مقالات 2005 - 48


من حديقة البشر - أديب وأيمن -



هذه هي القصة الخامسة ضمن بضعة قصص رأينا نشرها للقاريء من مجموعتنا القصصية " من حديقة البشر " و هي 30 قصة - لم تنشر بعد
" أديب وأيمن :"
هما من أغرب وأعجب النماذج البشرية التي صادفتها في حياتي ..
أحدهما سوري ، والآخر مصري .. أما العوامل المشتركة بينهما فهي : أن كلا منهما يحمل مواهبا كبيرة كفيلة بأن تجعل منه شيئا .. انسانا كبيرا 
ناجحا مرموقا، نجما .. الا أنه يحمل في نفس الوقت من عوامل الفشل عيوبا صغيرة كفيلة بابطال كل مواهبه الكبيرة وتحويله الي صعلوك تافه وانسان فاشل (!)
الأول " أديب " السوري كان بمقدوره أن يكون زعيما سياسيا لو أنه انخرط في السياسة فهو شخصية كاريزمية لها جاذبيتها ، وعنده قدرة علي الاقناع وشد الآخرين اليه ..وكان بوسعه أن يكون خطيبا مفوها .. فهو يمتلك تلك الموهبة ..
وكان بوسعه أن يكون واعظا دينيا بارعا فهو متفقه في ذلك الي حد لا يباريه كثيرون فيه ..
ومن المؤكد أنه كان بوسعه أن يكون مطربا يشار اليه كواحد من مطربي الصف الأول ، فهو من جيل وزميل مطرب كبير سوري شهير الراحل فهد بلان )
، وشاركه في بداية حياته الفنية وذهب معه الي القاهرة لأجل الشهرة ..
والفارق بينه وبين فهد بلان أن صوته أجمل .. فصوته يحمل الي حد كبير خامة صوت المطرب السوري العملاق "صباح فخري " ويمتاز عن كليهما أيضا بحضور شخصي ومسرحي أفضل ..
واشتهر فهد بلان وتألق بالقاهرة وانطلق كصاروخ غنائي .. أما هو فقد عاد الي بلده ثانية واختفي ، ثم هجر الغناء واتجه اتجاها دينيا وتفقه فيه كما قلنا لدرجة تؤهله لأن يكون واعظا بالغ التميز .. 
الا أن كل ذلك لم يحقق منه شيئا ، فلماذا ؟!!
فلننتظر حتي نري الشخصية الأخري التي تشبهه تماما - النسخة المصرية من ذاك السوري - لأن سبب فشلهما واحد - كما ذكرنا- 
" أيمن " - المصري : 
أما أيمن .. فقد كان باستطاعته أن يجلس جنبا الي جنب في أكبر الندوات أو المؤتمرات بجوار أكبر نقاد السينما العربية كلها (
وكذلك كان بمقدوره الحضور علي منصة أكبر ندوات الأدب والشعر ، وكذلك الأمر بالنسبة للفن التشكيلي ، بل والسياسة والاقتصاد و.. الأغاني والموسيقي 
اذ لم أعرف ذاكرة غنائية موسيقية وقدرة نقديةعبقريةمثله ..
وهو يستطيع أن يساهم بالحديث في أي منتدي أو مؤتمر سياسي أو حتي عربي ، وربما عالمي بما لا يقل عن أكبر السياسيين المحترفين المخضرمين .. فلديه من الثقافة والآراء والأفكار وموهبة الحديث الكثير والكثير جدا.. وناهيك عن كونه حاصل علي بكالريوس في الاقتصاد والعلوم السياسية بتقدير " مقبول " !!
فتلك من ضمن المفارقات في شخصيته .. ونضيف علي تلك المفارقة انه مكث عشر سنوات بالجامعة حتي حصل علي البكارليوس (!!)
والسبب هو أن أيمن شفوي ..لا تحريري ..ولو كانت لديه موهبة التعبير بالكتابة ونزقها لأبدع في علوم وفنون وآداب كثيرة مختلفة ..فهو مثقف ناه للغاية 
وموسوعي وعنده ملكة التفكير الابداعي ..
وعندما عبرت له ذات مرة عن أسفي لكونه ليس كاتبا ، غضب غضبا شديدا ..!
وكان بوسعه أيضا أن يكون مخرجا سينمائيا أو مسرحيا، ولديه تلك القدرة ، فهو يقدر علي اسداء التوجيهات اللازمة للممثلين وتأدية المشاهد أمامهم ببراعة شارحا ومقربا لهم اياها ..
