مقالات 2005 = 43
- شلضم - التلميذ الذهبي يبيع الخضار بالطريق !
" شلضم " التلميذ الذهبي.. يبيع الخضار بالطريق !!!
كان " شلضم " يجلس دائما بآخر الفصل عندما كنا تلاميذا بالمدرسة الاعدادية بقرية صغيرة تتبع مركز ميت غمر الذي يبعد عن القاهرة بحوالي 85
كم .. ، والسبب في ذلك ليس لكونه بليد الفصل الذي يتهرب من تلقي أسئلة المدرس بالجلوس بآخر الصف ، وانما لكونه طويل القامة ، وجرت العادة أن المدرسين يجلسون طوال القامة من التلاميذ بآخر الصفوف كي لا يحجبوا الرؤية عن غيرهم..
وكان" شلضم " يبدوبالنسبة لنا جميعا أكبر من سنه لطوله الفارع ، و قده الممشوق وسواعده المجدولة وجسمه الممتليء ، مما يجعله أقرب ما يكون الي تمثال
فرعوني ، ولاسيما أنه يشبه الي حد كبير الفراعنة في لون البشرة . واسم شلضم هذا ليس اسمه وانما كان يطلق عليه لكونه غليظ
الشفتين ، واسع الفم ، وجرت عادتنا نحن المصريين أن نطلق علي صاحب الفم الواسع غليظ الشفتين اسم " شلضم " – كالفنان اسماعيل ياسين
أما الاسم الحقيقي لشلضم فهو " جابر" الا أن زملاءنا التلاميذ ممن كانوا يجاورونه في السكن هم الذين كانوا ينادونه ب " شلضم "شأنهم
في ذلك شأن باقي أهل الحارة أو المنطقة التي يقيم بها بالقرية، و كنت أقيم أنا مع أسرتي بقرية ملاصقة لتلك القرية.
وبالرغم من أنه كان بيننا بالفصل عدد كبير من أبناء المدرسين ، ومعنا أيضا ابن العمدة وأبناء أثرياء القرية ، الا أن" جابر " أو شلضم،
- أفقر تلميذ بالفصل – في الغالب ترتيبه علي الفصل هو الأول ، وأمه السيدة الفقيرة كانت تبيع الفجل والليمون علي ناصية الحارة
- بجوار دوار العمدة – والد زميلنا عبد الرحمن ، الذي كان شلضم يتفوق عليه وعلينا- ..
- واذا سأل مدرس الرياضيات وقتها سؤالا في الحساب أو الجبر أو الهندسة ، وعجزنا كلنا عن الاجابة الصحيحة ، غالبا كانت الاجابة عند
- شلضم .. ونصفق له جميعنا بأمر المدرس ..
- واذا سأل مدرس العلوم أو اللغة العربية أو أية مادة أخري سؤالا عز علي الجميع الاجابةعليه ، فغالبا ما تكون الاجابة جاهزة عند "شلضم
- والابتسامة السمحة المتواضعة الدائمة علي وجهه كما هي ، وكان هو أكثرنا هدوءا وتواضعا وبساطة ، وصمتا والشعور بالرضا يكسو وجهه الأسمر القريب الي ملامح وطبيعة أهل النوبة ، وأهل جنوب مصر – أسوان - .
- ولم يكن " شلضم " تلميذا متفوقا وحسب ، وانما كان أيضا خطاطا موهوبا ، اذ كانت سبورة المدرسة المخصصة للآعلانات بداخل الحوش ، أو الأخري التي تتصدر مدخلها لا يزينها سوي الخط الذهبي للتلميذ جابر، أو: شلضم ..
- وكنا تلاميذ المدرسة والمدرسون نقف مسحورين أمام الخط الرائع لتلميذ الاعدادية " جابر " ..
- أما مدرس اللغة الانجليزية- أحمد محرم – فقد كانت كراسة التلميذ جابر ..تسحره بخط رائع غاية الروعة لدرجة أنه كان يمسك بكراسته
- وكأنه قد جن ويسير بها بين طرقات الفصل قائلا : انظروا .. انظروا خط جابر .. سلاسل من الذهب ..!!
- وبعد سنوات وسنوات ، قابلت بالصدفة بالقاهرة التي انتقلت اليهامع أسرتي بعد نهاية دراستي الاعدادية ، أحد أهالي تلك القرية ، فسألته
- عن أحوال زملاء الماضي ، وعرفت أن منهم من أصبح محاميا ، ، ومنهم الطبيب والمدرس والمهندس ، ومنهم من أصبح رئيسا لمجلس ادارةأحد البنوك وعضوا بالبرلمان ورئيسا للجنة الشئون الاقتصادية به ، وصرت أنا بالاضافة للمكتب التجاري الذي أمتلكه ، مؤلفا صدر لي عدد من الكتب ، وأنشر بعض المقالات من حين لآخر بالصحف والمجلات ، وحصلت علي عضوية اتحاد الكتاب ، وكتبت احدي المجلات العلمية عن أحد كتبي ، ونقلت وكالات الأنباء مقتطفات من كتاب آخر .. .. ، وجميعنا بمن فينا ابن العمدة ، كان جابر يفوقنا ذكاء
- .. فتري : كيف اذن صار حال جابر، وأين مكان جابر..؟
- كان الجواب عندما سألته : انه خطاط القرية ..!
