كتابات مضيئة - معجزات البلاغة

الإعجاز المخادع و البلاغة الكاذب
 
حسن عجمي  *
الحوار المتمدن  2019 / 1 / 17
-------

الإعجاز احتكار المعنى بينما التواصل مشاعة المعنى. و كل احتكار سلطة قامعة ما يجعل الإعجاز نقيض إنسانية كل إنسان.
يكمن إعجاز النص في عدم مقدرة أحد على الإتيان بمثله. لكن إن كان من غير الممكن لأحد الإتيان بمثل النص المذكور فهذا دلالة على عدم فهمه من قِبَل الجميع. و عدم فهم النص من قِبَل الجميع دلالة على خلوه من أي معنى لأنَّ المعاني هي التي من الممكن فهمها و التعبير عنها حرفياً أو مجازياً. من هنا إعجاز النص يشير بقوة إلى أنَّ النص المذكور بالإعجاز خالٍ من أي معنى. هكذا الإعجاز خداع و مخادع.
فقط إذا كنا قادرين على الإتيان بمثل النص حينها نكون حقاً قد فهمنا معناه أو معانيه و لذا نتمكّن من صياغة نص شبيه به أو مطابق له. لذلك عدم مقدرتنا على أن نأتي بمثله يدلّ على جهلنا بمعناه ما يحتِّم أن لا ننجح في استخدامه للتواصل فيما بيننا ما يناقض التواصل الحق الكامن في فهم معاني ما نُرسِل و إرسال معانٍ مفهومة من قِبَل المُرسِل و المتلقي معاً. من هنا الإعجاز نقيض التواصل ما يفسِّر فشل التواصل
فنشوء الفِتَن و الحروب المستمرة في كل حضارة قائمة على تقديس الإعجاز اللغوي. 

بكلامٍ آخر , هذا يفسِّر استمرارية الفِتَن و الصراعات و الحروب المتكررة في عالَمنا الإسلامي و ذلك من جراء اعتماد حضارتنا على الإعجاز الخادع و المخادع. ففشل التواصل بسبب الاعتماد على ما نعجز عن الإتيان بمثله (أي بسبب الاعتماد على الإعجاز) يؤدي لا محالة إلى عدم التفاهم فالفِتَن و الحروب. على هذا الأساس , السبيل للخلاص من الفِتَن و الحروب التي تدمِّر أمتنا كامن في التخلي عن الإعجاز و أكاذيبه فتحرير أنفسنا من نصوص إعجازية قاتلة للتواصل الحقيقي و التفاهم الحق. 

التواصل مشاعة المعنى أي شيوع المعنى و فهمه و إدراكه من قِبَل كل فرد عاقل ما يحقق التفاهم بين الجميع فإحلال السلام. بذلك التواصل الحق نقيض الإعجاز الذي يحتكر المعنى و يُوصِل إلى الصراع. إن كان هذا أو ذاك النص إعجازاً حقاً فيعجز بذلك الناس عن الإتيان بمثله فحينئذٍ النص الإعجازي يحتكر معناه أو معانيه لنفسه فقط و يقصيها عن النصوص الأخرى و عن الآخرين فيمسي نصاً ديكتاتورياً و خطاب دعوة إلى الصراع و الحروب حول معانيه و مقاصده. هكذا الإعجاز النصي طاغية خفي يؤسِّس لوجود الطغاة الحقيقيين من جراء احتكاره للمعاني تماماً كما يفعل الطاغية محتكر المعاني فمحتكر السلطة. و هذا يفسِّر نشوء حكم الطغاة و استمراريته لدى الثقافات التي تؤمن بإعجاز هذا النص أو ذاك. فالمحكوم بطغيان الإعجاز محكوم بطغيان سياسة الطغاة. على ضوء هذه الاعتبارات , الحرية الحقة لا تتحقق سوى بالتحرّر من سلطة النص الإعجازي و المُعجِز للآخرين. فالإعجاز عجز ذهني و معرفي و لذا هو أدنى مستوى عقلي قد يصل إليه أي إنسان. 

إن أوضحنا مبادىء الإعجاز و صفاته فحينها من الممكن اعتمادها و اتباعها بشكل آلي فيخسر أي نص صفة الإعجاز دون النصوص الأخرى. لذلك يستحيل تحديد الإعجاز و إلا خسر وجوده أصلاً. لكن إن كان من المستحيل تحديد ما الإعجاز بمبادىء و صفات فحينها الإعجاز بلا وجود فخالٍ من أي معنى و دلالة فالذي من غير الممكن تعريفه فمعرفته لا وجود له. هكذا مفهوم الإعجاز مفهوم متناقض لأنَّ وجود الإعجاز يستلزم عدم إمكانية معرفته (لكونه عدم مقدرة أي فرد على الإتيان بمثله) بينما عدم إمكانية معرفته يتضمن عدم وجوده (فلِكُل موجود ثمة إمكانية أن يُعرَف و إلا لا حجة على وجوده أصلاً).

