موت نجم تنويري , و نجم الموت الفضائي يمزق كوكباً


                                                               في قناة   RT

               نشروا , يوم 25-10-2015 , خبرا فضائياً  بعنوان " نجم الموت يمزق كوكباً " نقتطف منه :  قد تكون المحطة الفضائية "نجم الموت" في فيلم "حرب النجوم" أمرا خياليا. لكن تفكيك الكوكب هو أمر واقعي.
وأعلن علماء الفلك مؤخرا عن اكتشاف جرم فضائي صخري كبير الحجم يتفكك إلى شظايا مقتربا في مداره البيضوي من قزم أبيض بعيد.
وقد تم اكتشاف هذا النظام الفضائي النادر بواسطة مرصد "كيبلر كا 2" التابع لوكالة ناسا الذي أوكلت إليه مهمة رصد النجوم بغية اكتشاف انخفاض توهجها لدى اقتراب أجرام فضائية منها ... "
 -- أما علي الأرض ,, فيتساءل , الباحث والكاتب - والطبيب - د. سيتي شنودة  , ان كان الأشرار قد قتلوا النجم التنويري ( الذي لم تسلط عليه مراصد الاعلام , ما يستحق من تلسكوباتها ) " علي مبروك " ؟؟  بقوله في الفيسبوك :هل قامت الأجهزة الأمنية المصرية بقتل المفكر الكبير الدكتور على مبروك , لمنعه من الإستمرار فى تقديم مشروعه التنويرى للشعب المصرى , خاصة ان وفاته كانت تحوم حولها شكوك كثيرة ..!!؟؟؟؟؟؟ وذلك تعليقاً علي ما نشر عنه بموقع " البوابة " وننقل نصه :      
                                           قذائف علي مبروك
                                
 

نقلاً عن موقع " البوابة "  - 14-9-2014

رحل على مبروك قبل أن ينهى مشروعه «نزع أقنعة التقديس»، فلا يزال البشر يمنحون بعضهم قداسة من ورق، والفيلسوف، الذى كان يفضّل الصمت، لا يشعر بأنه نجح إلَّا حين ينتقل من النظرية إلى التطبيق، فالعالم يحسب له نجاحه بالنتائج لا التفاصيل. يمكن أن تقول إن «مبروك» رحل إلى صحبة الأساتذين، نصر حامد أبوزيد، الذى تتلمذ على يديه، وعاونه في مشروعه الفكري، وجورج طرابيشي، الذي التقط من أفكاره نقد نقد الأفكار الأصولية– والتكرار مقصود– فقد وظَّف دراسته الفلسفة باعتبارها مشروعًا نقديًا متراكمًا لوضع نقد الثقافة العربية على الشيزلونج وإعادة تحليله، وعلاجه نفسيًا، وفكريًا. يسجِّل على مبروك في كتاباته وحواراته السابقة أهم آراءه، وأفكاره، عن الدين، والتنوير، والمفكرين.. وتعرض «البوابة» أبرزها.
                                                                   دكتور علي مبروك

الأزهر والتجديد.. من الخديو إسماعيل إلى «السيسى»
بعد أن كانت مصر قد طلبت من شيوخ مؤسستها الدينية أن يصلحوا لها أمر فقهها، فإنها لم تعد تقبل منهم بأقل من ثورة فى التعاطى مع موروثها الدينى على العموم.
وهكذا فإنه إذا كان المجددون فى القرن التاسع عشر قد اكتفوا بمجرد طلب الإصلاح، فإن ورثتهم فى القرن الحادى والعشرين قد بلغوا إلى الدعوة من أجل الثورة بعد أن بدا لهم أن مرور أكثر من قرنٍ على طلب الإصلاح وممارسته لم يتمخض إلا عن انبعاثاتٍ متواترة لبراكين من العنف الدموى التى باتت تمثل خطرًا داهمًا على السلم الأهلى فى المجتمعات الإسلامية، بل على السلم فى العالم بأسره. واللافت للنظر فى الحالين أن الدولة كانت هى التى تبادر إلى طلب الإصلاح أو الثورة من المؤسسة التى جعلت من نفسها مجرد حارس على التقليد الدينى الموروث.
يروى الأستاذ الإمام محمد عبده - بحسب ما ورد فى تاريخه الذى كتبه رشيد رضا - أن الخديو إسماعيل كان هو الذى طلب فى القرن التاسع عشر من شيخ الأزهر وعلمائه أن يعملوا على تأليف كتاب فى الحقوق والعقوبات موافق لحال العصر، سهل العبارة، مُرتب المسائل على نحو ترتيب كتب القوانين الأوروبية، وكان رفضهم هذا الطلب هو السبب فى إنشاء المحاكم الأهلية التى جرى العمل فيها بقوانين فرنسا.
ورغم أن الحكومة قد أبقت على المحاكم الشرعية (التى يجرى العمل فيها بأحكام الفقه الموروثة) إلى جوار المحاكم الأهلية (التى يجرى العمل فيها بقوانين فرنسا)، فإنه قد ظهر للناس - كما يقول الإمام - أن المحاكم التى يجرى العمل فيها بقانون فرنسا كانت أضمن للحقوق وأقرب للإنصاف من المحاكم التى تسند شريعتها للوحى السماوى، حتى كان علماء الأزهر وشيخه الأكبر يتحاكمون إليها بأنفسهم. وبالرغم من أن ذلك كان لابد أن يدفع بهؤلاء الشيوخ إلى التفاعل الايجابى مع دعاوى الإصلاح، فإنهم قد ظلوا - كما يقول الإمام - عقبة فى طريق الإصلاح الذى لابد من التأكيد على أن غيابه كان - على عكس ما يجرى الترويج له - هو المسئول عن إسقاط حكم الشريعة. 
وكالمُتوقع فإن هؤلاء الشيوخ لم ينظروا إلى عجزهم عن التفاعل مع دعوى الإصلاح على أنه جمودٌ هو المسئول عن إسقاط حكم الشريعة، بل اعتبروه من قبيل حماية الدين وحفظ الشريعة. 
ولعل جوهر الدرس هنا يتمثل فى أن التقاعس عن إنجاز الإصلاح لا يؤدى فقط إلى إعاقة التقدم الحاصل فى حياة الناس، بل إنه يؤدى إلى تهديد الموروث الدينى الذى تقوم المؤسسة على حراسته، وبما يهدد وجود المؤسسة ذاته.
وبعد أكثر من قرن ونصف القرن على طلب الخديو إسماعيل من المؤسسة إصلاح الفقه، فإن الرئيس السيسى هو الذى يدعو الآن إلى ثورة فى الموروث الديني. ورغم ما جرى من إعلان شيخ الأزهر وعلمائه للتجاوب مع هذه الدعوة إلى الثورة وتجديد الخطاب الدينى، فإنه يبدو - ولسوء الحظ - أنهم لا يملكون ما هو أكثر من مجرد إعلان النوايا الطيبة

ويرتبط ذلك بأنه إذا كانت الثورة فى الدين وتجديد خطابه هى عملٌ معرفى فى الأساس، فإن عملًا كهذا يستلزم ممن يتصدون له أن يمتلكوا المنهجيات والأدوات المعرفية التى يتمكنون معها على إنجازه. 
ولسوء الحظ، فإن ما يصدر عن رجال المؤسسة إنما يكشف عن أنهم قد اختاروا الأيسر، حيث اكتفوا بمجرد ترديد المفاهيم من دون أدى وعيٍ بحمولاتها المعرفية التى يستحيل للمفاهيم أن تنتج فى غيابها.
وكمثالٍ، فإنهم إذا كانوا لا يتوقفون عن ترديد مفهوم الخطاب - وهو أحد أكثر المفاهيم ثراءًا وخصوبة فى سياق التطورات المعرفية المعاصرة - فإنهم يستخدمونه بدلالة لا يتجاوز معها حدود مجرد الخطابة، وبحيث يبدو وكأن تجديد الخطاب لا يتجاوز مجرد تحديث الخطابة وأسلوب القول. إن ذلك يعنى أنهم لن يتجاوزوا ما فعل أسلافهم - على عصر الخديو إسماعيل - الذين قبلوا بالتحاكم إلى محاكمه الأهلية الحديثة، ولكن مع الرفض الكامل للاقتراب من الموروث. 
وبالمثل فإن الشيوخ الآن قد قبلوا بترديد مفاهيم الخطاب والتجديد والثورة وغيرها، ولكن مع تفريغها من دلالاتها على النحو الذى يظل معه الموروث الدينى قائمًا على حاله. وهنا فإنه إذا كان جمود الشيوخ الأوائل قد أدى إلى إسقاط الشريعة، وعلى النحو الذى اضطر معه الخديو إسماعيل إلى العمل بشريعة نابليون، فإن مراوغة الشيوخ الحاليين لن تؤدى إلا إلى استمرار أصول التطرف والعنف قائمة على حالها.
وهنا يلزم تبيين الفارق بين مصر التى كانت فى القرن التاسع عشر فى حاجة إلى مجرد إصلاح الفقه، وبين مصر التى تطلب الآن ثورة فى التعاطى مع الموروث الدينى كله. 
ولعل الفارق يتمثل فى أنه بينما كانت مصر فى ابتداء مغامرتها الحديثة مع الخديو إسماعيل فى حاجة إلى مجرد نظامٍ قانوني - إجرائى يتسع لضروبٍ من المعاملات الرأسمالية التى كانت تنخرط فيها آنذاك، فإنها تبدو الآن فى مسيس الاحتياج إلى نظامٍ عقلي - تأسيسى تتمكن به من الاندماج الفاعل والمنتج مع الحداثة.
وهنا يلزم التنويه بأن ضرورة الثورة على التقليد الدينى الموروث تأتى من أنه قد أنتج عقلًا مولِّدًا للعنف لكونه غير قادرٍ على إدماج المسلمين فى العصر، لأنه ليس عقل إبداع، بل عقل تفكير بأصلٍ أو نموذجٍ جاهز. 
فإن هذا العقل هو النتاج النهائى لطريقة فى التعامل مع الوحى، لا على أنه نقطة بدء ينطلق منها الوعى إلى فهم العالم والتأثير فيه، بل بوصفه سلطة لا بد من الخضوع لها. ولسوء الحظ فإن هذه الطريقة فى التعامل مع الوحى على أنه سلطة هى التى حددت بناء التقليد الدينى الموروث والسائد فى المجتمعات الإسلامية. وليس من شكٍ فى أن عقلًا يشتغل بنموذجٍ جاهز لن يعرف إلا أن يتنزَّل على واقعه بهذا النموذجٍ المكتمل الجاهز على نحو إكراهى وقسرى لابد أن يكون هو الرافد المُغذى لكل ضروب الإكراه والعنف التى تسود عوالم العرب. وهكذا فإن ثورة على التقليد الدينى الموروث هى فى جوهرها ثورة من أجل عقلٍ جديد تحتاج إليه مصر الآن.

