ذكري رحيل مفكر ليبرالي - د.سعيد النجار
- الحصول على الرابط
- X
- بريد إلكتروني
- التطبيقات الأخرى
في ذكرى مفكِّر جسور
أسامة عرابي
الحوار المتمدن 2019 / 1 / 27
حلَّت هذه الأيام الذكرى الخامسة عشرة لرحيل المفكر الليبرالي د.سعيد النجار(1921-2004) أستاذ الاقتصاد الأسبق بكلية الحقوق_جامعة القاهرة،ومؤسس جمعية النداء الجديد ورئيسها، الذي أثرى المكتبة العربية بكتبه ودراساته التي اتسمت دومًا بحس نقدي رفيع،ونزعة إنسانية رحبة،داعيًا إلى مجتمع ليبرالي منفتح، يسمح بتحقيق التوازن بين الفرد والجماعة،بين الأهداف الاقتصادية والتطلعات الروحية،بين استقلالية الفرد والحاجة إلى الارتباط بالجماعة،من خلال دولة الحق والقانون والديمقراطية، كأساس للحرية والمساواة والتماسك الاجتماعي،على نحو ما نطالعه في كتابه العُمدة"تجديد النظام الاقتصادي والسياسي في مصر"الذي صدر في جزأيْن عن"دار الشروق"عام1997، انطلاقًا من مقولة محورية لديه ترى أن"الفرد هو الحقيقة الاجتماعية التي تعلو فوق الدولة، وأن الدولة إنما هي وكيلته وخادمه للقيام بوظائف محددة، لا يجوز لها أن تتخطاها أو أن تفتات على حقوقه الأساسية إلا في الحدود والشروط التي يضعها القانون"، مُضيفًا:"إن الحرية الفردية هي الإطار الصحيح لتحقيق تنمية شاملة مطردة، كما أنها أساس كل تقدم حضاري،ومنبع الإبداع،ومصدر الفضائل".غير أن د.سعيد النجار يبادر فيزيل اللبس الذي يَرين على مبدأ الحرية الفردية، ويصمه بالأنانية والمصالح الضيقة؛ ومن ثَمَّ لا يمزج الحق بالواجب،فيقول:"إن المسئولية الفردية هي الوجه الآخر للحرية الفردية، وهي لا تنظر إلى الفرد باعتباره كيانًا قائمًا بذاته،إنما تنظر إليه باعتباره جزءًا لا يتجزأ من منظومة اجتماعية". وهنا يحرص د.سعيد النجارعلى تأكيد العلاقة الوثيقة بين الاقتصاد الحر ومفهوم العدالة الاجتماعية، مستفيدًا من "نظرية العدالة"التي قال بها"جون رولز وروبرت نوزيك"، طامحًا إلى ضرب من ضروب العدالة الاجتماعية يقترب من مبادئ حزب العمال في بريطانيا أو الديمقراطية الاجتماعية في البلاد الأوربية.مُحدِّدًا ركائزها فيما يلي:
1- المساواة بين جميع الأفراد فيما يتمتعون به من حقوق أساسية.2- حق كل فرد في ثمار عمله وماله طالما أنه مكتسب بالطرق المشروعة.3- حق الفقراء والمعوَّقين والمستضعَفين في الأرض في شبكة للضمان الاجتماعي تكفل لهم حدًّا أدنى في إطار الإمكانات المتاحة للدولة.4_ مبدأ تكافؤ الفرص بمعزل عن الانتماءات الطبقية أو الأسرية أو الدينية أو العِرقية أو الطائفية أو المحسوبية أو العصبية أو الشللية.5_ الأهمية الخاصة لنظام الضرائب والنفقات العامة لتخفيف الفوارق بين الدخول والثروات وتوفير الموارد المالية الكافية لأداء الخدمات الأساسية التي تعود الفائدة الكبرى منها على الفقراء وأصحاب الدخل المحدود.الأمر الذي حدا به إلى تلخيص فلسفته الليبرالية ومنهجتها في دوائر ثلاث حدَّدها في:الحرية..العدالة..