وقد أتيحت له بالفعل الفرصة لاخراج فيلم تسجيلي ( له الفكرة والسيناريو والحوار ) ، أما التمويل فكان علي أحد المراكز الثقافية الأوربية في مصر لاحدي الدول ، كبداية لتعامل سينمائي أكبر ، اذ رتب ذاك المركز الثقافي له مشروعا لسفره لأوربا لاتقان اللغة لمزيد من التعاون الثقافي معه، بعد أن قام هو بترتيب وادارة 
ندوات ثقافية سينمائية ناجحة لكبار السينمائيين بمصر - حضرت احدي تلك الندوات التي استضاف فيها مصور سينمائي كبير - 
ولكنه استلم مقدم تكاليف الفيلم وانطلق به علي الفور الي البار .. وانتهي المشروع ، وانقطعت العلاقة ..!
وأتيحت له الفرصة للعمل كباحث بأكبر وأشهر المراكز البحثية التي يتمني أي باحث أن يحظي بفرصة للعمل بأي منها كمركز الأهرام للدراسات السياسية 
و الاستراتيجية ، ومركز بن خلدون , ولكنه أضاع كل تلك الفرص ..
وأيمن.. له علاقة بأكبر الشخصيات الثقافية والفنية بمصر في مختلف المجالات .. من شعر لقصة لرواية ، لمسرح لسينما لغناء ، ورأيت عنده كتبا مهداه اليه من 
من أكبر الفنانين والشعراء والمفكرين الا .. أنه في أقرب أزمة مالية يقوم ببيع مكتبته بما فيها الكتب المهداة اليه من الكبار للحصول علي نفقات الشرب بالبار .. وقد أدركت أنا أحد هذه الكتب قبل أن يبيعها بثمن بخس لباعة الكتب وكان الكتاب لمفكركبير شهير وعليه اهداء لصديقه أيمن ، أما المفكر فكان الدكتور فرج فودة ....
وجميع من يعرفون " أيمن " بمن فيهم الشخصيات الثقافية الكبيرة يأخذونه بالأحضان فور مقابلته ويقتسمون معه السيجارة وكوب الشاي ، فهو شخصية جذابة وحبوبة للغاية - ومحدث جيد كما ذكرنا من قبل - ولكن !..
اذا ذكر اسمه أمامهم في غيابه فان أحد منهم لا يذكره بخير أبدا .. بل يتسابق الجميع في تعديد مساوئه الي درجة أن منهم من ينفي عنه مجرد صفة المثقف (!)
ولعل السبب في ذلك أنه لا يكف عن عن الاستدانة من الجميع -دون رد ما يستدينه - والتطفل الاحتيالي في المشرب والمأكل ..وان كان تطفلا يكسوه الظرف في الغالب والاحتيال مما يجعلهم يكرهونه ويحتقرونه بنفس قدر انجذابهم اليه..
ونوادره الغريبة والعجيبة لا تنتهي.. وكذلك نذالاته وتفانين ابتزازاته لهم لا حصر لها ..، واحتيالاته لا تخلو من طرائف نختار منها تلك الطرفة :
أثناء مسيره ذات مرة - ليلا- مع ناقد كبير وشهير بالقرب من مقهي بالقاهرة يرتاده المثقفون ، وبعد انتهاء سهرتهم ، فوجيء هذا الناقد ب "أيمن " يلقي تحية المساء ، بتقدير ومودة علي سيدة تجلس علي رصيف الشارع : مساء الخير يا مدام فتحية ..
وتلك السيدة هي متسولة تجلس علي أرض الرصيف وأمامها طبق ليلقي به المارة بما يجودون به من النقود ..... وترد المتسولة بتقدير واعزاز مماثل : مساء الخير يا أستاذ أيمن
....ويندهش صديقه الناقد الكبير ، ويسأله عن علاقته بتلك السيدة ، فيضحك ويقول ببساطة :أحيانا أستلف منها بعض النقود ، ولكنني أردها في أقرب فرصة لأن دي غلبانة ..!!!
