كتابات مختارة - نقد أدبي - 2

                        إحسان عبد القدوس؛ الصورة النمطية للكاتب/ 2
دلور ميقري - كاتب وفنان تشكيلي من سورية
الحوار المتمدن  2019 / 1 / 3

لم يكن بلا مغزى، على رأيي، أن يترافق صدورُ الرواية الأولى لإحسان عبد القدوس، " النظارة السوداء "، مع هزيمة الجيوش العربية في فلسطين عام 1948. ذلك أنّ الكاتب هوَ من نشر في الصحافة قضية الأسلحة الفاسدة؛ وهيَ قضية، نعرف الآنَ أنها كانت مجرد كذبة كبيرة. ربما تم تلفيق الكذبة، في أحسن حالات البراءة، لغاية الإثارة الصحفية أو للمساهمة في تأجيج الصراع ضد الحكم الملكي. ليسَ فقط فقدان أية وثيقة، هوَ ما يُعري تلك القضية، بل وأيضاً لحقيقة أن الجيش السوري ـ كمثال ـ لاقى نفس الهزيمة على أرض فلسطين وكان آنذاك يستعمل أسلحة فرنسية الصنع!
المعروف كذلك، أنّ قضية الأسلحة الفاسدة استغلها بكبكاشي مغامر، هوَ جمال عبد الناصر، لكي يجمع حوله مجموعة من زملائه في تنظيم أطلق عليه اسم " الضباط الأحرار "، والذي سيستولي على السلطة بعد انتهاء حرب فلسطين بأربعة أعوام لكي يخنق الحريات العامة في مصر ( وسورية لاحقاً ) ومن ثم ليتسبب بأكبر هزيمة في تاريخ العرب الحديث.
" النظارة السوداء "، موضوعها كأنما يتنبأ بما سيكون عليه موقف مؤلفها حينَ أطاح العسكر بالحكم الملكي الدستوري وأقاموا ديكتاتورية مستبدة. ذلك أن بطل الرواية، وهوَ مهندس في معمل يملكه أحد الرأسماليين، يتعرض لتجربة الاختيار بين مصلحته الشخصية وقناعاته الفكرية، التي جعلته يدافع عن مصالح العمال. وكان قد وقع في هوى فتاة طائشة، غير مبالية بهموم الحياة. عندما يتمكن من جذب الحبيبة إلى قناعته الفكرية، يكون هوَ قد انزلق في علاقة مع ابنة صاحب المصنع، أساسها المنفعة الشخصية بطبيعة الحال. 
وإذاً، احتفى العهدُ الجديد بالصحفي الشاب، مفجّر قضية الأسلحة الفاسدة. وكان قد أضحى وقتئذٍ أديباً، ينشر كل عام روايةً أو مجموعة قصصية. فعُهد إليه برئاسة تحرير صحيفة " أخبار اليوم "، فاستمر فيها إلى عام 1966. ثم عاد إليها بعد ذلك بخمس سنين، كرئيس لمجلس إدارتها، إلى أن تركها نهائياً عام 1974 ليتفرغ تماماً للأدب.
حتى عام 1955، تاريخ نشر " في بيتنا رجُل "، كانت أعمال الكاتب الروائية تتسم بالرومانسية والبعد عموماً عن المشكلات الحقيقية للمجتمع المصري؛ وستبقى هكذا، في واقع الحال، خلال مسيرته الأدبية كلها. على ذلك، لا يُمكن عزل " في بيتنا رجل " عن رغبة مؤلفها في التسويق للعهد الانقلابي عن طريق العودة إلى سرد مرحلة من النضال ضد الملكية، المتهمة من لدُن خصومها بالعمالة للإنكليز. إن هذه الرواية قد جرت الإشارة إليها كأهم أعمال إحسان عبد القدوس، وربما لكونها ذات مضمون مختلف عن أكثر أعماله، وفي التالي، أقل إثارة للجدل. ولكنني أراها رواية ضعيفة من الناحية الفنية، حافلة بالمواقف المفتعلة الساذجة. إنها تمت إلى قناعات كاتبها السياسية ( أو دوافع مصلحته الشخصية! ) وليسَ للواقع، خصوصاً أنها كتبت ونشرت في العهد الناصري لا الملكي، الذي تدور الأحداث فيه. 