العقلانية. وبذلك جاء مبدأ الحرية الفردية متناغمًا مع إيمان جمعية النداء الجديد بمبدأ الحرية الاقتصادية؛ بمعنى "الإفراج عن قدرات الأفراد الخلاقة، وتمكينهم من تحقيق ذواتهم بعيدًا عن القبضة الخانقة لبيروقراطية الدولة"على حدِّ تعبيره. مُضيفًا أن التجرِبة أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك صواب مقولة ابن خلدون: "إذا اشتغل السلطان بالتجارة، فسد السلطان وفسدت التجارة". لهذا لم يتوانَ عن تأكيد اللُّحمة القائمة بين الإصلاح السياسي والإصلاح الاقتصادي،وهو ما لم يُعره نظامنا السياسي اهتمامًا،وترك لجماعات الضغط والمصالح"الحبل على الغارب"،غير مبالٍ بتداعياته الخطيرة التي أدَّت إلى"تركيز السلطة السياسية في يد رئيس الجمهورية وتجريد المؤسسات الدستورية الأخرى من أي سلطة حقيقية، وجعل اختيار رئيس الجمهورية بالاستفتاء على شخص وحيد دون منافسة مع مرشحين آخرين، وأجاز أن يحتكر شخص واحد رئاسة الجمهورية فترة بعد أخرى دون حدود،وأن تعيش مصر في ظلِّ حالة الطوارئ دون انقطاع منذ إعلانها غداة اغتيال الرئيس السادات"؛ ما دفع د.سعيد النجار إلى إرسال خطاب إلى رئيس الجمهورية عام 1995، نشره في إحدى"رسائل جمعية النداء الجديد"بعنوان"نظامنا السياسي في مفترق الطرق"، بعد أن وجد نفسه غير قادر على تلبية الدعوة التي وُجِّهت إليه لحضور"مؤتمر الحوار الوطني"،فاستبدلها بهذا الخطاب الذي جاء فيه:"إنني- يا سيادة الرئيس- أومن إيمانًا عميقًا بأن المشكلة الأولى في مصرفي هذه المرحلة الدقيقة التي نمر بها، هي مشكلة نظامنا السياسي الذي يعاني من اختلالات شديدة تحول دون المواجهة الجادة لما يعترضنا من تحديات ونحن على عتبة القرن الحادي والعشرين..ومن ثم فإن نقطة البداية في إخراج مصر من أزمتها الراهنة ودفعها في طريق التقدم والازدهار،إنما تتمثل في مراجعة شاملة لنظامنا السياسي بوضع دستور جديد،على أسس ومبادئ ديمقراطية حقيقية". لذا كان استنكاره كبيرًا لاستدعاء د.حلمي مراد نائب رئيس حزب العمل ووزير التربية والتعليم الأسبق إلى نيابة أمن الدولة، واحتجازه لمدَّة يوميْن في قسم شرطة النزهة،ثمَّ الإفراج عنه بكفالة؛ بتهمة إهانة رئيس الجمهورية،على خلفية ما كتبه في جريدة "الشعب"بتاريخ الخامس من أكتوبر سنة 1993 قائلًا بجسارته المعهودة:"إننا نُطالب الرئيس حسني مبارك بمناسبة انتهاء فترة ولايته الثانية وبدء ولايته الثالثة،أن يُودِعَ مجلس الشعب بيانًا بصفقات الأسلحة التي عقدها بيعًا وشراءً بناءً على التفويض الممنوح له من مجلس الشعب؛ حتى يتمَّ فحصها بمعرفة جهاز المحاسبات، ويتمَّ إبراء ذمته منها وفقًا للأصول الدستورية والمالية المُتَّبعة في هذا الشأن".وكتبَ د.سعيد النجار رافضًا معاملة كاتب ومفكِّر سياسي كبير في قامة د.حلمي مراد معاملة المجرمين،وإيذاءه في جسده وكرامته كما يُؤذى الإرهابيون.متسائلًا بحقٍّ: ما وجه الخطأ والإهانة في ذلك؟ وتابعَ: إذا كانت مطالبة د.حلمي مراد بالكشف عن طبيعة هذه الصفقات السريَّة وما قد يشوبها من مخالفات تُعتبر إهانة، فإن ذلك ينطوي على المعاني الآتية:1_ إنه لا يجوز مطالبة رئيس الجمهورية بتقديم كشف حساب عن أي شيء؛ لأن مثل هذه المطالبة تحمل معنى التشكيك في ذمته، وهذا أمر محظور.2_ إن رئيس الجمهورية فوق أي مساءلة مثلُه في ذلك مثلُ الملك؛ حيث كان الدستور قبل ثورة 1952 يضعه فوق القانون، ويعتبر أي نقد له سبًّا في الذات الملكية. 