قول آخر فى تجديد الخطاب الدينى

رغم ما يدنو من القرنين على ابتداء الانشغال بتجديد الدين وخطابه فى العالم العربى، فإن هذا التجديد وككل شيء فى هذا العالم التعيس قد أخلف وعده وآلت مصائره إلى الإخفاق مكتملًا وشاملاً،
وعلى النحو الذى ظهر جليًا مع الصعود الكاسح فى عقب ثورات العرب لجماعات الإسلام السياسى التى هى على نحوٍ ما الوريث التاريخى لمحاولات التجديد الممتدة منذ القرن الثامن عشر. فقد بدا أن هذه الجماعات قد ارتدت ناكصةً إلى ما يمكن القول إنه إسلام ما قبل العقل، الذى هو إسلام الانفعالات والتعصبات والغرائز الأولية الذى جعل من دول الثورات ساحة للإقصاء والدماء.وإذ يبدو أن بعضًا من علل الإخفاق وسوء المآل، إنما يرتبط بالتباس المفاهيم وعدم انضباط دلالتها، والمضمون الفقير للعلاقة فيما بينها، فإن ذلك يئول إلى ضرورة البدء من ضبط المفاهيم وتحريرها من عبء التشوّه والالتباس، وهو التشوّه الذى يطال لسوء الحظ دلالة الثلاثى المفاهيمى (التجديد- الخطاب- الدين) الذى يتركَّب منه هذا العنوان الرئيسي: «تجديد الخطاب الديني». وإذن فالأمر يتعلق بوجوب إعادة النظر، ليس فقط فى الدوال اللفظية الثلاثة التى يتألف منها هذا العنوان، بل فى طبيعة العلاقة التى تقوم- بحسب ما يكشف التحليل بينها، والتى هى علاقة المجاورة. ولسوء الحظ، فإن «المجاورة» هى أبسط أشكال العلاقة وأكثرها فقرًا، إذا جاز أصلًا أنها علاقة. إذ الحق أن تلك «المجاورة»، وأعنى من حيث هى آلية الخطاب العربى الرئيسة فى مقاربة مفاهيمه وترتيب العلاقة بينها، هى أحد أهم الجذور المُغذية لأزمته الضاغطة التى لا يزال يتخبط فيها. حيث المجاورة لا تحيل إلى ما هو أكثر من أن مفهومًا يقف إلى جوار آخر، وبما يعنيه ذلك من أن العلاقة بينهما هى علاقة خارجية محضة. وغنيٌّ عن البيان أن كون العلاقة بين مفهومين، أو أكثر، هى ذات طابع «خارجي» إنما يعنى أن الواحد منهما يظل وحدة مصمتة ومغلقة على ذاتها، وبحيث لا يكون ممكنًا أن ينفتح الواحد منها على الآخر مؤثرًا فيه ومتأثرًا به فى سياقٍ تفاعلى، يسمح للمفهوم أن يتخارج من ذاته ليتواصل مع الآخر، بدل أن يتناحر معه بحسب ما هو حاصلٌ حتى الآن. وضمن سياق هذه العلاقة التجاورية التى تعد الأكثر صورية وفقرًا لأن المفهوم، فى إطارها، لا يملك إلا أن يقوم إلى جوار غيره، منكفئًا على ذاته، ومسجونًا داخل أسوار عزلته فإنه لابد من توقُّع أن يكون التجديد مجرد عملٍ خارجى لا يطال أبدًا ما يتعدى حدود سطح الخطاب، وبمعنى أنه لا يتجاوز كونه مجرد طلاءٍ يستهدف «التجميل» وليس فعلًا معرفيًا يصنع «التغيير». ويرتبط ذلك بأن فعلًا يستهدف «التغيير» حقًّا، لابد له من تجاوز السطح إلى ما يقوم تحته من الأصول العميقة المؤسِسة. 


وابتداء من ذلك، فلعله يجوز القول بأن المأزق الأعتى لما جرى الاصطلاح على أنه خطاب التجديد إنما يتأتى من أنه لم يتجاوز حدود القول المعلن على السطح (أو المضمون المباشر) إلى ما يرقد تحته من الرؤى والتصورات الحاكمة. إذ يبدو أن عدم الوعى بهذه الرؤى والتصورات الحاكمة هو ما سيجعل المجددين المسلمين لا يفعلون تقريبًا إلا محاولة إجبار ما ينتمى إلى مجالٍ بعينه على الوقوف إلى جوار ما ينتمى إلى مجالٍ مغاير أو حتى مناقضٍ له بالكلية. وليس من شكٍ فى أن ذلك، بالذات، هو ما سيجعل الطهطاوى يضع «تدبير السياسة الفرنساوية» القائم على «إن ملك فرنسا ليس مطلق التصرف، وإن السياسة الفرنساوية هى قانونٌ مقيَّد»، إلى جوار «تدبير الدولة المصرية» القائم على «إن للملوك فى ممالكهم حقوقًا تسمى بالمزايا، فمن مزايا الملك أنه خليفة الله فى أرضه، وأن حسابه على ربه، فليس عليه فى فعله مسئولية لأحدٍ من رعاياه». ولقد كان ذلك بمثابة التجسيد الفعلى- فى مسألة بعينها- لحقيقة أن الطهطاوى لم يفعل على العموم إلا أنه طلب من التراث الأشعرى أن يرقد فى سلام، كمكوِّن جوانى، تحت زخارف الممارسة الحديثة، كمكوِّن برانى، ليتشاركا معًا فى بناء خطابه الذى لا يزال يشتغل فى عالم العرب للآن. وهكذا فإن مبدأ «التحسين والتقبيح العقليين»، ذى الأصل المعتزلى، الذى استخدمه الطهطاوى كجسرٍ ينقل بواسطته ممارسة المُحدثين إلى عالمه، قد كان عليه أن يتجاور مع مبدأ «نفى السببية» الأشعري، القاضى بأن «التأثير فى الحقيقة للمولى سبحانه وتعالى وأن إطلاق لفظ المؤثر على السبب إنما هو باعتبار الظاهر». وكان ذلك يعنى أن ما يستحيل قيامه إذا غابت السببية (وهو مبدأ التحسين والتقبيح العقليين) عليه أن يشتغل إلى جوار مبدأ «نفى السببية» المناقض له، وعلى النحو الذى بدا معه أنه خطاب النقائض المتجاورة.
ولعل هذه النقائض المتجاورة هى ما ستقوم وراء ما فعله الأستاذ الإمام محمد عبده من وضع عقيدة الأشعرية (فى الصفات) إلى جوار اعتقاد المعتزلة (فى العدل)، فى محاولته الرائدة لتجديد علم العقائد التى باشرها فى «رسالة التوحيد». وذلك فضلًا عن أنه قد كان بعينه هو ما تقصد إليه الدعوة إلى «فتح باب الاجتهاد» التى لم تكن تعنى إلا محاولة ترميم البنية القديمة، مع استمرار التفكير من داخلها قائمًا هو نفسه. وهنا يلزم التنويه بأن استمرار التفكير ضمن ذات البنية القديمة قد كان من أهم العوائق التى حالت دون انتاج «تجديدٍ» فعَّال يخرج بواقع العرب من أزمته. إذ تظل البنية الكلية قادرة، ليس فقط على تحييد كل اجتهادٍ جزئى، بل تحويله إلى أحد العناصر التى تطيل بها أمد بقائها، وذلك بسبب ما تخايل به من قدرتها على التجاوب الدائم مع كل جديدٍ ومُستحدث. وهكذا تنكشف الطريقة التى انفتح بها «باب الاجتهاد»- فى العصر الحديث- عن مفارقة «التجديد» الذى يئول إلى إطالة أمد بقاء «القديم»، بل حتى إدامة وجوده.
«التقديس» و«التجريس»
تتوقف جوهرية الحاجة لتجديد التراث على تعيين طبيعة الوضع الذى تواجهه الآن مصر- والعرب عموماً- من جهة، وعلى بيان نوع العلاقة بين هذا الوضع وبين التراث من جهة أخرى.
وبخصوص الوضع الذى يجابهه العرب الآن، فإنه يبدو أنهم يواجهون أزمة ممتدة على مدى قرنين منذ مطالع القرن التاسع عشر وحتى الآن، وأن هذه الأزمة تتعلق- على نحو جوهرى- بطبيعة النظام الذى يشتغل به عقل العرب. ولعل الارتباك الحاصل فى المشهد الممتد على مدى السنوات الأخيرة منذ اندلاع ما يُسمى بثورات الربيع العربى لما يؤكد على الطابع العقلى للأزمة العربية المسيطرة. فقد كان العرب يتصورون أن أساس أزمتهم يكمن فى «النظام السياسى»، الأمر الذى يعنى أن خروجهم من الأزمة مشروطٌ بإسقاط هذا النظام. لكنه بدا أن إسقاط «النظام السياسى» لم يتمخض عنه التغيير المطلوب للخروج من الأزمة، وبما كان لابد أن يدفع فى اتجاه التأكيد على أن «النظام العقلى» هو حجر الأساس فى بناء الأزمة العربية. وغنيٌّ عن البيان أن «التراث» الخاص بأى جماعة أو أمة هو بمثابة الإطار الذى ينشأ «العقل» ويتبلور داخله. وهكذا فإنه إذا كان عقل العرب الراهن يشتغل بطريقة يكون معها خاضعًا لسلطة أصل أو نموذجٍ جاهز، فإن هذا العقل هو النتاج المباشر لما ساد فى التراث الإسلامى من طريقة فى التفكير بالأصل أو النص. وليس من شكٍ فى أن هذا العقل المهيمن يظل هو المحدد لكل ما يغلب على الممارسة العربية الواقعية من التقليد فى الدين والاتباع فى المعرفة والإذعان فى السياسة، والأبوية فى الاجتماع، والتبعية فى الاقتصاد.
وترتيبًا على ما سبق، فإنه يمكن استنتاج أنه إذا كان الخلاص من الأزمة العربية الراهنة مشروطٌا بنقد عقل العرب وتفكيكه على النحو الذى يفتح الباب أمام انبثاق عقلٍ جديد، فإن التراث- الذى تحققت له السيادة فى الإسلام- سوف يكون هو الساحة الرئيسية التى يتحقق فوقها هذا العمل النقدي. إن ذلك يعنى أن تجديد العقل، الذى هو الشرط اللازم للخروج من الأزمة- هو أمرٌ موقوفٌ بالكلية على نقد التراث.وبالطبع فإن المعيار الذى سيعيِّن حدود المسموح والممنوع فى هذا النقد لن يكون إلا ما يؤدى إلى فتح الباب أمام عقلٍ عربى جديد.