القصة عن شاب ينتمي لمنظمة ثورية سرية، تسعى لتخليص الوطن من هيمنة الإنكليز وأعوانهم، يُكلف يوماً بمهمة اغتيال رئيس الوزراء. على أثر عملية الاغتيال، يُلاحق وتنشر صوره في الصحف. يلتجئ إلى كنف أحد أصدقائه، وكان هذا يعيش مع أسرته. فلا تلبث صغرى ابنتي الأسرة أن تقع في هوى البطل الهارب، والذي سيبادلها مشاعرها. إلا أنه يضطر لترك المنزل، بعدما جاءت أوامر التنظيم بضرورة مغادرته البلد. وإذا بنا نجده مع مجموعة فدائيين، تقتحم أحد المعسكرات الإنكليزية بالقرب من قنال السويس. بعيد استشهاده بأيام، تتسلم حبيبته رسالة كان قد أوصى رفاقه بتسليمها لها، وفيها يتحدث عن الوطن والحرية والواجب. 
في الواقع، أنّ أي دارس موضوعي لتاريخ تلك المرحلة، يدرك أن إحسان عبد القدوس قدّم بطل الرواية بصفة مزيفة تماماً. ذلك أن حادثة اغتيال رجل القصر الملكي ( وهيَ بؤرة حبكة الرواية )، كانت أحد الأعمال الإرهابية لجماعة الأخوان المسلمين. وكان القصر الملكي، في حينه، يرد على تلك الأعمال بإرهاب مضاد، وذلك بوساطة تنظيم مرتبط به خفيةً؛ يُدعى " أصحاب القمصان الحديدية ". جماعة الأخوان، صارت عدوة النظام الناصري في زمن كتابة الرواية، وبطبيعة الحال كان من المستحيل على المؤلف جعل بطله على علاقة تنظيمية بها. كذلك من ناحية أخرى، لا بدّ أن المؤلف فكّرَ بلا منطقية ارتباط شاب أخواني بعلاقة حب مع فتاة وعقده لقاءات غرامية معها داخل منزل أسرتها وخارجه! 
على أيّ حال، وضعت " في بيتنا رجل " قدَمَ مؤلفها على طريق الشهرة، بالأخص حين تمَ إنتاج الرواية سينمائياً عام 1961. إذ لاقى الفيلم نجاحاً كبيراً ( من بطولة عمر الشريف ومجموعة كبيرة من النجوم )، ما شجّعَ الكاتب على الدخول بنفسه إلى ميدان الفن السابع كمؤلف وسيناريست. كما أن " في بيتنا رجل " قربت إحسان عبد القدوس أكثر من صنّاع القرار السياسي، وما عتمَ أن تنقل من صحيفة رسمية إلى أخرى بمنصب رئيس التحرير. من مكانه المرموق، صارَ الكاتب يتماهى مع بطل تلك الرواية لدرجة التصريح بأنه تعرض لعدة محاولات اغتيال في الزمن الملكي! 
جمال عبد الناصر، الذي منح عبد القدوس أعلى تكريم في مصر وهوَ وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى، سيجعله الكاتب خصماً مزعوماً وذلك في أوان الحملة الساداتية على عهده في منتصف سبعينيات القرن الماضي. هذه المرة، سيزعم أنه جرى اعتقاله لمرات بسبب معارضته للعهد الناصري، المستبد. نفس السيرة كررها عبد القدوس بعد اغتيال السادات، وذلك حينَ ذكّرَ بمعارضته ـ كذا ـ لعهده على خلفية سياسة الانفتاح واتفاقية السلام مع إسرائيل. 
