كتابات مختارة - من العراق
الناصرية ..ما بعد الشط الخايس
( الناصرية مدينة بجنوب العراق , وكلمة الخايس , لمن لا يعرفون اللهجة العراقية , معناها : التالف )
الكاتب : نعيم عبد مهلهل
الحوار المتمدن-العدد: 5299 - 2016 / 9 / 29
يقع الشط الخايس في الجهة الشرقية من مدينة الناصرية وعلى امتداد شارع عشرين من منطقة المعارض وحتى مقبرة الصابئة ، وهو الحد الفاصل بين المدينة المتحضرة والمدينة الفقيرة التي كانت تمثلها مدينة الصرائف والتي تسمى قرية فرحان .
وقد تكونَ الشط الخايس من مياه مجاري المدينة الثقيلة ، وكان ماءه اخضراً وثقيل ومليء بالفضلات والحيوانات الميتة ، وكنا نعبره كل يوم قفزا او عبر جسر من اطارات السيارات ونحن نذهب الى منطقة تسمى ( الجول ) حيث الفضاءات المفتوحة وساحات كرة القدم. وكان يسورها مرتفع من التراب كنا نسميه ( الروف ) ، وما بعد الروف يبدا الفضاء يفتح اذرعا من مساحات فارغة تحولت بسبب انتعاش الاقتصاد العراقي بعد تأميم النفط الى مناطق سكنية وزعت على المواطنين والموظفين مثل الصالحية وسومر ومدينة البكر .
لن تختفي الاساطير والحكايات الخرافية عن ذلك الجول .الذي يقال ان اي شخص لا يمكن السير اليه ليلا سوى اللصوص و الطناطل التي كانت جداتنا تستدعيهم ليصنعوا الخوف في قلوبنا وننام ، ومن ينام في السطح صيفا سيسمع من هناك أصوات الكلاب واصوات غريب لريح تحمل التراب والصمت والجهة المظلمة التي تلف خاصرة المدينة على امتداد اكثر من ثلاثة اميال ولا يحرسنا من رعب ليلها وخفاياها سوى القبة الزرقاء للسيد جابر التي تتوسط منطقة قرية فرحان وبقيت الى اليوم تتوسط الصالحية .
فشلت كل محاولات البلديات لردم الشط الخايس حتى بعد الاستنكار التي قدمته المدارس الابتدائية القريبة منه ( الشرقية والنضال والكاظمي ) من انه بسبب رائحته الكريهة والحيوانات النافقة يسبب امراضا كثيرة لتلاميذها لاسيما ان بعض التلاميذ الفقراء كانوا يسبحون فيه صيفا ، وبسبب الشط كانت امراض البلهارزيا والزحار والتراخوما تنتشر بين الاطفال الفقراء من ابناء قرية فرحان وشارع عشرين.
حاول المرحوم المحامي شاكر الغرباوي ردمه عندما كان رئيسا لبلدية الناصرية ، لكنهم لم يجدوا بديلا لتصريف المياه الثقيلة حتى بعد ان تم في بداية سبعينات القرن الماضي جلب شركة دنماركية وهندية وتأسيس مشروع شبكة الماء ومجاري مركز المدينة ، اذا بقيت مياه الصرف الصحي القادمة من قرية فرحان تملأ هذا الشط.
وبالرغم من عفونة المكان إلا أنه جزء من سحر طفولتنا وجماليتها ، وكان مذخرنا الذي نجلب منه الأسلحة والاعتدة عندما كنا نريد ان نلعب لعبة نقلد فيها ابطال أفلام الكابوي ( رنكو وجانكو وترنتي ) وهم يضعون مسدساتهم في احزمتهم .
وكانت مسدساتنا هي عبارة عن فك عظمي لكلبٍ ميت مرمي بكثرة في منطقة الجول حيث تعيش مئات الكلاب السائبة وهي تعيش على الفضلات والازبال التي كانت ترميها سيارات البلدية او فضلات الحيوانات المذبوحة في المسلخ الذي كان يقع في نهاية قرية فرحان ، وقد عشت في هذا المكان زمنا عندما كنت ارافق والدي الذي تعين فيه حارسا لأنه كان تابع للبلدية.
ما بعد شط الخيسة ، هو عالم الفقراء بامتياز ، عالم مرحنا النهاري في طفولات لعب ( الطوبة ) حيث الهواء المفتوح والمدى الذي يذهب بك الى امكنة لا تسير فيها سوى أباعر البدو والاعراب لتلوح لك من بعيد قرية الزهيرية وبساتين السديناوية .
في التسعينيات تم ردم الشط ، وتحول المكان الى شارع خدمي عريض ، وبعد 2003 .تحول الى شبكة من الطرق الحديثة وسموه شارع إبراهيم الخليل .
بين شط الخايس وفوضى المكان الان حيث سوق هرج تبقى أحلام الفقراء تبحث عن هدوء المكان وفيلات فخمة يعيشون فيها كما ساسة اليوم .
ولكنهم لن يجدوها سوى في الجنة......!
نهر الغراف بالناصرة
============
تعليقات
إرسال تعليق