3- إن هناك بعض الأعمال والتصرفات وبعض الهيئات من أجهزة الدولة لا تخضع لأي نوعٍ من الرقابة السياسية أو التشريعية أو الإدارية. ثمَّ أضاف: إذا كانت هذه هي المعاني التي ينطوي عليها احتجاز د.حلمي مراد، فإن من الواجب توضيح ذلك في بيانٍ رسمي من مجلس الشعب أو رئاسة الجمهورية أو رئيس الوزراء؛ لكي نعرف ما هو مشروع وما هو غير مشروع. ورأى د.سعيد النجار أن ما جرى للدكتور حلمي مراد يدلُّ دلالة قاطعة على أن"نظامنا السياسي يُركِّز سلطات واسعة في يد رئيس الجمهورية، وهي سلطات تزيد كثيرًا عمَّا هو موجود في أي نظام آخر، سواء كان من نوع النظام البرلماني أو النظام الرئاسي. ومن المبادئ الأساسية لسلامة أي نظام سياسي هو أن السلطة تستتبع المسئولية.فإذا كانت مطالبة رئيس الجمهورية بتقديم كشف حساب تُعتبر إهانة تستحقُّ المؤاخذة؛ فإن معنى ذلك القضاء على هذا المبدأ الأساسي وذلك بالفصل بين السلطة والمسئولية.فصاحب السلطة يُصبح غير مسئول، وصاحب المسئولية لا سلطة له. ومن شأن ذلك الإخلال الخطير بصحة النظام السياسي وسلامته".وشدَّدَ د.سعيد النجار على أنه لا يُمكن أن تكون هناك ديمقراطية إلَّا إذا استقرَّ مبدأ المساءلة والشفافية. وأن من حقِّ الشعب المصري أن يعرف على وجه الدقة كيف تُنفق أموال الدولة، وأين تذهب الموارد المالية التي يُساهم فيها المواطن العادي وتُقتطع من قوته اليومي.إذ لا يُمكن أن يكون توجيه سؤالٍ عن ذلك إهانة لأحد.مؤكِّدًا أن المفاهيم والروح الشمولية مازالتا تُسيطران على عقول الكثيرين ممنْ يجلسون في موقع السلطة. وأن من واجب الرئيس حسني مبارك أنْ يُبادر إلى الاعتذار إلى د.حلمي مراد وتكريمه؛ فإن مجد مصر ومستقبلها يتوقفان على أمثال حلمي مراد، وليس على الطبَّالين والزمَّارين الذين أفسدوا ومازالوا يُفسدون في الأرض.ثمَّ عاد د.سعيد النجار للدفاع عن د.حلمي مراد عقب تقديمه مرَّة ثانية إلى نيابة أمن الدولة بعد مُدَّة قصيرة من واقعة احتجازه وإيذائه في قسم شرطة النزهة؛ إثر سلسلة مقالاته التي نشرها في جريدة"الشعب" عن المخالفات الجسيمة المنسوبة إلى الكيميائي عبد الهادي قنديل وزير البترول الأسبق، موضحًا أن ما يُتخذ من إجراءات ضده، إنما هي حلقة من سلسلة الملاحقة الإزعاجية التي تُباشرها سلطات الدولة ضده عقابًا له على ما يقوم به وما تقوم به جريدة الشعب من ممارسة حق النقد لسياسات الحكومة والشخصيات العامة بمناسبة أداء وظائفهم. رافضًا أن تزجَّ سلطات الاتهام بنفسها في اللعبة السياسية، وأن تجعل من نفسها سيفًا مُصْلتًا على رقاب الأحرار وعلى حرية الصحافة. لافتًا النظر إلى مفارقة عجيبة بين إحالة د.حلمي مراد وجريدة الشعب إلى نيابة أمن الدولة، في الأسبوع ذاته الذي تفجَّرت فيه فضيحة نادي الشمس وما كشفت عنه من فساد سبعة وزراء منحوا أحد المرشَّحين في انتخاب هذا النادي مزايا غير مشروعة؛ لعقيدتهم بأنه على صلة برئيس الجمهورية، وهم حريصون كلَّ الحرص على اكتساب رضا الرئيس وتفادي غضبه ولو كان ذلك على حساب القانون والعدالة. ومن ثَمَّ فإن الجريمة المُرتكَبة مُضاعفة. وتوقَّفَ د.