في بداية هذه الدراسة، قلنا أنّ إحسان عبد القدوس لم يُحسن التعبير عن هموم وآمال الطبقة الوسطى، التي انتمى إليها.. في مبتدأ حياته، على الأقل. هذه الطبقة، شهدت نمواً كبيراً في العهد الناصريّ، آنَ تم توزيع الأرض على فقراء الفلاحين؛ ما مكنهم ليس فقط من تحسين معيشتهم بل وأيضاً إرسال أولادهم إلى مدارس الدولة، المجانية، كي يتخرجوا منها بشهادات عالية. إلا أن أسرة كاتبنا، من ناحيتها، كانت قد شقت طريقها قبلاً نحوَ الطبقة الراقية، وذلك بتحول " روز اليوسف " إلى مؤسسة صحفية ضخمة، كان في قدرتها حتى منافسة جريدة مخضرمة مثل " الأهرام ". مع ذلك، استمرت روايات وقصص إحسان عبد القدوس في تناول حياة أفراد من الطبقة الوسطى، مركّزةً على معالجة مشاكلهم من منظور شبه أحاديّ؛ العلاقة بين الرجل والمرأة، وبالأخص العقد النفسية الجنسية. مع أن عبد القدوس ـ على حد علمي ـ لم يتكلم مرةً عن إعجابه بالروائي الإيطالي ألبرتو مورافيا، بيدَ أنني أجده متأثراً بشدة بأعماله ذات المواضيع الإباحية الجريئة. روايات مورافيا، كانت قد لاقت رواجاً كبيراً بين الشباب في عقدي الخمسينات والستينات حينَ تُرجمت إلى العربية في مدينة الحرية؛ بيروت. 
في آونة البداية الأدبية لإحسان عبد القدوس، أي في نهاية عقد الأربعينات وبداية الخمسينات، كانت الأوساط المثقفة في المشرق متحمسة لنظريات التحليل النفسي، المرتبطة باسمَي فرويد ويونغ بشكل خاص. هذا الحماس، عبّرَ عنه أيضاً الأدباء إن كان بشكل انفعاليّ أو منطقيّ. وكان عبد القدوس من النوع الأول، جاعلاً الطبيب النفسيّ بطلاً لبعض رواياته وقصصه؛ وكأمثلة على ذلك: " أين عقلي "، " بئر الحرمان " و" شيء في صدري ". لعل رواية نجيب محفوظ، " السراب "، وكانت قد صدرت في تلك الحقبة الزمنية، هيَ أفضل مثال يتسم بالأصالة في معالجة عقدة أوديب، الفرويدية، وأيضاً لناحية خروج مؤلفها، لأول مرة، عن خطه الواقعي النقدي وكذلك أسلوبه في الكتابة. في تعليقه على تلك الرواية عقبَ صدورها، وربما تأثراً بقوة الموضوع المُعالَج، قال إحسان عبد القدوس ساخراً: " بطل رواية السراب الحقيقي، قد يكون نجيب محفوظ نفسه! ". 
مما يجدر ذكره، بمناسبة إيراد مثال أديب نوبل العربي، أنه وعلى الرغم من انتمائه عضوياً للطبقة الوسطى فقد كانت أعماله الروائية والقصصية أقربَ إلى الفئات الفقيرة والهامشية من المجتمع. فقدمَ محفوظ نماذجَ إنسانية خالدة، ستبقى مطولاً في وجدان القارئ وذاكرته؛ كما في روايات " القاهرة الجديدة " " زقاق المدق "، " بداية ونهاية " وغيرها. 