وهكذا فإن نقطة البدء فى التجديد إنما تنطلق من الوعى العميق بالجوهر العميق للأزمة التى يعيشها العرب أولًا. فمن دون هذا الوعى سيظل كل تجديد مجرد ثرثرة يدير فيها بعض الناس ألسنتهم بمفردات فارغة وخالية من المعنى. وإذا جاز أن الأزمة الراهنة تضرب بجذورها- كما سبق القول- فى طبيعة النظام العقلى المهيمن، فإن ذلك يستدعى أساليب فى الاشتغال ذات طابعٍ معرفى. لكنه يبدو- ولسوء الحظ- أن غياب الوعى بهذه الطبيعة العقلية للأزمة العربية الراهنة قد جعل البعض- من الذين لا يقدرون على الخروج من دائرة «التقديس»- لا يجاوز بالتجديد حدود تحديث اللغة وأساليب القول، بينما لا يعرف الآخرون- من الذين اختاروا أن يقيموا تجديدهم على آلية «التجريس»- إلا أن يصبوا لعناتهم على بضع نصوصٍ وشخوص يجرى التعامل خارج أى سياقات معرفية وتاريخية. وبالطبع فإن ذلك يعنى أن التجديد «تقديساً» أو «تجريساً» لن يكون قادرًا على إخراج العرب من أزمتهم، بل إنه سوف يؤدى إلى مفاقمتها للأسف. حيث الأمر يستلزم تجاوز مواقف «الدفاع» تقديسًا أو «الهجوم» تجريسًا التى هى مواقف انفعالية بالأساس، إلى «النقد» الذى هو فعلٌ معرفى يعنى الوعى بالحدود المعرفية والتاريخية التى تؤطر الظاهرة المدروسة، سواء كانت التراث أو غيره. إن الوعى بتلك الحدود يجعل المرء لا يطلب من الظاهرة أن تعطيه ما لا تقدر على أن تقدمه له، كما تجعله لا يحمِّلها مسئولية ما لا يصح تحميله عليها.
ولسوء الحظ، فإن التقارع الحاصل بين الفرقاء المتحاربين بالتقديس أو التجريس قد أدى إلى تغييب النقاش حول المسائل الكبرى التى لا سبيل للخروج من الأزمة إلا بنقدها وتجديد القول فيها. وهكذا فإن هؤلاء الفرقاء قد انهمكوا- على نحوٍ كامل- فى استعادة العراك القديم حول «الجرح والتعديل»، وبحيث بدا وكأن رفع الغُمة عن كاهل الأمة موقوفٌ على مجرد جرح «راوٍ» أو «تعديل» رواية. لم يعد الأمر متعلقًا بفحص السياقات التى أدت إلى تحول «المنظومة الخبرية» بأسرها إلى سلطة لها قوة إلزام الوحى، واقتصر الأمر على جرح بعض الرواة وتعديل بعض الأخبار. والحق أن المشكلة ليست فى مجرد تضعيف «خبر» بعينه أو فى جرح الناقل له، بل فى تحول المنظومة الخبرية إلى قوة لها سلطة الوحى وإلزامه.
وضمن هذا السياق فإنه يلزم التنويه بأن إرهاصات هذا التحول قد بدأت بعد غياب جيل الصحابة الذين تميز تفكيرهم بسمتين جوهريتين سرعان ما غابتا على نحوٍ كامل. تتمثل السمة الأولى فى «الإقلال من الرواية»، وإلى حد معاقبة من يُكثرون منها بمثل ما عاقب عمر بن الخطاب أبا هريرة لإكثاره من الرواية، وأما السمة الثانية فإنها تتعلق بإلحاحهم على النظر إلى ما يصدر عنهم من تقريرات على أنها مجرد آراء تخصهم، وليس لها قوة إلزامٍ مطلقة. وللغرابة، فإن هاتين السمتين قد غابتا عن تفكير اللاحقين الذين لم يكتفوا بالإكثار من الرواية، بل ونظروا إلى تقريرات الصحابة لا على أنها آراء تخصهم، وإنما باعتبارها إجماعاتٍ لها نفس قوة إلزام الوحى ذاته. ولقد بدأ هذا التحول فى الحصول قبل ظهور البخارى بوقت طويل، ولم يكن البخارى إلا متجاوباً- بكتابته لصحيحه- مع الاحتياج لتدوين تلك المنظومة الخبرية وحراستها، بعد أن كانت قد تحولت عند السابقين عليه إلى أصلٍ كالوحي.
وهكذا فإن البخارى لم يكن هو الذى حوَّل المنظومة الخبرية إلى سلطة، بقدر ما إن عمله كان، هو نفسه، نتاج تحوّلها إلى سلطة. وإذن فالبخارى هو ذروة سيرورة تاريخية ابتدأت قبل ما يزيد على أكثر من قرن على ظهوره، ولم يكن هو صانع هذه السيرورة. وبالطبع فإن فعل التجديد ينبغى أن يسعى إلى تفكيك الكيفية التى أصبحت معها المنظومة الخبرية أصلًا كالوحى، وليس الانشغال ببعض مروياتها ورواتها، وهو للأسف ما ينهمك فيه مجددو مصر، أو بالأحرى مثرثروها.
لماذا أخفق الإصلاح الدينى رغم كـل المحاولات؟
إذا كان الانشغال بالمسألة السياسية هو الأصل فيما أصاب خطاب النهضة العربية الحديثة، على العموم، من الإخفاق والعجز، فإنه يجوز تصوّر أن يكون هذا الانشغال ذاته هو الجذر الغائر لما طال الإصلاح الدينى فى الإسلام من العجز والإخفاق ذاتهما. ويتفرع ذلك عن حقيقة أن الإصلاح الدينى قد نشأ، هو نفسه، بوصفه أحد الصور- أو حتى الأقنعة- التى يشتغل بها، ومن ورائها، خطاب النهضة العربية الحديثة. وبالطبع فإن ذلك يلزم عنه أن يتحدد الإصلاح بذات المحددات الحاكمة لخطاب النهضة على العموم، بمعنى أنه إذا كانت السياسة هى المحدد الحاكم لخطاب النهضة الحديثة، فإنها قد راحت تمارس ضغوطها على الإصلاح وتوجه خطابه على نحوٍ شبه كامل. ولسوء الحظ، فإن هذه الضغوط السياسية على الإصلاح قد انتهت به إلى المآلات التعيسة التى انتهى إليها كل شيء فى العالم العربي، حيث لم يحصل منها العرب إلا على «الإسلام السياسى» الذى استحال إلى راية سوداء تحارب تحت ظلالها الفيالق المنفلتة الهائجة التى تنخرط الآن فى نشر الخراب والفوضى فى مشرق العالم العربى ومغربه.
ويرتبط ذلك بما تؤول إليه السياسة من إجبار الخطاب، الذى تصبح مركزًا له، على الانشغال بكل ما هو «إجرائى»، على حساب ما يمكن القول إنه الإهدار الكامل لما هو «تأسيسى». وهكذا، فقد وجهت السياسة خطاب النهضة العربية الحديثة إلى الوقوف عند محض الجوانب الإجرائية فى الحداثة الأوروبية التى اصطدم معها عند بداية القرن التاسع عشر، بمعنى أنه لم يعرف إلا مجرد استهلاك منتجاتها البرانية الصلبة. وكان ذلك، بالطبع، على حساب الإهمال شبه الكامل للقيم والمبادئ التأسيسية الكبرى التى هى الأساس الجوانى الذى أنتج الحداثة نفسها. وهكذا مثلًا، فإن الخطاب قد انشغل باستهلاك المنتج النهائى للعلم الحديث، من دون أن ينشغل بامتلاك «العقل الحديث» بوصفه المبدأ التأسيسى الذى قام عليه بناء هذا العلم نفسه. بل إن الخطاب قد راح يجاور بين استغراقه فى استهلاك المنتجات البرانية للعلم الحديث، واشتغاله بذات «العقل التقليدى» الموروث. ولقد كان من الحتم أن تصبح «التلفيقية»- والحال كذلك- هى السمة الجوهرية لخطاب النهضة، وبالكيفية التى كان لابد أن تنتهى به إلى مآلاته التعيسة.
فإنه ليس من شكٍ فى أن هذه «التلفيقية» هى ما ستجعل الطهطاوى يضع «تدبير السياسة الفرنساوية» القائم على «إن ملك فرنسا ليس مطلق التصرف، وإن السياسة الفرنساوية هى قانونٌ مقيَّد»، إلى جوار «تدبير الدولة المصرية» القائم على «إن للملوك فى ممالكهم حقوقًا تسمى بالمزايا، فمن مزايا الملك أنه خليفة الله فى أرضه، وأن حسابه على ربه، فليس عليه فى فعله مسئولية لأحدٍ من رعاياه». ولقد كان ذلك بمثابة التجسيد الفعلي- فى مسألة بعينها- لحقيقة أن الطهطاوى لم يفعل على العموم إلا أن طلب من التراث الأشعرى أن يرقد فى سلام، كمكوِّن جوانى، تحت زخارف الممارسة الحديثة، كمكوِّن برانى، ليتشاركا معًا فى بناء خطابه الذى لا يزال يشتغل- فى عالم العرب- حتى الآن. وهكذا، فإن مبدأ «التحسين والتقبيح العقليين»، ذو الأصل المعتزلى، الذى استخدمه الطهطاوى كجسرٍ ينقل بواسطته ممارسة المُحدثين إلى عالمه، قد كان عليه أن يتجاور مع مبدأ «نفى السببية» الأشعري، القاضى بأن «التأثير فى الحقيقة للمولى سبحانه وتعالى، وأن إطلاق لفظ المؤثر على السبب إنما هو باعتبار الظاهر». وكان ذلك يعنى أن ما يستحيل قيامه إذا غابت السببية (وهو مبدأ التحسين والتقبيح العقليين) عليه أن يشتغل إلى جوار مبدأ «نفى السببية» المناقض له، وعلى النحو الذى بدا معه أنه خطاب النقائض المتجاورة.
ولقد راحت هذه التلفيقية نفسها تضرب خطاب الإصلاح الدينى بقوة، وإلى الحد الذى انتهى به إلى نهاياته الدامية التى يتردى فيها العرب الآن. وهنا، فإنه إذا كانت هذه التلفيقية قد ظهرت صافية عند رجل الإصلاح الأول (جمال الدين الأفغاني) ابتداءً من الهيمنة الكلية للمسألة السياسية على خطابه، فإن خفوت صوت السياسة عند تلميذه محمد عبده قد جعل التلفيقية عنده أقل بروزًا مما هى عليه عند أستاذه. وإذ سيعود صوت السياسة زاعقًا مع رشيد رضا (تلميذ الأستاذ الإمام)، بسبب التطورات التى ستبلغ ذروتها مع إعلان سقوط الخلافة، فإن الأمر سيتجاوز- مع ورثة رضا- مجرد البناء «التلفيقى» إلى الانقلاب من «الإصلاح» إلى «الإسلام السياسى».
فإذ بدا للأفغانى أن من سمّاهم «المغفلين من الإفرنج»، يردون ما يعيشه «المسلمون من فقرٍ وفاقة وتأخر فى القوى الحربية والسياسية عن سائر الأمم»، إلى الإسلام وعقائده، فإن سعيه إلى دفع هذا الاتهام قد جعله يتبنى آلية اعتذارية تقوم- على نحوٍ أساسي- على تصور أن ما يرد إليه الإفرنج «تأخر المسلمين» ليس هو الإسلام/الأصل، بقدر ما يمثل نوعًا من الإسلام/ المُحرَّف/ المُشوَّه الذى صنعته عصور الانحطاط. وكالمُتوَقع، فإنه يمكن تصوُّر أن استعادة هذا الإسلام/الأصل النقى تمثل جوهر ما يُقال إنه خطاب الإصلاح الذى انشغل بتجديد الإسلام فى القرن التاسع عشر.
وإذ الإسلام/الأصل هو إسلام ما قبل التأويل، فإنه يبدو- لسوء الحظ- أن تحليلًا لتفكير رجل الإصلاح يكشف عن أن الإسلام المُستعاد عنده لم يكن الإسلام/ الأصل (على فرض أن هناك مثل هذا الإسلام حقاً)، بقدر ما كان بدوره من قبيل الإسلام المؤّول. وبالطبع، فإن ذلك يعنى أنه إذا كان الإسلام/ المُحرَّف هو كذلك، لأنه ليس أصلًا، بل مؤّولًا، فإن ما راح الإصلاحيون يستعيدونه على أنه الإسلام/الأصل قد كان- وللغرابة- إسلامًا مؤّولًا أيضًا. فإن ما كان يستدعيه رجال الإصلاح كأصل، لم يكن إلا مجرد أحد التأويلات التى اتسع لها الخطاب الذى تحققت له السيادة فى الإسلام. وينشأ ذلك عن حقيقة أن هذا الخطاب المهيمن يتسع لأقوالٍ وتأويلات لا يلغى ما قد يقوم بينها من الاختلاف حقيقة اندراجها تحت مظلته الواسعة، بحسب ما تنطق دلالة مفهوم الخطاب. وإذ الإسلام المُستعاد بوصفه الأصل/النقى هو- والحال كذلك- مجرد قولٍ مؤّول، فإن ذلك يعنى أنه لا يختلف- فى العمق- عن نقيضه المُحرَّف. بل إن الأمر يتجاوز مجرد ذلك إلى حقيقة أنه يكاد- وللمفارقة- أن يكون بمثابة إعادة إنتاج لنفس ما جرى النظر إليه على أنه الإسلام/ المُحرَّف، وإن كان على نحوٍ مراوغ أو مخفف نسبيًا. يعنى ذلك أن ما يُقال إنه الإسلام/ المُحرَّف سوف يكون قادرًا على أن يطوى تحت مظلته ما يتعامل معه رجل الإصلاح على أنه الإسلام/ الأصل. ولعل ذلك ما تؤكده قراءة مدققة لما كتبه الأفغانى حول عقيدة «القضاء والقدر» التى رأى رجل الإصلاح الكبير، أنها بمثابة «حصان طروادة» الذى يتسلل بواسطته الافرنج للنيل من الإسلام.