سعيد النجار عند مغزى ما سرده د.حلمي مراد وخطورته؛ من أن قرار الإحالة إلى نيابة أمن الدولة تمَّ بناء على تقرير من الخبراء المرءوسين لوزير البترول، وأنه لم يطَّلع على هذا التقرير، وأنه توجد خصومة سابقة بين د.حلمي مراد والنائب العمومي نظرًا إلى انتقاده تعيينه في منصبه مع تخطي غيره من زملائه الأقدم منه، وكذلك احتمال مجاملة وزير البترول؛ لأنه سبق أن عيَّنَ ابن النائب العمومي في وظيفة دون أن تتوفر المؤهلات لهذا التعيين. وهو الأمر الذي لا يُفضي إلى أيّ ضمانات للعدالة المرجوَّة. لهذا ارتأى د.سعيد النجار بجلاء أن ملاحقة د.حلمي مراد مرَّة أخرى مع ما نراه حولنا من عموم الفساد والبلوى، ومع تقاعُس سلطات الاتهام في حالات أخرى عديدة، يكون مدعاة لتقويض ثقة الشعب في عدالة سلطات الاتهام، وهذا ما لا نريده. لهذا عمدَ د.سعيد النجار إلى تنظيم مؤتمر عن الشرعية الدستورية في القارة الإفريقية عام2001، بعد أن رفضت سلطات الأمن المصرية السماح له بعقد مؤتمر عن الإصلاح السياسي في مصر، وقال له ضابط الأمن الكبيربخفة واستهتار شديديْن: وهل مصر في حاجةٍ إلى إصلاح سياسي؟ فدعا إلى ( مؤتمر الشرعية الدستورية في القارة الإفريقية)، مع نفرٍ من المتخصصين، ركَّز من خلاله على العلاقة الوثيقة التي تربط بين الشرعية الدستورية وعملية التنمية؛ حيث أبانت التجربة في بلاد عديدة، أن التنمية تتوقف- إلى حد كبير- على الإطار الدستوري والقانوني السائد، فضلًا عن السياسات والعوامل الاقتصادية المعروفة،وأدرك أن الأهمية المنوطة بالديمقراطية تكمن في قدرتها على التنبؤ بما يسمح باتخاذ قرارات استثمارية ذات آفاق طويلة المدى، كما تعني أن الحكومة حكومة قوانين وليست حكومة أشخاص،وأن المؤسسات السياسية والاقتصادية ذات حياة خاصة بها،لا يمكن الاعتداء عليها ولا الانتقاص من حقوقها. وهو الأمر ذاته الذي نعاه على"وثيقة الإسكندرية"التي طُرحت في مؤتمر"قضايا الإصلاح العربي:الرؤية والتنفيذ" الذي عُقد في"مدينة الإسكندرية"من14:12مارس 2004، ووجد معه أنه لا يكفي التأكيد على وجوب التحوُّل نحو الديمقراطية، فالمسألة التي يتعيَّن أن تثار هي:هل تبقى الانتخابات تحت سيطرة وزارة الداخلية،أم ننقلها إلى وزارة العدل،أم نضعها كما هي الحال في الهند،تحت سيطرة لجنة مستقلة عن السلطة التنفيذية تتمتع بكل السلطات اللازمة للإشراف على العملية الانتخابية من أولها إلى آخرها؟ كذلك تتكلم الوثيقة عن أن الديمقراطية تعني تداول السلطة،وليس عندنا أي تداول للسلطة،وهو ما يتعارض مع أبسط مبادئ الديمقراطية،وأفضى إلى ركود الحياة السياسية،وضمور الأحزاب، وانتشار السلبية إزاء العمل العام على أوسع نطاق، وأردف د.