لو نحينا مسألة المنافسة بين الأدباء ( كيلا نقول: الحسد! )، سنلاحظ أن عبد القدوس لحق نجيب محفوظ إلى ميدان الفن السابع، حيث أسهم بدَوره في صناعة السينما المصرية عن طريق رفدها بالمواضيع الروائية والقصصية، وصولاً لكتابة الحوار والسيناريو. إذ لا يستطيع المرء سوى إبداء الإعجاب ببعض الأفلام، المستمدة من أعمال نجيب محفوظ، نفذها مخرجون كبار رواد، ففي مقابل ذلك، لا يمكنه تجاهلَ أفلامٍ رديئة أساءت لمكانة المؤلف. أما بشأن إحسان عبد القدوس، فإن أعماله كانت محظوظة عموماً عندما جسّدتها السينما، لدرجة أنني شخصياً أعتبرُ بعض مخرجيها قد تفوقوا بإبداعاتهم على كاتبها ذاته. في هذا المجال، يُمكن تسمية أفلام رائعة يتسم معظمها بالرومانسية ـ كما في " الوسادة الخالية "، " لا أنام "، " الطريق المسدود " وأيضاً " في بيتنا رجل ". أما تأثير السينما نفسها على إحسان عبد القدوس، فيمكن ملاحظتها على الأقل في قصته الطويلة " بئر الحرمان ": في مقال لي، نشرته هنا في الموقع قبل بضعة أشهر، أثبتُ أن فكرة القصة مأخوذة من الفيلم الفرنسيّ " حسناء النهار "، للمخرج الشهير لويس بونويل، والذي أنتجَ في عقد الخمسينات! 
عطفاً على إيرادنا تعليق إحسان عبد القدوس على رواية " السراب "، في الوسع القول أنه كان ينطلق من فكرةٍ، فيها ما فيها من سذاجة، تفترض أنّ المؤلفات الأدبية يجب بالضرورة أن تجسّد حياةَ كاتبها.. أو بأقل تقدير، هيَ كذلك بالنسبة لأشخاص قريبين له شخصياً وروحياً. لذلك رأينا ظل الكاتب يهيمن على بعض رواياته وقصصه، وأحياناً بصفة مهنته نفسها، الأدبية والصحفية؛ كما في " لا أنام "، " أنف وثلاث عيون " و" الرصاصة لا تزال في جيبي ". فيما يتعلق بإشارتنا لرواية " السراب "، التي قلنا أن مؤلفها شذ فيها عن أسلوبه المألوف حتى ذلك الوقت، لا بد وأن يتساءل القارئ عن أسلوب إحسان عبد القدوس؟
بلى، كان أسلوب محفوظ بدايةً متأثراً بالكتاب الكلاسيكيين الأوروبيين، وربما لكون مضمون أدبه ينحو إلى الواقعية النقدية، الأقرب إليه بوصفه متعمقاً في تاريخ المجتمع المصريّ.. وكذلك الأمر، بالنسبة لتلميذه الأبرز؛ جمال الغيطاني. آخرون أتوا للرواية من باب الشعر، مثل إدوار الخراط، فأنجزوا كتابة روائية هيَ أقرب لما عُرف نقدياً ب " النص المفتوح ". في الآونة الأخيرة، حققت الأعمال الروائية ليوسف زيدان انتشاراً واسعاً؛ هوَ المختص أساساً بتحقيق المخطوطات القديمة. بعد هذا الاستطراد، بالوسع العودة إلى إحسان عبد القدوس، للتأكيد على أن أسلوبه كان شبيهاً إلى حدّ ما بالكتابة الصحفية.. وكذلك كانت لغته وتعبيراته. لقد بقيَ إلى الرمق الأخير مواظباً على ذلك النوع من الكتابة، علاوة على استعماله العامية المصرية في الحوار بالعديد من رواياته وقصصه. 
ختاماً، وبغض الطرف عن كل شيء، من المهم ألا نسلوَ حقيقة مهمة؛ تتمثل في كون إحسان عبد القدوس من رواد الرواية العربية وممن أسهموا بتجديدها، قياساً لما كانت عليه حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. بما أنّ المتعة، هيَ الشرط الأساس للقراءة ـ بحسب الناقد رولان بارت ـ فإنّ ذلك يكفي لإحياء ذكر الكاتب الراحل قدّام الأجيال الجديدة من القراء.. دونَ أن ننسى متعة مشاهدة العديد من الأفلام الآسرة، المستمدة من رواياته وقصصه!
=============

تعليقات