ومثل تلك العلاقة الودية يمكن أن تربط بينه وبين الزبال بالشارع وماسح الأحذية ، عندما يفاجأ من يسير معه بأن الزبال أو ماسح الأحذية أو أحد أو مجموعة من أطفال الشوارع يحيونه بمودة شديدة وبحب : ازيك يا أستاذ أيمن .. ويقف ليبادلهم التحية ويتسامر معهم قليلا ويحييهم بالسجائر ، ويقبل تحيتهم أيضا من السجائر ، ويتبادل معهم حديث وديا ضاكا وسريعا ..!!
وجميع من يعرفون " أيمن " من المثقفين يقولون أنه نصاب ومحتال .. وهو نوع مختلف من النصابين والمحتالين ، فهولا ينصب أو يحتال لأجل امتلاك عمارة أو اقتناء سيارة .. وانما وحسب ليتمكن من سداد جنيهات قليلة هي ايجار الشقة ، أو لأجل الحصول علي وجبة غذاء أو عشاء ..، أو لتدبير ثمن كاس من البيرة أو تناول بالبار ..
وكذلك الحال أيضا بالنسبة لأديب ( السوري - النسخة السورية من " أيمن " المصري - وان كان أديب لا يشرب البيرة أو الخمر ولا يرتاد البارات 
الا أن الجميع يرونه أيضا نصابا محتالا ، وهو لا يطمع من وراء ذلك سوي في تدبير مصاريف بيته ولغرض الانفاق علي زوجته وبناته السبع - - 7 بنات - ، أكبرهن كانت في الحادية عشر تقريبا - وقت أن عرفته1974 بلبنان - .. ولما سألته عن سبب عدم توقفه عن الانجاب حتي وصل لذاك الرقم رد علي : - يا خيي .. المرة - أي المرأة - الا تريد الصبي - أي الولد الذكر - ، وظلت تقول لي : بس نجيب الصبي .. بس نجيب الصبي حتي صار العدد 7 بنات ، وما جاء الصبي ..!
وبعدها ب 5 سنوات - 1979 - قابلته بالعراق فسألته عن أسرته ، وبناته السبع فصحح لي الرقم قائلا : بل 8 بنات ..(!) فقلت له لقد كن 7 بنات ..! فرد علي قائلا : باللهجة الشامية : " ايش أسوي يا خيي صلاح؟!! ضحكت علي المرة ( زوجته ) وقالت لي " بس نجيب الصبي " ...!!
وفي رأينا أن سبب فشل كل من أديب وأيمن في أن يكو نجما في أي مجال من مجالات مواهبهما المتعددة هو : أن كلا منهما يشعر بقدراته العالية ولكنه يتعجل الوصول للمكانة التي يستحقها.. ولا طاقة لأحدهما علي الصمود في أي عمل لأكثر من فترة محدودة ، ويتركه .. حيث لا يطيق كل منهما أية كلمة نقد أو توجيهمن رئيسه في العمل - أو صاحب العمل -.. فلا يمكث سوي أيام أو بالكثير شهور قليلة ويتركه ، ثم لا يجد من النقود ما ينفق منه علي المعيشة ، فيضطر للنصب والاحتيال والمناورة والخداع ، والايقاع بين الأصدقاء وتناول سيراتهم بالسؤ ، وكل ذلك في سبيل الحصول علي نفقات المعيشة ، مما يجعله يخسر بالاضافة الخسارته لكل مواهبه ومزاياه .. سمعته أيضا وصورته أمام الجميع ، فيوصف بصفة النصب والاحتيال التي لا تعود علي أي منهما سوي بنفقات المعيشة - كما ذكرنا من قبل ، ولا يطمحان من وراء نصبهما واحتيالاتهما فيما هو أكثر من ذلك..!
تلك هي مأسة " أديب " السوري ، و "أيمن " - المصري - ( وتحيا الوحدة العربية ..) 
نعم هي مأساة موهبتان انسانيتان - متعددتا الجوانب - ولكن بسبب نقطة ضعف انساني - مشتركة - وتافهة ، تحول " أيمن "الي نصاب بدلا من أن يكون ناقدا أو مخرجا سينمائيا مرموقا أو.. أو .. الخ . 
وكذلك تحول " أديب " - الي محتال ، بدلا من أن يصير زعيما سياسيا أو خطيبا أو داعية، أو مطربا محبوبا ..
فما أغرب الحياة وما أفظع الآفة الضئيلة التي قد تقدر علي أن تقضي علي الشجرة والثمار معا .(!)
نشر بموقع الحوار المتمدن-العدد: 1355 - 2005 / 10 / 22

تعليقات