمسؤولو الوطن الأم قاموا بمنحها مجانا لدول المهجر، ولو كان الدكتور أحمد زويل، رحمه الله، مُدرِّسا للعلوم في مدرسة ابتدائية بوطننا العربي الكبير، فإن مدير المدرسة سيطرده في الاسبوع الثاني لأنه يُعـَـلـِّـم التلاميذ أشياء خارج المقرر الدراسي.
في الوطن الأم تتسع دائرة الكبرياء المعرفي، ولازلت أتذكر عندما أرادت ابنتي التقدم لجامعة مصرية رغم أن كل الجامعات الاسكندنافية مفتوحة لها، فهنا لغتها وبلدها وتعليمها وثقافتها. طلب مني سكرتير رئيس الوزراء في مصر أن نقوم بترجمة جميع الكتب التي درستها في الثانوية العامة النرويجية بأوسلو للتأكد أن الدول الاسكندنافية بها نظام تعليم متقدم مثل مصر!
اجمع كل أحلامك وتجاربك وما شاهدته في العالم المتقدم وقم بتلخيصه لمسؤول عربي فسيركله بحذائه، وتلك هي المعضلة الكبرى في غطرسة المسؤولين الذين يريدون الاحتفاظ بالتأخر لأنهم لا يتنفسون إلا به و ..فيه.مشكلة المغترب أنه يحلم لوطنه بالأفضل، ولكن أبناء الوطن الأم يظنون أن أحلامهم أبقىَ وأكبر وأكثر واقعية، والحقيقة أنها أحلام متواضعة لا تكفي لبناء قرية صغيرة.
جلست في 8 مايو 1990 في المؤتمر الشعبي للتضامن مع العراق في قلب بغداد الذي حضره 2500 من قياديي الفكر والإعلام والثقافة. بجواري كان يجلس أستاذ جامعي مصري، ولما عرف أنني أعيش في النرويج ضحك ساخرًا وقال لي: لا بد أنك لا تعرف شيئا عما يدور في مصر. ألقيت بعدها كلمة عن السلطة والصحفي كادت تُلقي بي وراء الشمس، فصدام حسين يسمعني، وضجت القاعة بالتصفيق ثمان مرات في ثمان دقائق، وكانت كلمتي آخر عهدي بالعراق!
نحن نحلم لهم ونتمنى الخير للوطن، وهم يظنون أن من يعيش على أرض الوطن أقدر على معرفة شعابه وهمومه وأزماته وحاجياته من المهاجرين والمغتربين في بلاد الدنيا الواسعة!
--- من إدارة المدونة - غناء نجاة وعبد الرؤوف اسماعيل . شعر أحمد مخيمر . ولحن محمود الشريف :
تعليقات
إرسال تعليق