فهم (أى الإفرنج) يذهبون- على قوله- إلى أن المسلمين قد «قعدوا عن الحركة إلى ما يلحقون به الأمم فى العزة والشوكة، وخالفوا فى ذلك أوامر دينهم مع رؤيتهم لجيرانهم، بل الذين تحت سلطتهم يتقدمون عليهم ويباهون بما يكسبون، ونسبوا إلى المسلمين هذه الصفات وتلك الأطوار، وزعموا أن لا منشأ لها إلا اعتقادهم بالقضاء والقدر، وتحويل جميع مهماتهم على القدرة الإلهية، وحكموا بأن المسلمين لو داموا على هذه العقيدة فلن تقوم لهم قائمة، ولن ينالوا عزاً». ومن جهته، فإن الأفغانى يأخذ عليهم أنهم لم يفرِّقوا «بين الاعتقاد بالقضاء والقدر والاعتقاد بمذهب الجبرية القائلين إن الإنسان مجبور فى جميع أفعاله، وتوهموا أن المسلمين بعقيدة القضاء يرون أنفسهم كالريشة المُعلَّقة فى الهواء تقلِّبها الرياح كيفما تميل»، وبما يحيل إليه ذلك من تمييزه القاطع بينهما. ومن هنا ما صار إليه من أنه «لا يوجد مسلم فى هذا الوقت من سنى وشيعى وزيدى وإسماعيلى ووهابى وخارجى يرى مذهب الجبر المحض، ويعتقد سلب الاختيار عن نفسه بالمرة، بل كل من هذه الطوائف المسلمة يعتقدون بأن لهم جزءًا اختياريًا فى أعمالهم، ويُسمى الكسب، وهو مناط الثواب والعقاب عند جميعهم». وضمن سياق هذه المقابلة، فإنه لابد من توقُّع أن «الكسب» سيقوم- عند الأفغاني- مقام الإسلام/الأصل المقبول، وذلك فيما سيكون «الجبر» هو القول الناطق عن الإسلام/ المُحرَّف المرذول.
وبعبارة أخرى، فإن «الكسب» سيكون هو الأصل الذى جرى الانحراف عنه إلى «الجبر»، وبما لابد أن يترتب على ذلك من أن جوهر «التجديد» عنده سوف يتمثل فى السعى إلى استعادة الكسب/ الأصل، باعتباره النقيض الكامل للجبر/ الانحراف. ولعل ما يلفت النظر، هنا، هى تلك التسوية التى يقيمها الأفغانى بين الإسلام/ الأصل والكسب، وهى التسوية التى تستهدف التغطية على المضمون الأيديولوجى للكسب الذى يجعل منه مرادفًا للجبر على نحوٍ يكاد أن يكون كاملًا. ولسوء الحظ، فإنه يترتب على هذه التغطية انفتاح الباب واسعًا أمام تثبيت الجبر الذى يجرى استدعاء الكسب لكى يكون الأداة التى ترفعه، وتلك هى مفارقة التجديد التى تجعله يئول- عند الأفغاني- إلى تثبيت نقيضه.
إذ تكشف هذه القراءة عن أن القول الأشعرى فى القضاء والقدر الذى اعتبره الأفغانى بمثابة الأصل/ المقبول لا يكاد يختلف، فى جوهره، عن القول الجهمى فيها الذى اعتبره، فى المقابل، من قبيل التأويل المرذول، وبما يعنيه ذلك من إمكان اندراج الواحد من القولين الجهمى والأشعرى تحت مظلة الآخر، رغم ما يبدو من تباينهما الظاهر. إذ يبدو أن جوهر التباين بينهما لا يتجاوز حقيقة أن أحد القولين (وهو الجهمي) يقرر «مذهب الجبر المحض» على نحوٍ صريح، فيما الآخر (وهو الأشعري) يقرر «مذهب الجبر» أيضًا، ولكن على نحوٍ مراوغٍ وملتبس. وبالطبع، فإن ذلك يعنى أن التجديد عند الأفغانى لا يتجاوز حدود استبدال مضمونٍ بآخر لا يختلف عنه إلا فى الدرجة، وليس فى النوع، وبما يؤكد على أنه يشتغل فيما دون نظام الخطاب الذى ينبغى أن تكون له الأولوية القصوى فى الاشتغال.
فالحق أن الكسب لا يختلف عن الجبر فى انتهائه إلى سلب القدرة الفاعلة عن الإنسان. فقد صار أصحاب نظرية الكسب من الأشاعرة إلى أن القدرة هى «صفة قديمة أزلية قائمة بذات الرب تعالى، متحدة لا كثرة فيها، متعلقةٌ بجميع المقدورات»... ويعنون بالمقدورات «الممكنات كلها التى لا نهاية لها». وهكذا، فإن القدرة تتسع لتتعلق بكل ما فى العالم من ممكنات بحيث «لا يمكن أن يُشار إلى حركة ما، فيُقال إنها خارجة عن إمكان تعلُّق القدرة بها». وليس من شكٍ فى أن أفعال العباد هى من بين الممكنات التى تتعلق بها هذه القدرة الأزلية «المتعلقة بجميع المقدورات». إن ثمة «برهانًا قاطعًا على أن كل ممكن تتعلق به قدرة الله تعالى، وكل حادث ممكن، وفعل العبدحادث، فهو إذن ممكن، فإن لم تتعلق به قدرة الله، فهو محال». ومن هنا ما «زعمه أبو الحسن الأشعرى من أنه لا تأثير لقدرة العبدفى مقدوره أصلًا، بل القدرة (الخاصة بالعبد) والمقدور واقعان بقدرة الله تعالى». وبالطبع فإنه لا مجال، مع هذا النفى الكامل لقدرة العبد، للحديث عن «جزءٍ اختيارى للعباد فى أعمالهم، يُسمى بالكسب»، حيث الكسب- فى حقيقته- ليس أكثر من حيلة لغوية للإفلات من الشناعات التى يتأدى إليها نفى قدرة العبد. فقد أدرك الأشاعرة أن «فى المصير إلى أنه لا أثر لقدرة العبدفى فعله قطعٌ لطلبات الشرائع»، حيث إن إثبات هذا الأثر هو شرطٌ فى التكليف. وآنئذ فإنهم راحوا يلتمسون أثرًا لقدرة العبدفى فعله عبر ما يقولون إنه الكسب.
هكذا، فإنه كان على الأشعرى أن يبسط نظرية فى الكسب صار فيها إلى أن الله تعالى هو خالق الأفعال جميعًا، وأن العباد كاسبون لها بقدرة حادثة مخلوقة لهم. فإن «الله قد أجرى سنته- حسب الأشعري- بأن يحقق عقيب القدرة الحادثة، أو تحتها، أو معها، الفعل الحاصل إذا أراده العبدوتجرد له، ويُسمى هذا الفعل كسبًا، فيكون خلقًا من الله تعالى إبداعًا وإحداثًا، وكسبًا من العبد(بالقدرة التى يُحدثها الله فيه طبعاً)». ورغم كل شيء، فإن حيلة الكسب لم تفلح فى رفع عبء القول بالجبر عن الأشاعرة، لأنه يبقى أن القدرة التى يكسب بها البشر الأفعال التى خلقها الله لهم، ليست فقط مخلوقة من الله بدورها، بل إنها تكون فقط قدرة على الترك دون الفعل. وهكذا، فإنها ليست جوهرًا أصيلًا فى الإنسان، بل هى مجرد عَرَضٍ يلحق به من الخارج، ولأن العَرَضَ لا يبقى- حسب الأشاعرة- زمانين، فإن القدرة بدورها لا تبقى، بل تزول فى حال زوال الفعل الذى تصحبه. ولا شك أن قدرةً هى محض عَرَضٍ زائل لا يمكن أن تكون عنصرًا فى فعلٍ يمكن تنسيبه إلى الاختيار، ذلك إلا أن يكون مجرد الاختيار فى «الظاهر»، وأما فى «الحقيقة» فإنه لا مجال إلا للجبر، ولا شيء سواه. وهنا تحديدًا تنبثق ثنائية الظاهر والحقيقة التى يستوعب من خلالها الأشاعرة نسبة الفعل إلى كلٍ من الإنسان والله، بمعنى أن الفعل يكون منسوبًا إلى الإنسان فى «الظاهر» فحسب، وأما فى «الحقيقة» فإنه لا مجال لنسبته إلا إلى الله وحده. وبالطبع، فإنه ليس من معنى لتلك الثنائية إلا أن «الجزء الاختيارى فى الفعل» هو مجرد وهم ظاهرى، وأما «الجزء الجبرى فيه» فإنه الجانب الأكثر حقيقة فيه. وليس من شكٍ أبدًا فى إثبات الاختيار- بالكسب- فى الظاهر، سيئول- لا محالة- إلى تثبيت الجبر فى الباطن، وهى المفارقة التى لا تفارق فعل التجديد حين يشتغل تحت مستوى نظام الخطاب.
ولعل هذا التثبيت للجبر- فى الحقيقة- هو ما سينتهى إليه، بالفعل، الكسب الأشعرى الذى يستدعيه الأفغانى ليُصلح به الدين. ولقد راح هذا الجبر المتخفى وراء الكسب يسعى إلى تثبيت نفسه من خلال نظرية «الفاعل الأوحد» التى كانت الأساس النظري- أو حتى العقائدي- الذى ترتكن إليه الأوتوقراطيات العربية، سواء القديمة أو الحديثة. إنه ليس من شكٍ أبدًا فى أن «الكسب» بمعنى إثبات فاعلية للإنسان فى الظاهر هو ما يقف وراء ما صار إليه الغزالي- فى سياق خصومته مع الشيعة- من وجوب أن «ينظر الناظر إلى مرتبة الفريقين (السنة والشيعة)، إذ نسبت (الشيعة) الباطنية نفسها إلى أن نصب الإمام عندهم من الله تعالى، وعند خصومهم (الأشاعرة/ السنة) من العباد، ثم لم يقدروا على بيان وجه نسبة ذلك إلى الله إلا بدعوى الاختراع على رسوله فى النص على عليّ، ودعوى تنصيصه على أحد أولاده بعد موته، إلى ضروب الدعاوى الباطلة. ولما نسبونا (يعنى الأشاعرة/السنة) إلى أنَّا ننصب الإمام بشهوتنا واختيارنا، ونقموا ذلك منا، كشفنا لهم بالآخرة أنَّا لسنا نقدم إلا من قدمه الله...، فكأنَّا فى الظاهر رددنا تعيين الإمام إلى اختيار العباد، وفى الحقيقة رددناها إلى اختيار الله تعالى ونصبه». وهكذا فإنه يقرر صريحًا أن الجزء الاختيارى المنسوب إلى العباد من فعل تعيين الإمام، والمُسمى بالكسب، لا يجاوز حدود أنه مجرد اختيارٍ فى الظاهر، وأما فى الحقيقة فإنه مردودٌ إلى اختيار الله. وبحسب تمييز الغزالى بين اختيارين، أحدهما للإنسان فى الظاهر، وثانيهما لله فى الحقيقة، فإنه يبدو أن ترتيبه للعلاقة بينهما يحيل إلى أن دور الإنسان لا يجاوز كونه مجرد «أداة» يحقق الله من خلالها اختياره. وهنا يلزم التنويه بأن هذا التصور للإنسان كأداة هو الآلية المراوغة التى يتحقق من خلالها الجبر فى الواقع الفعلى.
وإذ تكاد الأشعرية أن تُلاشى الفرق بين الله والحاكم، وإلى الحد الذى يُقاس فيه الله على الحاكم- حيث «الدليل على أنه (الله) مُريدٌ بإرادة قديمة، أنه قام الدليل على أنه مَلِك، والمَلِك من له الأمر والنهى (والإرادة)، فهو (أى الله) آمرٌ وناهٍ (ومُريد)»- فإن ذلك يئول إلى لزوم أن يكون وضع الإنسان بالنسبة للحاكم هو نفس وضعه بالنسبة لله. بمعنى أن «الكسب الأشعرى» لن يكتفى بأن يؤسس لتصور أن الإنسان أداةٌ لله فى المجال العقائدى، بل وكذا لتصور أنه أداةٌ للحاكم فى المجال السياسى. ولعل هذا التصور للإنسان كأداة هو أخطر ما تنتهى إليه نظرية الكسب الأشعري، وهو التصور الذى لا يزال يحكم الممارسة العربية حتى الآن. حيث يبقى للآن أن هذه الممارسة تنبني- أو تكاد- على اعتبار أن الحاكم هو المريد القادر وحده فى الحقيقة، وأما سائر المحكومين فإنهم محض فاعلين فى الظاهر، ولكنهم لا يجاوزون- فى الواقع- حقيقة أنهم مجرد «الأدوات» التى يجرى بها إنفاذ إرادة هذا الحاكم وتحقيق مشيئته. 
فإن نظرة على واقع العرب تئول إلى أن نظرية (الفاعل الأوحد) تظل، بجانبيها المتعلقين بتحصين الملوك وإفرادهم بالفاعلية، وطرد الناس من ساحة السياسة بالكليّة، لا تزال تمارس للآن هيمنة لا يمكن تحديها على نحو جدى. ويرتبط ذلك، لا محالة، بحقيقة تحوُّلها من «فعلٍ سياسى» إلى «معتقد دينى». وغنيٌّ عن البيان أن هذا «المعتقد الدينى» ذو الأصل السياسى كان هو الذى يقف وراء ما جرى فى ميدان التحرير، فى نفس الليلة التى تنحى فيها مبارك، حين رفع الإسلامويون شعارهم: «الله وحده هو الذى أسقط النظام». ولقد كانوا بذلك يردون «المعتقد الدينى» إلى «الأصل السياسى» الذى نشأ منه. لكنه كان يعود على النحو الذى يتوافق فيه مع ما استقر عليه خطاب النخبة (الحديثة!) من النظر إلى المجتمع على أنه مجرد أداة، وفقط فإنه كان يجرى التحوُّل به من أن يكون أداة لدولة الباشا ونخبته، إلى أن يكون أداة لله، أو- بالأحرى- لوكلائه الناطقين باسمه. وضمن هذا السياق، فإنه إذا كان المصريون هم «الأدوات» التى أسقط الله بها مبارك عن السلطة، فإنهم سيكونون «أدواته» التى سيرفع بها الإسلامويين ليأخذوا مكانه الخاوى. لكنه يبقى أنه حين يكون الله هو الذى رفع الإسلامويين إلى السلطة من خلال أدواته، فإن من سيحاولون إنزالهم عنها، لن يكونوا- بحسب ما قال أحد دعاتهم المصريين أخيراً- إلا خوارج معاندين لحكم الله، ومستحقين لذلك لنفس جزاء المفسدين فى الأرض (من التقتيل والصَلب من خِلاف). وهكذا يظل الخطاب (حداثيًا وتقليدياً) يتنزَّل بالناس إلى مرتبة «الأدوات»، ويرفض أبدًا إنزالهم منزلة «الذوات» التى لها أن تقرر وتختار. وهنا، يقوم المأزق الذى يجابه فيالق الإسلامويين الساعين إلى وراثة الدولة الراهنة، التى يثور عليها الناس، وأعنى من حيث لن يسمح لهم خطابهم الراسخ إلا بإعادة إنتاج هذه الدولة القامعة من جديد، ولو كان ذلك من خلال استبدال براقع القداسة، بزخارف وإكسسوارات الحداثة.