سعيد قائلًا،على نحو ما هو مدوَّن في محاضر"المجلس المصري للشئون الخارجية"التي عقدت ندوة لمناقشة الوثيقة يوم 25 مارس 2004 حضرها جمال مبارك بوصفه متحدثًا رئيسًا: لقد تولَّد عندي انطباع بأن واضعي الوثيقة أرادوا أن يعالجوا موضوع الإصلاح بطريقة دبلوماسية لا تؤذي شعور السلطات ولا تغضبها؛ ومن ثم لجئوا إلى هذه المنهجية القائمة على تعميمات يوافق عليها الجميع! ثم تابع قائلا:إن الذين يحكمون مصر الآن لا يعرفون قيمتها ولا تاريخها،ولو كان والدك جادّا في الإصلاح، فليسمحْ بوجود أكثر من مرشح للرئاسة أمامه في ظل معركة متكافئة.لذا عُني بتشكيل "اللجنة المصرية المستقلة لمراقبة الانتخابات"عام 1995من كل الأحزاب والتيارات الفكرية وأعضاء المجتمع المدني؛ نشدانًا للحيدة والنزاهة والشفافية،وأخذ يتساءل عن مغزى انتخاب رئيس مجلس الشعب المصري رئيسًا للاتحاد البرلماني الدولي لدورة جديدة بدأت من 17سبتمبر 1994،وانتهت في 1998، في الوقت الذي يترأس فيه برلمانًا هو جزء من نظام يفتقر إلى أبسط مقومات الديمقراطية؟ وأضاف:إن الاتحاد البرلماني يكون قد أدى لنا خدمة عظيمة لو أن رئيس الجمهورية ود.فتحي سرور وأقطاب هذا النظام اتخذوا من هذا الأمر حافزًا لهم على المسارعة بإجراء الإصلاحات السياسية التي تضعنا حقيقة في صف البلاد الديمقراطية،أما إذا اتخذوا هذا الأمر دليلًا على أننا نعيش أزهى عصور الديمقراطية كما يزعمون، فإنني مرة أخرى أهنئ الدكتور فتحي سرور،وأعزِّي الاتحاد البرلماني والديمقراطية. وعلى هذه الدرجة من الوضوح والجسارة الفكرية،كتب دراسة قيّمة في مايو 2003،جاءت بعنوان"مفهوم المواطنة في الدولة الحديثة"،خلُص فيها إلى أن مصر القرن الحادي والعشرين دولة قومية تستوجب المساواة بين جميع المواطنين،بصرف النظر عن ديانتهم أو جنسيتهم أو عنصرهم أو عقيدتهم السياسية، محذّرا من خطورة رفع شعار الخصوصية على حقوق الإنسان .ومن ثَمَّ، لا مناص من القبول بعالمية مبادئ حقوق الإنسان؛ بوصفها القاسم المشترك بين جميع الأشخاص والشعوب، أو قل إنها الحد الأدنى الذي تتطلبه الكرامة الإنسانية. مُشدِّدًا على أن قضية حقوق الإنسان ليست مسألة أكاديمية ولا مثالية، وأن حمايتها والعمل على ترسيخها من أهم مقومات التقدُّم."فلا ديمقراطية دون حقوق الإنسان، ولا تنمية ولا حضارة بغيرها. بل إن إنسانية الإنسان لا تكتمل طالما أنه محروم منها،أو من بعضها أو عرضة للاعتداء عليها".داعيًا إلى إنشاء هيئة رسمية خاصة بحقوق الإنسان على غرار دولة الهند ؛ بحيث تكون الدولة ذاتها مسئولة عن جعل حقوق الإنسان حقيقة واقعة، بدلًا من تركها للجهود الفردية والمبادرات التطوعية على حدِّ تعبيره.إلا أن د.سعيد النجار بحيويته الذهنية الباهرة،لم يكن يثق في النظام الأمريكي وسياساته النيوليبرالية،ذات الطبيعة العدوانية الإمبريالية حيال بلدان العالم الثالث،لا سيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، واحتلال العراق،وأصدر مع عدد من القوى الوطنية"بيان المائة"عام1999، الذي أدان بشدة الاعتداء الوحشي الذي ارتكبته الولايات المتحدة وبريطانيا ضد العراق، وناشد مجلس الأمن العمل على إلغاء الحظر الجوي على شمال العراق وجنوبه، مع ضرورة توفير الحماية اللازمة للشعب العراقي في حدود ما يقضي به القانون الدولي.