أما
بلاغة النص فسجن للنص و تحويل للكاتب البليغ إلى مجرّد آلة تتبع مبادىء البلاغة لصياغة نص بليغ. هكذا البلاغة كاذبة أيضاً تماماً كما هي مخادعة لأنها تقتل النص و كاتبه. فإن وُجِدَت مبادىء معينة للبلاغة فحينها لا ينبغي علينا سوى اتباعها لنصبح بلغاء و تمسي نصوصنا حائزة على صفة البلاغة. لكن حينها نغدو مجرّد آلات تتبع مبادىء معينة و تقلِّدها فتصبح نصوصنا أيضاً نتاج صناعة آلية ما يحتِّم موت النص البليغ و كاتبه. هكذا لا توجد بلاغة سوى البلاغة الكاذبة.

إن كانت البلاغة هي اختيار الألفاظ المناسبة للتعبير عن هذه أو تلك المعاني المناسبة فما علينا حينئذٍ سوى اتباع تلك الاختيارات المُحدَّدة على أنها مناسبة و تقليدها ما يؤدي بنا إلى أن نمسي آلات كتابية تقليدية فاقدة لأي بُعد إبداعي حقيقي مُجدِّد و لأي بُعد إنساني حُرّ. إن اتبعنا مبادىء البلاغة سنصبح تقليديين فيخسر نصنا صفة الإبداع. لذلك البلاغة نقيض الإبداع و بذلك البلاغة كاذبة دوماً. أما إذا كانت البلاغة هي إقناع الخصم بمعان ٍ راقية و أفكار قيّمة فحينئذٍ يغدو خطابنا البليغ سلطوياً قامعاً للمعاني و الأفكار المخالفة له و محتكراً للحقيقة و المعنى ما يحتِّم فقدان أي بُعد إنساني. هكذا البلاغة إما تقليد و تقاليد و إما طغاة و سجون عقول و لغات.

البلاغة تقييد المعنى بينما التبيين تحرير المعنى. فحين نتبع مبادىء البلاغة المُحدَّدة تتقيّد حركة صياغة النصوص فيتقيّد المعنى. لذا لا بدّ من الاستعانة بنقيض البلاغة ألا و هو التبيين لتحريرنا و تحرير معاني نصوصنا. فالتبيين يتضمن عدم اتباع أية مبادىء مُحدَّدة و من ضمنها مبادىء البلاغة ما يضمن لا محالة حرية الكاتب و نصوصه فيؤدي إلى نشوء الإبداع الحق غير المُعتمِد على التقليد. هكذا التبيين تحرير المعنى فنقيض البلاغة كآلية تقييد للمعاني. التبيين إيضاح المعنى بأي أسلوب ممكن أكان بالاعتماد على الفلسفات و العلوم و مناهجها أم كان بالاعتماد على أمثلة يومية بسيطة الدلالة أم بالاعتماد على المجاز و الرموز المتنوّعة. و بذلك لا يسجن التبيين نفسه في مبادىء أو مناهج مُحدَّدة على نقيض من البلاغة المُقيَّدة بقدسية نصوص الماضي. بالتبيين نحصل على إكثار للعبارات و الحجج بهدف الإيضاح على نقيض البلاغة التي تختصر المعاني بكلام قليل يضلّ مَن يسمعه أو يقرأه بِقلة كلماته و غياب الحجج فيه. فمن الخطأ القول إنَّ خير الكلام ما قل و دل لأنَّ ما قل ضلّ من جراء قلة كلماته التي تؤدي لا محالة إلى الخلاف حيال معاني الكلام القليل و مقاصده و ما يُحتِّم بدوره غياب المعنى عن الكلام القليل. فشرّ الكلام ما قل و ضلّ.

بالإضافة إلى ذلك , النص الذي يدَّعي أنه ذو إعجاز و بلاغة يدَّعي أيضاً أنه حامل اليقين بإعجازه و بلاغته. و بذلك هو نص مخادع بثلاثية خداع الإعجاز و البلاغة و اليقين. اليقين قاتل المعاني بينما الجهل مساءلة المعنى. لذا الجهل أسمى من اليقين. فاليقين هو المعتقد الذي لا يقبل الشك و المراجعة و الاستبدال و بذلك , بالنسبة إليه , كل معتقد مخالف أو مناقض له هو معتقد كاذب و لا بدّ من رفضه. هكذا اليقين يقتل معاني كل المعتقدات الممكنة أو المحتملة المختلفة عنه. و لذلك اليقين قاتل المعاني.

صاحب اليقين يكتفي بما تيقن به بسبب يقينية ما يعتقد فعدم إمكانية مراجعة صدقية ما يعتقد. لكن عندما يكتفي الفرد بيقينياته لكونها يقينيات فحينئذ ٍ يتوقف البحث المعرفي لديه فيغتال أية إمكانية في الاستمرار في عملية اكتشاف معان ٍ جديدة و بذلك يدفن كل المعاني التي من الممكن اكتشافها تماماً كما يدفن كل معنى يخالفه. من هنا , اليقين قاتل العقل فقاتل الإنسان و إنسانيته. لكن متى نجهل أمراً معيناً نسأل و نتساءل عنه ما يضمن الشروع بالبحث المعرفي و استمراريته فيضمن بدوره فعّالية العقل و إنسانية الإنسان الكامنة في استمرارية التفكير و البحث المعرفي. من هنا , الجهل بحث عن المعاني فمساءلة المعنى. و بذلك الجهل أفضل و أسمى من اليقين.

شاعر وكاتب وباحث في الفلسفة
بكلوريوس فلسفة من الجامعة الأمريكية في بيروت 
شهادة الماستر في فلسفة المعرفة والميتافيزياء من جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة الأمريكية 

=========

تعليقات