وهكذا، فإن تحليلًا للكسب الأشعرى، وتوابعه السياسية، يكشف عن كونه يمثل ضربًا من الجبر المُقنَّع الذى يغطى بالدين على الاستبداد فى السياسة. وبالطبع، فإن ذلك يعنى وجوب اعتباره، شأنه شأن الجبر، نوعًا من الانحراف عن الأصل الذى لا يجوز أن يخرج عن إثبات «الإرادة الحرة» للإنسان بما هى الأساس الذى يقوم عليه التكليف. بل إنه يبدو أكثر إضرارًا من الجبر، وذلك من حيث ما يخايل به من وهم الفاعلية الذى يكشف التحليل عن كونها محض فاعلية ظاهرية. ويعنى ذلك- بلا أدنى مواربة- أن الكسب الأشعرى الذى اعتبره الأفغانى من «أصول العقائد فى الديانة الإسلامية الحقَّة»، هو أحد أهم عوائق الإصلاح والتجديد. وهكذا فإن جوهر الإشكالية يكمن فى أن الأفغانى لا يكتفى فقط بالتفكير ضمن نظام الخطاب الأشعرى الذى يبدو تجاوزه شرطًا لأى إصلاحٍ حقيقى، بل إنه يسعى إلى التجديد باستدعاء مضمونٍ أشعرى لا يختلف إلا فى الظاهر عن المضمون المُراد إزاحته بسبب مسئوليته عن التخلف والانحطاط. 
وأخيرًا، فإنه حين يدرك المرء أن «الكسب الأشعرى» لم يكن إلا أحد التأويلات التى أبدعها الخطاب الذى تحققت له السيادة فى الإسلام لكى يرسِّخ هيمنته التى تبقى مسئولة- على نحوٍ جوهري- عما يعانيه العرب من التأخر والفوات على كافة الأصعدة، فإن ذلك يعنى أن خطاب الإصلاح والتجديد لم يفعل- بتبنيه للكسب الأشعري- إلا أن أعاد تثبيت هيمنة خطاب السيادة التقليدى القديم. وإذا كان ذلك قد تحقق مع الأفغانى من خلال استدعائه مضمونًا (هو الكسب) يندرج بمفرداته تحت مظلة الخطاب القديم، فإن وريثه الأستاذ الإمام (محمد عبده) قد جاور تحت مظلة ذات الخطاب بين مضمونين متغايرين. فبعد أن أدرك الإمام أنه لا سبيل إلى امتلاك مكتسبات التمدُّن الحديث إلا من خلال إنجاز إصلاحٍ ديني- كذلك الذى أنجزته أوروبا فى بداية عصر حداثتها- فإنه قد سعى إلى فتح الباب أمام استنبات المفاهيم المركزية التى قام عليها بناء هذا الإصلاح، ومن أهمها على الإطلاق مفهوم الاختلاف. فالإصلاح البروتستانتى لم يكن- فى جوهره- إلا نوعًا من السعى إلى كسر أحادية فهم الكتاب المقدس واحتكار تفسيره، وفتح الباب أمام تعددية الأفهام واختلافها التى هى شرط البناء المعرفى والسياسى للعالم الحديث. وهكذا، فإن الباب قد انفتح أمام الحضور الإيجابى للاختلاف، بوصفه عامل إثراء للوحى، وليس بما هو عامل تهديد له، وأعنى من حيث «يعبر عن تغيُّر فى الذهنية نتج عن علاقة جديدة هى علاقة الاعتراف المُتبادل بين القوى التى استمرت تتصارع طوال القرن السادس عشر داخل الدين الواحد». وإذ ورث الأستاذ الإمام رؤية منسربة من الماضى يحملها الخطاب المهيمن، تعتبر الاختلاف عامل تهديد لهوية الوحى/ الأمة، فإنه قد راح يفتح الباب أمام حضورٍ مغاير له كعامل إثراءٍ وتجديدٍ لهما. ولكنه راح يفعل ذلك- لسوء الحظ- على مستوى مجرد المضمون وحده، بمعنى أن مفهومه الجديد للاختلاف قد راح يحضر كمضمون متجاور مع المفهوم التقليدى له الذى يرقد ثاويًا فى التجاويف الغائرة للخطاب القديم المهيمن. وإذ هو الحضور على مستوى المضمون فحسب، فإن جزئية هذا المضمون كان لابد أن تحول بينه وبين التأثير فى نظام الخطاب الكلي، وبما آل- فى النهاية- إلى التحييد الكامل لهذا المضمون الجزئي.
من هنا إذن يأتى الإخفاق، أى من هذه التلفيقية التى جعلت الأفغانى يقف بحدود الإصلاح عند مجرد تجديد الزخارف الخارجية على نحو ما فعل من استبدال الكسب بالجبر، جاهلًا بأنه لم يغادر بهذا الإبدال تحديدات نظام الخطاب المهيمن المسئول عن الأزمة. وبعبارة أخرى، فإن إصلاحه لم يغادر ساحة «الإجرائى» إلى «التأسيسى»، وبمعنى أنه قد وقف عند حدود العناصر والمضامين الجزئية التى تدور جميعًا داخل فلك نفس الخطاب، ولم يدرك أن لعبة الإبدال تلك لن تفلح فى إنتاج أى إصلاح ما دام هو التأسيسى فى الخطاب، أو نظامه، على حاله. ليس المطلوب، إذن، إبدال مضمونٍ (كالكسب) بآخر (كالجبر) يعملان معًا تحت مظلة ذات الخطاب، بل المطلوب هو كسر نظام هذا الخطاب وبنيته العميقة. وهى التلفيقية ذاتها التى راحت تعمل مع الأستاذ الإمام محمد عبده عبر الجمع التجاورى بين تصورات متناقضة، كما تجلى فى جمعه بين الأشاعرة والمعتزلة على تناقضهما، وكذا فى جمعه بين تصورين متناقضين لمفهوم الاختلاف تاركًا لهما أن يتصارعان معًا داخل نصه. وبالطبع، فإن هذا التردد قد آل مع استمرار الهيمنة الكاملة للخطاب التقليدى إلى أن حوصر المعتزلة عنده، وعلى نحو ما اختفى التصور الإيجابى لمفهوم الاختلاف الذى سعى إلى تكريسه، وذلك بحسب ما أظهرته التطورات التى طرأت على التفكير فى الإسلام بعده. 
وهكذا، فإنه يظهر أن أى استدعاء لسؤال الإصلاح إنما يستلزم وجوب تجاوز الاشتغال على «الإجرائى» أو المضامين والعناصر الجزئية التى يتسع لها الخطاب إلى الاشتغال على نظامه «التأسيسى» ذى الطابع، وهو ما يبدو أنه العمل الذى على جيلنا أن يضطلع به.
قول أولى فى التجديد والعمران
يلحظ المرء تزايدًا فى الحديث عن «التجديد» منذ أشار رأس الدولة المصرية إلى وجوب «تجديد الخطاب الدينى». ولأن المفاهيم تعانى فى مصر، على العموم، من ثقل الحمولات الايديولوجية التى يجرى تحميلها بها على النحو الذى يجعل منها أسلحة تقاتل، بدل أن تكون ساحات تواصل، فإنه يلزم البدء من الضبط المعرفى لمفهوم التجديد لكى لا يتحول إلى مجرد موضوعٍ لثرثرة لن يكون لها أى تأثير فى الواقع.
ولعل نقطة البدء فى السعى إلى ضبط المفهوم معرفى، تنطلق من وجوب الوعى بأن التجديد لا يكون فعلًا معزولًا وقائمًا بنفسه خارج أى سياق يحدده ويؤثر فيه، بل إنه يتحقق ضمن شروطٍ لا يكون قابلًا للفهم خارجها، هى شروط العمران التى ينشأ فيها. وإذا كانت التجربة العربية قد عرفت - حسب ابن خلدون - نمطين من العمران، أحدهما «بدوى» والآخر «حضرى» فإنه يبدو أن الطبائع الخاصة بكل واحدٍ من النمطين لاتزال هى المحددة لفعل التجديد فى عوالم العرب للآن، على أن يكون معلومًا أن طبائع العمران البدوى لاتزال حاضرة رغم غياب الحامل المادى لها. وتتأتى بالمشكلة الحاصلة فى عوالم العرب الآن من تصور أن التجديد المرتبط بنمط العمر أن البدوى هو بمثابة أصلٍ مطلق وغير مشروط بطبيعة عمرانه، وقابلٍ لذلك للتحقق ضمن شروط أى واقعٍ.
وهكذا يتبلور المأزق الأعتى للتجديد الذى يأتى من تصوره بمعزل عن طبيعة العمران الذى ينبثق ويتحقق داخله. حيث إن طبيعة العمران تحدد جوهر التجديد على النحو الذى يستحيل معه أن يكون التجديد المشروط بظروف عمرانٍ بعينه قابلًا للتحقق فى ظروف عمرانٍ مغاير. وللغرابة فإنه يبدو أن بعضًا ممن يُشار إليهم على أنهم من رموز السلف الكبار، قد كانوا من العاملين بقاعدة الترابط الحاسم بين التجديد والعمران. حيث إن هذا الترابط، ولا شيء سواه، هو ما يقف وراء رفض فقيه الحجاز الكبير الإمام مالك أن يعمل فقهه خارج ظروف العمران الحجازى الذى تبلور فيه، وألمح إلى أن تشغيله ضمن العمران العراقى - بحسب ما أراد العباسيون - سوف يكون جالبًا للعسر والمشقة. وإذ يكاد هذا الإدراك أن يكون غائبًا عن الوعى الراهن فإنه يلزم بيان الارتباط، غير القابل للانفكاك، بين التجديد الدينى وشروط العمران الذى يتحقق داخله، لكى لا يبقى للتجديد باب واحد لا يُؤتى إلا منه فقط.
وكمثال على هذا الارتباط الحاسم بين التجديد والعمران، فإنه يمكن الإشارة إلى التجديد الذى قدمه مجدد الجزيرة العربية الكبير فى القرن الثامن عشر، وهو الشيخ ابن عبدالوهاب الذى تمحورت دعوته حول تنقية عقيدة التوحيد مما لابسها من شوائب ما رأى أنه من الشرك. حيث يتعلق الأمر ببدعٍ شركية داخلت المعتقد النقى، ولابد من إعلان البراءة والتطهُّر منها. وهنا يلزم التأكيد أن الطبيعة المعزولة والقاسية لمنطقة «نجد» - التى نشأ فيها الشيخ محمد بن عبدالوهاب - قد فرضت تبلور التجديد على النحو الذى يكون فيه استرجاع لنموذج الإسلام الأول فى تعاطيه مع عرب شبه الجزيرة. ويتفرع ذلك عن حقيقة أن هذه العزلة القاسية قد عملت على استمرار قيام العمران البدوى على نفس الحال الذى كان عليه وقت ابتعاث النبى محمد بالإسلام لأول مرة. وبالطبع، فإن هذا العمران البدوى يرتبط بطرائق فى التفكير والسلوك، وحتى التعبُّد، بدا معها للشيخ ابن عبدالوهاب أن أهل نجد قد عادوا إلى نفس ما كان عليه أعراب الجاهلية. وهنا يلزم التأكيد أن ما بدا لابن عبدالوهاب وكأنها عودتهم للجاهلية لم يكن اختيارًا لهم، بقدر ما كان من تداعيات استمرار قيام العمران البدوى الذى لابد أن يفرض على أصحابه هذا النوع من السلوك والتعبُّد. فإذ يتمحور العمران البدوى - بحسب ما يكشف عنه ابن خلدون - حول مفهوم العصبية القبليّة التى تحيل إلى السطوة الغالبة لقيم القوة والتقليد والاتباع والتأسى بالكبراء، والتوسُّل بهم كوسطاء، فإن ذلك بعينه هو ما أدرك الشيخ ابن عبدالوهاب غلبته على ممارسات أهل نجد فى عصره. ومن هنا أن ما تبيَّنه ابن عبدالوهاب عند أهل نجد «من مسائل الجاهلية» المائة يكاد بأسره أن يتوزَّع على منظومة القيم الغالبة على العمران البدوى من قبيل القوة والتقليد والاتباع والتوسُّل بالكبراء وغيرها. فهم يتوسلون بالوسائط فى العبادة، ويقلدون فى الدين، ويحتجون بما كان عليه الآباء بلا دليل، ويعتبرون عدم الانقياد لوليّ الأمر فضيلة، وهى الأمور التى تكاد أن تكون جميعًا من لوازم عمران البداوة.