كما كان إيمانه راسخًا بعدالة القضية الفلسطينية،وحتمية انتصارها، داعيًا إلى تقوية"جبهة مقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني"، ورفضَ السفر إلى إسرائيل، ووقف ضد محاولات البعض جعل جمعية النداء الجديد ناطقة بلسان المُطبِّعين مع العدو الصهيوني، حتى إن أحدهم ممنْ فرّوا إلى إسرائيل، قدَّمَ نفسه بوصفه عضوًا في الجمعية، فسارعَ إلى التبرؤ منه ومن خطوته المشبوهة هذه. لذلك أتى حرصه الشديد على إصدار"وثيقة الوفاق الوطني"؛لانتشال البلاد من وهاد التخلف والتبعية وتحقيق الاستقلال الوطني المنشود، بعد أن تلتقيَ جميع القوى السياسية على اختلاف مشاربها وتوجهاتها السياسية أو الإيديولوجية حول مجموعةٍ من المبادئ الأساسية التي تتخطى الفوارق الحزبية، وتمثِّل الحد الأدنى للعمل العام في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ "من أجل عدم تزييف الإرادة الشعبية تحت أي ظرفٍ من الظروف، أو الاعتداء على الدستور، أو تفسير الدستور على نحوٍ يجعل منه حبرًا على ورق، أو انتهاك حقوق الإنسان الأساسية، أو التدخل في عمل السلطة القضائية، أو التعدي على حرية الصحافة"وفق تعبيره. لذا رأى أن مفهوم الوفاق الوطني يقوم على قبول المجتمع الصريح أو الضمني لبعض المبادئ الأساسية:
1- إن الحكومة العادلة الفعالة لابدَّ أنْ تكون حكومة قوانين،وليست حكومة أشخاص.2_ إن المؤسسات بالمعنى الواسع لهذه الكلمة لها حياة وأهداف مستقلة عن حياة وأهداف العاملين فيها، وإن المهمة الأولى للقائمين عليها تنحصر في تنمية المؤسسة، وجعلها أكثر فعالية في تحقيق الهدف من نشأتها وحمايتها من الانحراف عن أداء رسالتها. 3- إن الفرد مصدر الحضارة، وإن احترام حقوقه الأساسية وتمكينه من التعبير عن ذاته دون خوف، وأداء دوره كاملًا في المجتمع هو الشرط الأساسي للتنمية والتقدُّم. 4_ إن العدالة الاجتماعية هي البيئة الصالحة لكي تزدهر دولة القانون والمؤسسات.
وبذلك ينهض الوفاق الوطني، من وجهة نظره، بوظيفة حيوية في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لأي بلدٍ من البلاد، مُفادها وضع قواعد اللعبة السياسية سواء من حيث حدود العمل السياسي أو التفرقة بين الواجب الحزبي والواجب القومي، وما يجوز وما لا يجوز في ممارسة العمل العام. وفي هذا السياق، يتساءل: هل الوفاق الوطني والقواعد الدستورية شيء واحد؟ وهنا يقول بوضوح: من المؤكَّد وجود صلة بين الاثنيْن.ولكنهما مع ذلك مختلفان.فالدستور قد ينطوي على قواعد تفصيلية عديدة لا تدخل في مفهوم الوفاق الوطني. لكن الوفاق الوطني يتجاوز مجرد الالتزام بنصوصٍ دستورية، إلى ما يُمكن أن نُسميه "أخلاقيات العمل العام". وهو ما يشمل الروح التي يتمُّ بها تطبيق أحكام الدستور، كما يشمل الالتزام ببعض قواعد السلوك التي لا يُمكن أن تكون موضع تشريع.
وبذلك قُدِّرَ للدكتور سعيد النجار أن يلعب دورًا محوريًّا في إطار المجتمع المدني، من خلال جمعية النداء الجديد ورسائلها ونشرتها الشهرية وندوة الاثنين الأسبوعية ومشاركاته في جُلِّ الفعاليات السياسية والثقافية المصرية، هادفًا إلى نشر قيم العقلانية والتنوير والتسامح والتعددية والحقّ في الاختلاف. رحمه الله.
======
تعليقات
إرسال تعليق