وإذا كان ابن خلدون قد كشف، فيما سلف، عن أن ما يؤسس لهذه المنظومة البدوية هو «اعتياد أهلها الشظف وخشونة العيش... (الذى يتولَّد عنه) خُلق التوحُّش الذى يجعلهم أصعب الأمم انقيادًا بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبُعد الهمة والمنافسة فى الرياسة، فقلما تجتمع أهواؤهم» فإنه قد رتب على ذلك «أن العرب لا يحصل لهم المُلك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثرٍ عظيم من الدين على الجملة»، وبما يعنيه ذلك من جوهرية الدين فى الخروج بالعرب من خُلق التوحُّش/ الطبيعى إلى التهذُّب بالمُلك/ المدني. إذ الحق أن مفهوم «المُلك» يحمل عند ابن خلدون دلالة حضارية، تتجاوز به مجرد دلالته السياسية الضيقة إلى دلالةٍ أوسع تشير إلى انتقاله بالبشر من حال الاجتماع الحيوانى/ الهمجى إلى الاجتماع التأنُّسى/ المدنى. ولعل هذا هو ما حدا بابن عبدالوهاب إلى إدراك أنه لا سبيل إلى إخراج أهل الجزيرة العربية فى عصره مما هم عليه من حال الاجتماع شبه الجاهلى - الذى تفرضه طبائع العمران البدوى - إلا باسترجاع إسلام العصور الأولى المفضَّلة. وبالطبع فإن ذلك يعنى أن الوهابية هى من قبيل التجديد الذى فرضته طبائع العمران البدوى، ومن دون أن تكون قابلةً للفهم - أو الاشتغال - خارج شروط هذا العمران أبدًا. وبالطبع فإنه يمكن القطع - ترتيبًا على ذلك - بأن دعوة ابن عبدالوهاب تحيل إلى نوعٍ من التجديد الذى يختلف بالكلية عن ذلك الذى ستعرفه لاحقًا مراكز العمران الحضرى فى مصر وتونس والشام التى كانت تعيش تجربة الانفتاح على حضارة أوروبا التى حالت العزلة دون أن تتعرض جزيرة العرب لرياحها العاتية.
الأزهر بين النص والخطاب 
على مدى تاريخه، ومنذ النشأة، كان الأزهر هو إحدى الأذرع التى تشتغل بها السلطة القابضة على دولاب الحكم فى مصر. فإذ أرادت منه السلطة الفاطمية الشيعية- حين أنشأته فى القرن الرابع الهجرى- أن يكون بوقًا أيديولوجيًا لها، تنشر من خلاله مذهبها، فإن ذلك بعينه قد كان هو نفس ما أرادته منه الدولة الأيوبية السُّنيَّة التى ورثت دولة الشيعة فى القرن السادس الهجرى. ولقد كان من الحتم أن تكون «المذهبية»- تبعًا لذلك- هى العمود الرئيس الذى يقوم عليه بناء تلك المؤسسة العريقة. ورغم أن المذهبية هى نوعٌ من الحضور المتعيّن للدين فى لحظة بعينها، فإنه يلزم تحرير الوعى من وهم مطابقتها مع الدين. حيث إن المذهب هو نتاج تعاملٍ بعينه، ضمن سياقات تاريخية ومعرفية محددة، مع نصوص الدين المنزَّلة، وبما يعنيه ذلك من أن المذهب هو- فى حقيقته- تركيبٌ تتفاعل فيه عناصر الدين والمعرفة والاجتماع والسياسة. وإذ يعنى ذلك أن المذهب يكون فيه من الدين بمثل ما فيه من الاجتماع والمعرفة والسياسة، فإن المأزق يتمثل فى إنكار الحاملين له والقائمين عليه لأى دورٍ يخص ما سوى الدين فى بنائه، ويظل إصرارهم كاملًا على أن ما فى «مذهبهم» هو من الدين وحده. بل إنهم يتجاوزون إلى اعتبار هذا المذهب الذى يتبنونه هو بمثابة التحقق المطابق للدين المنزَّل، وذلك فى مقابل غيره من مذاهب الآخرين التى هى بمثابة هرطقات أو تقوُّلاتٍ لأهل الأهواء والبدع.
وإذ يبدو لازمًا تعيين معنى المذهب، فإنه يمكن القول بأنه هو أدنى ما يكون إلى الإطار المتضمّن لمجموع أقوال (مكتوبة أو منطوقة) تندرج تحت جملة مبادئ عامة تكون بمثابة الأسس التى يقوم عليها تركيبٌ يتميز بالانتظام والنسقية. ولعله يلزم التنويه هنا بأن هذا المعنى يرتقى بالمذهب إلى المقام الذى يكون فيه رديفًا لمفهوم «الخطاب» الذى يكون له نفس المعنى بالضبط، وبحيث يمكن استعمال الواحدة من المفردتين محل الأخرى. وإذ يبدو- والحال كذلك- أن السمة الجوهرية للمذهب هى الكليِّة والشمول التى تجعله يتسع لكل ما يحدث داخله من أقوال متباينة تخص أفرادًا وأزمنة مختلفة، فإن ذلك يئول إلى أن مقاربة المذهب/ لاالخطاب بما هو مجرد أقوالٍ جزئية لا يجمعها إلا محض تجاورها، تبقى من قبيل المقاربة غير المعرفية، وبالتالى غير المؤثرة. ويترتب على ذلك أن أى محاولة لتجديد المذهب/ الخطاب لا تتجاوز فى تعاملها معه حدود الأقوال الجزئية المندرجة فى ساحته، وتتجاهل ما يقوم وراءها من الإطار الكلى الحاكم لها، لن تعدو كونها محاولة تلفيق غير منتجة. إذ الحق أن سعيًا جديًا إلى تجديد المذهب/الخطاب لابد أن يتخذ نقطة ابتدائه من التأثير فى الإطار الكلى الحاكم للأقوال الجزئية المنطوق بها داخله، وإلا فإن الأمر لن يتعدى حدود تبديل قول بآخر ضمن نفس الإطار الكلى الحاكم، وبحيث تظل هيمنة هذا الإطار الحاكم قائمة على حالها.
وإذا كان الأزهر قد نشأ- حسب ما هو معلوم- كأداة لسلطة الشيعة، فإن ما جرى من تبدُّل السلطة قد أجبره على الانخلاع من مذهب الشيعة ليتبنى مذهب الدولة الجديدة. وإذا كان الأيوبيون- وهم أصحاب الدولة الجديدة- قد قاموا بتحييد الأزهر، بل وحتى إغلاقه عبر إبطال صلاة الجمعة فى رحابه، بعد أن أدركوا أنه لا سبيل إلى نجاح خططهم فى استئصال المذهب الشيعى من مصر إلا بهذا التعطيل، فإنه يبدو الأزهر قد استوعب الدرس من هذه المحنة التى استمرت على مدى مائة عامٍ تقريبًا (١١٧١- ١٢٦٧م). وهكذا فإن الأمر لم يقف به عند حد تبنى المذهب السُّنى الذى استقدمت الدولة الجديدة الدعاة لينشروه فى مصر من مختلف البلاد الإسلامية، بل إنه قد بالغ فى التعصب له تكفيرًا فيما يبدو عن انتسابه الشيعى السابق.
ولقد جاء المذهب السُّنى إلى مصر بجناحيه (الشافعى) فى الفقه، و(الأشعرى) فى العقيدة، حيث كان «الأيوبيون من الغلاة فى المذهب الشافعى، وكانوا من أتباع الأشعرى». ولم يختلف عنهم من خلفوهم فى احتياز السلطة على مصر من المماليك الذين أخذ أحد أمرائهم (بدر الدين بيلبك الخازندار الظاهرى) على عاتقه أمر استرجاع ما كان للأزهر من نفوذ قبل الأيوبيين. فقد «أنشأ منبرًا ومقصورة رتب فيها جماعة من الفقهاء لقراءة الفقه على مذهب الإمام الشافعى، ورتب فى المقصورة أيضًا مدرسًا للحديث، وسبعة قرَّاء لتلاوة القرآن الكريم. ورصد الأوقاف الدَّارة للإنفاق على تنفيذ هذا البرنامج، واسترد نائب السلطنة للجامع الأزهر الكثير من الأوقاف المحبوسة عليه، والتى كان بعض الناس قد اغتصبوها فى أثناء حكم الدولة الأيوبية». ولقد كان لزامًا أن يرث الأزهر «من هنا التعصب المذهبى الشديد (للشافعى والأشعرى) إلى حد الإفتاء بالكفر وعدم صحة الاقتداء بالمخالف فى المذهب (العقائدى)»، وخصوصًا بعد ما بدا من إن «العلماء قد أصبحوا فى هذا العهد وما تلاه من عهود المماليك يعتمدون على الدولة، وما تعطيهم من إعانات، وما تدره عليهم من غلات أوقاف، أو نظارات فى حياتهم، مما مكَّن للدولة من بقائهم فى صفها»، وبما يترتب على ذلك من فهم تعصبهم الزائد لمذهب الدولة.
ولقد كان لا بد أن يؤدى هذان العاملان إلى حصول ما جرى من التطابق الكامل بين الأزهر والمذهب، وعلى النحو الذى جعل منه (أى الأزهر) مؤسسة مذهبية بامتياز. وبطبيعته، فإن كل كيان مذهبى لابد أن ينتهى به الحال إلى وضع الجمود والانغلاق، وهو الوضع الذى آل إليه الأزهر فعلًا بحسب ما ظهر جليًا لأحد أهم أعلامه فى القرن التاسع عشر، وهو الأستاذ الإمام محمد عبده. ورغم ما يلزم قوله من أن بعضًا من رجال الأزهر قد لعبوا أدوارًا سياسية واجتماعية مشهودة انحازوا فيها إلى عوام المصريين فى مواجهة اعتسافات السلطة الغاشمة ومظالمها، فإنه يبقى أن ذلك لا يغير شيئًا من حال الجمود التى كانت عليها المؤسسة. وإذ يبدو أن الجمود هو قرين المذهبية، فإنه يمكن تصور أن أى محاولة لتخليص الأزهر من جموده لابد أن تربط نفسها بالسعى إلى إخراجه من ضيق المذهبية. وبالرغم من أن بعضًا من رجال الأزهر الكبار، كالأستاذ الإمام محمد عبده وفضيلة الشيخ محمود شلتوت، قد حاولوا ذلك فعلًا وأظهروا قدرًا من الانفتاح على المذاهب المغايرة كجزءٍ من السعى إلى إخراج الأزهر من هذه المذهبية الضيقة. وهكذا فإنه إذا كان الأستاذ الإمام قد انفتح على مذهب المعتزلة (فى العقيدة)، وأفتى الشيخ شلتوت بجواز التعبُّد بالمذهب الجعفرى (فى الفقه)، فإنه يبقى أن هذه الجهود قد ظلت فردية، ولم تؤثر على وضع المؤسسة ككل.
ولسوء الحظ، فإن المذهب (الشافعى/ الأشعرى) الذى انحاز إليه الأزهر، وتعصب له، لم يكن سجنًا له وحده فحسب، بل إنه كان بمثابة سجنٍ ينحبس داخله العالم والإنسان والعقل جميعًا. فإنه إذا كان القول فى المذهب الأشعرى، فى العقائد مثلًا، يحيل إلى جملة مفاهيم كلية تحكم كل ما يرد تحتها من أقوال، وبكيفية تجد فيها هذه الأقوال النظام الذى يجعلها قابلة للفهم والتفسير، فإنه يمكن القول بأن مبدأ «الإطلاقية» هو بمثابة الثابت الذى تتمحور حوله كافة الأقوال المنطوقة فى إطار المذهب/الخطاب الأشعرى. وتعنى هذه الإطلاقية أن موجودًا أوحد (الله فى المجرد والحاكم فى المتعيّن) هو الذى يتفرَّد فحسب بالوجود والتأثير الحقيقى، وأن كل ما سواه هو محض موجوداتٍ شبحية لا حقيقة لها فى ذاتها، بل من حيث هى علاماتٍ تدل على هذا المطلق، أو أدواتٍ يستخدمها. ويعنى ذلك أنه إذا كان ليس فى العالم الطبيعى إلا فاعلٍ مطلق (هو الله)، فإنه ليس فى العالم السياسى/ الاجتماعى بدوره إلا فاعلٍ مطلق أوحد (هو الحاكم). وإذ يحيل ذلك إلى أن الظواهر فى العالم الطبيعى تحضر بما هى علاماتٍ تدل على فاعلها المطلق، فإن البشر يحضرون فى العالم السياسى بما هم مجرد أدوات يفعل بها الفاعل المطلق فى السياسة. وإذ المطلق يفعل- فى العالمين الطبيعى- بمحض إرادته (التى تكون بدورها مطلقة)، فإن ذلك يعنى أن كلا العالمين يخلوان من أى قوانين موضوعية تنظم العلائق داخلهما. ومن هنا أن الجواز والإمكان يكون هو المبدأ الحاكم لظواهر العالمين الطبيعى والسياسى فى المذهب/ الخطاب الأشعرى، وبما يعنيه ذلك من اعتبار العالم الطبيعى محكومًا بإرادة الله، بمثل ما إن العالم السياسى محكومٌ بإرادة الحاكم.
وغنى عن البيان أن هذا التصور لطبيعة العالمين كان لابد أن يفرض حضورًا بعينه للعقل. فحين تحضر الظواهر الطبيعية كعلاماتٍ تدل على المطلق (الله)، فإن ذلك يعنى أنها لا تكون موضوعًا لعقلٍ يسعى إلى اكتشاف قوانينها والعلم بها، بقدر ما تكون موضوعًا لعقلٍ يسعى بها إلى تثبيت الإيمان بالمطلق القائم وراءها. وليس من معنى لذلك إلا أن هذا التصور لظواهر الطبيعة كعلاماتٍ على المطلق يترابط مع نوعٍ من العقل «الاستدلالى» الذى هو- فى جوهره- عقلٌ «لاهوتى» دائرى لأنه ينتهى إلى نفس النقطة التى يبتدأ منها. فإذ يبتدئ هذا العقل من الإيمان بالله كواقعةٍ أولية، فإنه يتعامل مع الظواهر الطبيعية على النحو الذى ينتهى به إلى تثبيت هذا الإيمان الذى يبدأ منه. وهكذا فإن «الإطلاقية» الحاكمة للمذهب/ الخطاب الأشعرى لا تنتهى فحسب إلى تكريس تصورٍ للعالمين الطبيعى والسياسى يفتقران إلى أى ارتباط ضرورى بين ظواهرهما، بل وتئول إلى تكريس نوعٍ من العقل اللاهوتى الدائرى، الذى هو عقلٌ مغلقٌ بطبيعته. ويعنى ذلك أن المذهب/ الخطاب الأشعرى ينتهى إلى الإفقار الكامل لكلٍ من الطبيعة والسياسة والعقل.
ولقد ظل الأزهر، منذ راح مع المماليك «يتزايد- على قول المقريزى- أمره حتى صار أرفع الجوامع بالقاهرة قدرًا»، بمثابة الحارس الأمين على هذا المذهب/ الخطاب الذى بدا أنه هو نفسه- وبسبب ما ينبنى عليه من الإطلاقية- مجرد حارسٍ لأصول التقليد فى الاجتماع والسياسة والعقل. وحين بدا أن هذا المذهب/ الخطاب يواجه تحديًا كبيرًا بسبب المآلات العنيفة التى راح ينتهى إليها مع فصائل الإسلام السياسى التى خرجت من أعطافه، فإن كثيرين قد راحوا يطالبون الأزهر بفعل شىء فى مواجهة هذا التحدى. وبدلًا من أن يُظهر قدرة على مواجهة هذا التحدى، عبر التحول من دور الحارس لهذا المذهب/ الخطاب إلى دور الدارس له، فإن رجاله قد راحوا دومًا يختارون الأيسر، وهو إلقاء الخطب البليغة الموشَّاة بالنصوص البديعة من القرآن والحديث، ويتفلَّتون من المواجهة الجديّة مع هذا المذهب/ الخطاب الذى يمارس متخفيًا هيمنة كاملة على طرائق تلقى هذه النصوص البليغة، وبما يئول إلى توجيهها لخدمة مقاصده المضمرة.
وهكذا فإنهم يتجاهلون- أو حتى يجهلون- أن المذهب/ الخطاب يفرض على الحاملين له طرائق فى تلقى هذه النصوص تئول إلى تفريغها من الحمولة المثالية التى تنطق بها. فإن المذهب/ الخطاب يكون بالنسبة لحامله بمثابة الباب الذى تأتيه منه النصوص، وهو بابٌ يمتلئ بالعديد من القواعد المعرفية التى تكون أشبه بقوالب تتحدد بحسبها صور الدلالات وأنماط المعانى.
وكمثالٍ فإنه يمكن الإشارة إلى ما يفعله شيوخ الأزهر الآن حين يستدعون من القرآن ما يستندون إليه فى تقرير مبادئ الحرية والرحمة والسماحة وغيرها من القيم الإنسانية السامية، فإنهم يتجاهلون أن ما يتهدد هذه المبادئ بكيفية مباشرة ليس نصوص القرآن، بقدر ما هو نمط المذهب/الخطاب الذى يقومون هم أنفسهم بحراسته. وإذ المشكلة- والحال كذلك- ليست فى نصوص القرآن، بل فى الطريقة المستقرة التى رسَّخها المذهب/الخطاب (الشافعى/ الأشعرى)- الذى تحققت له السيادة شبه الكاملة فى الإسلام- للتفكير فيها، فإن ذلك يعنى أن حل المشكلة لا يكون أبدًا فى استعادة نصوص الدين السمحة، والاكتفاء بالتأثير على الجمهور بسمو بلاغتها. بل الحل يكمن فى تفكيك البنية المعرفية العميقة للخطاب الأشعرى المهيمن الذى يوجه النصوص لكى تنطق بما يريده منها، ولو كان هذا الذى يريده منها يتعارض مع ما يسعى خطاب القرآن لتثبيته. وبالطبع فإن المذهب/ الخطاب يمارس هذا التوجيه لدلالة النصوص من خلال جملة قواعد يفرضها، ويُلزم بالتعامل معها وكأنها من مسلمات الدين التى لا يجوز حتى مجرد التفكير فيها، وذلك من قبيل الناسخ والمنسوخ والإجماع والعبرة بعموم اللفظ وغيرها من القواعد التى باتت لرسوخها من قبيل ما يستحيل أن يكون موضوعًا لتفكيرٍ أو سؤال.
ومن هنا فإنه إذا كانت ظروف مصر الراهنة قد فرضت على الأزهر أن يلعب دورًا سياسيًا لا يعرف أن يؤديه إلا بالاستدعاء الكثيف من القرآن لنصوص السماحة والمودة التى يدبج بها بيانات التهدئة وترطيب الأجواء، فإن المرء يتمنى لو أنه يتجاوز ذلك إلى الوعى بدورٍ معرفى يساهم به فى دعم الاتجاهات الساعية إلى التفكيك المعرفى النقدى لبنية الخطاب الشافعى/ الأشعرى المهيمن، وتعرية مضمونها الأيديولوجى، والكشف عن آلياتها المعرفية التى ترسخ بها سيادتها التى تستعصى على أى تحدٍ. فمن دون هذا التفكيك لن يكون النص قادرًا على النفاذ إلى الواقع والتأثير فيه، حيث البنية الراسخة هى أشبه ما تكون بالشبكة التى يجرى اصطياد النص فى أحابيلها، فيعجز إلا عن النطق بالدلالة التى تظل معها الوظيفة الإيديولوجية للبنية فاعلةً، ولو كان ذلك عبر إسكات الدلالة التى تتوافق مع نظام الخطاب القرآنى.
وهنا فإنه يمكن الإشارة إلى الكيفية التى قرأ بها حاملو نفس المذهب/ الخطاب- الذى يحرسه الأزهر- من المفسرين آية عدم الإكراه فى الدين التى لا يتوقف شيوخ الأزهر ودعاته عن استدعائها لتقرير مبدأ حرية الاعتقاد. ولعل المثال يأتى مما أورده القرطبى فى تفسيره لهذه الآية، حيث يعدد وجوه اختلاف العلماء فى قراءتها والتى تكاد تنتهى- وللغرابة- إلى أنها آية للإكراه والإجبار، وليس العكس.


فقد «قيل هى منسوخة، لأن النبى قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم، ولم يرضََ منهم إلا الإسلام، قاله سليمان بن موسى، قال: نسختها آية (يا أيها النبى جاهد الكفار والمنافقين)، وروى هذا عن ابن مسعود وكثيرٍ من المفسرين». وتبعًا لذلك فإنه لا مجال لتفعيل حكم عدم الإكراه، ابتداءً من أن الآية التى تنطق به هى موضوع للنسخ الذى هو- حسب أحد الآباء المؤسسين للخطاب الأشعرى المهيمن- «الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بخطابٍ آخر، على وجهٍ لولاه لاستمر الحكم المنسوخ. ومن ضرورة ثبوت النسخ على التحقيق رفع الحكم بعد ثبوته». وهكذا فإن اعتبار آية عدم الإكراه منسوخة يعنى أن حكمها قد بات مرفوعًا، ولم يعد فاعلًا لأن معنى النسخ يعنى رفع الحكم بعد ثبوته، وبمعنى أنه النفى الكامل لدلالة عدم الإكراه عن الآية.
ولسوء الحظ، فإن الأمر لم يختلف كثيرًا عند من قالوا إنها «ليست منسوخة»، حيث إنهم قد قيدوا حكمها، فجعلوه مخصوصًا مُقيدًا، وليس عامًا مطلقًا. فقد مضوا إلى إنها «إنما نزلت فى أهل الكتاب خاصة، فإنهم لا يُكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية». وهكذا فإنهم لم يكتفوا بتخصيص حكم الآية بأهل الكتاب، بل جعلوه مشروطًا بأدائهم للجزية، وبما يعنيه ذلك من إمكان إكراههم إذا لم يؤدوها. وبحسب هؤلاء، فإن «الذين يُكرَهون هم أهل الأوثان، فلا يُقبل منهم إلا الإسلام، فهم الذين نزل فيهم (يا أيها النبى جاهد الكفار)». وإذن فإنه القول بأن الآية ليست منسوخة فى حق أهل الكتاب فقط، ولكن عدم نسخها فى حقهم ليس مطلقًا، بل موقوفٌ على شرط أداء الجزية، وأما فى حال أهل الأوثان، فإنها منسوخة مطلقًا. وعلى أى الأحوال، فإن ثمة من سيبلغ إلى حد اعتبار تلك الآية منسوخة فى حق الجميع بما فيهم أهل الكتاب، حيث إن آية «(لا إكراه فى الدين) نزلت، ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب، ثم إنه نسخها، فأمر بقتال أهل الكتاب فى سورة براءة». وهكذا فإن الأمر قد انتهى إلى المحاصرة الكاملة للآية لكيلا تنطق إلا بما يقوله الخطاب، ولو كان ذلك على حساب القرآن.
وإذا كان إخضاع الآية لقاعدة النسخ (سواء كانت منسوخة على قول البعض، أو غير منسوخة على قول آخرين) قد آل إلى تثبيت دلالة الإكراه، فإن قراءتها بقاعدة «سبب النزول» سوف تئول إلى تثبيت ذات الدلالة تقريبًا.
ومن هنا أن الأقوال الثلاثة التى أوردها «القرطبى» كسببٍ لنزول الآية تتضافر جميعًا فى توجيه دلالتها نحو تثبيت الإكراه. ويتفرع ذلك عن حقيقة أنها تجعل حكم عدم الإكراه منحصرًا فى أفرادٍ محددين، شهدوا وقائع بعينها، وعلى النحو الذى يؤدى إلى أن حكمها يتعلق فقط بمن نزلت فيهم، ولا يتجاوزهم إلى من سواهم.
ولعل أغرب ما جاء فى تفسير هذه الآية هو ما قيل من أن معناها «لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف: مجبرًا مُكرهًا»، وبمعنى أن قوله تعالى (لا إكراه فى الدين) يعنى أن الله نفسه ينفى وصف الإكراه عن فعل إجبار المرء على تغيير دينه لأنه يقرر أن الفعل لا يكون إكراهًا طالما أنه يتعلق بتغيير الدين إلى الإسلام بالذات. فارتباط الفعل بالدين- ولو كان فعل إجبار- ينفى عنه وصف الإكراه. هنا يتجاوز الأمر تخصيص الدلالة أو قصرها على فئة بعينها إلى نفى دلالة عدم الإكراه بالكلية. فإن آية (لا إكراه فى الدين) تعنى- حسب هذه القراءة- أن الله يقرر بنفسه أن الإجبار على تغيير الدين ليس إكراها، لأن الله ينفى عن الفعل- ولو كان جبرًا- وصف الإكراه طالما أنه يكون على الدين.
وهكذا فإن المذهب/ الخطاب يقوم بإحكام قيوده حول النص، وبكيفية لا يكون معها قادرًا على النطق خارج ما تقتضيه التحديدات الصارمة لتلك القيود. ولقد بدا أن صرامة تلك التحديدات تبلغ إلى حد أنها لا تسمح للنص إلا بالنطق بما يريده منه المذهب/ الخطاب، ولو كان ذلك على حساب القرآن. وتظل هذه القيود التى تتمثل فى قواعد وآليات معرفية (كالناسخ والمنسوخ وأسباب النزول والتخصيص والقصر وغيرها) بمثابة الطرق التى تمر عبرها كل عمليات فهم النص وقراءته. بل إنه يجرى النظر إلى أى فهم يتحقق من خارج هذه الطرائق على أنه من «عبث العابثين وزيغ الزائغين، وجراءة القائلين على الله بغير علم». وبالطبع فإن ذلك يعنى أن الأزمة ليست فى «القرآن»، بقدر ما هى فى المذهب/ الخطاب الذى يحدد- وعلى نحوٍ خفى- كل عمليات التلقى القرائى له.
ويعنى ذلك وجوب تفكيك هذا المذهب/ الخطاب على النحو الذى يسمح للقرآن بإنتاج الدلالات المنفتحة التى تتفق مع نظام خطابه، وبما يؤشر عليه ذلك من الصراع جليًا بين المذهب/الخطاب وبين القرآن. إذ الحق أن نوع الدلالة التى يوجه هذا المذهب/ الخطاب إلى إنتاجها، إنما تبقى- بحسب ما بدا فى قراءة آية (لا إكراه فى الدين)- من قبيل الدلالة ذات الطابع الإقصائى المغلق، فى مقابل ما يبدو أنها الدلالة المنفتحة التى يدور عليها خطاب القرآن.
وإذ يبدو- والحال كذلك- أن المشكلة ليست فى القرآن، بل فى الخطاب الذى يقبض على نصوصه ويقوم بتوجيه دلالتها ضد منطق ومقاصد القرآن نفسه، فهل يدرك الأزهر أن عليه القيام بتفكيك هذا المذهب/ الخطاب الذى يقوم بحراسته، ليس فقط من أجل مصر، بل من أجل القرآن نفسه؟ وإذا أدرك فهل تُراه يقدر؟!!! 
=====

تعليقات