- سألته مندهشا: تقصد خطاط المحافظة التي تتبعها القرية ؟!
- - كلا ..
- خطاط القرية ..
- سألته مرة أخري وأنا غير مصدق : اذن هل تقصد خطاط المركز كله الذي تتبعه القرية ؟!
- - كلا ، بل أقول لك انه خطاط القرية وحسب .
- !! !!
- تعجبت ورحت أبحث عن سر ذلك ؟
- لعل السر ببساطة هو أن جابر وان كان يفوقنا ذكاء ، وكان هو الأحق بأن يكون رئيس مجلس ادارة البنك أو الأديب ، أو المفكر ، أو الطبيب ، أو المهندس أو خطاط كبري صحف الدولة..
- لكونه كان متفوقا علينا جميعا في كل مواد الدراسة ..، الا أننا – كما يبدو لي – كنا نتفوق عليه في شيء آخر هام .. ، ليس لأن ظروف معظمنا الاقتصادية كانت أفضل من ظروفه ..، كلا .. ، وانما الشيء الذي كنا نتفوق عليه فيه اسمه : الطموح
- نعم : الطموح ، وقد كان جابر ( شلضم ) بلا طموح .. وذكاء ومواهب بلا طموح غالبا تذهب أدراج الرياح ..
- انني لم أقابل جابر ( شلضم ) منذ عام 1964 ونحن الآن في عام 2002 – وقت كتابة قصته – أي منذ 38 سنة الا أنني لا زلت أتذكر
- ابتسامة الرضا التام التي كانت تكسو وجهه السمح ومشاعر القناعة والسعادة والسرور التي كانت تملأه رغم فقره المدقع الذي كان
- يلمسه مدرس الرياضيات في تلميذه النجيب الذهبي العقل الرائع الذكاء ، فكان هذا المدرس يتسلل أثناء انشغالنا بحل المسائل خلسة كي لا نراه ويدس بجيب جابر بعض النقود مساعدة له ، وتقديرا منه لذكائه الفذ وعبقريته في فن الخط أيضا .. تلك العبقرية التي شأنها شأن
- أية عبقرية لا يمكنها أن تطير وتحلق عاليا بدون : أجنحة الطموح ..
- == == ==========
عندما قرأ الصديق الفنان التشكيلي والشاعر " محمودالهندي" –
مسودة كتابي هذا – ضمن مجموعة قصص " من حديقة البشر " - توقف عند تلك القصة وعقب لي بالقول أن قصة شلضم ، هذه قد ذكرته بطالب كان زميلا له بالمدرسة الثانوية ، وكان ترتيب ذاك الطالب الأول علي الجمهورية كلها .. واسمه محمود الكوز .. وقد فرقت بينهما الأيام بعد انتهاء الدراسة..
وذات يوم سمع دقا علي با ب مسكنه وصوت يناديه ، فتح الباب ، فوجد يدا تناوله رسالة ، مد يده ليأخذ الرسالة ونظر في وجه ساعي البريد ليشكره فاذا بساعي البريد هو: محمود الكوز ... ( الطالب الذهبي .. الذي كان ترتيبه الأول علي الجمهورية كلها ) !
----------------------------------------
كتبت بالسجن السياسي بالقاهرة عام 2002
كان " شلضم " يجلس دائما بآخر الفصل عندما كنا تلاميذا بالمدرسة الاعدادية بقرية صغيرة تتبع مركز ميت غمر الذي يبعد عن القاهرة بحوالي 85
كم .. ، والسبب في ذلك ليس لكونه بليد الفصل الذي يتهرب من تلقي أسئلة المدرس بالجلوس بآخر الصف ، وانما لكونه طويل القامة ، وجرت العادة أن المدرسين يجلسون طوال القامة من التلاميذ بآخر الصفوف كي لا يحجبوا الرؤية عن غيرهم..
وكان" شلضم " يبدوبالنسبة لنا جميعا أكبر من سنه لطوله الفارع ، و قده الممشوق وسواعده المجدولة وجسمه الممتليء ، مما يجعله أقرب ما يكون الي تمثال
فرعوني ، ولاسيما أنه يشبه الي حد كبير الفراعنة في لون البشرة . واسم شلضم هذا ليس اسمه وانما كان يطلق عليه لكونه غليظ
الشفتين ، واسع الفم ، وجرت عادتنا نحن المصريين أن نطلق علي صاحب الفم الواسع غليظ الشفتين اسم " شلضم " – كالفنان اسماعيل ياسين
أما الاسم الحقيقي لشلضم فهو " جابر" الا أن زملاءنا التلاميذ ممن كانوا يجاورونه في السكن هم الذين كانوا ينادونه ب " شلضم "شأنهم
في ذلك شأن باقي أهل الحارة أو المنطقة التي يقيم بها بالقرية، و كنت أقيم أنا مع أسرتي بقرية ملاصقة لتلك القرية.
وبالرغم من أنه كان بيننا بالفصل عدد كبير من أبناء المدرسين ، ومعنا أيضا ابن العمدة وأبناء أثرياء القرية ، الا أن" جابر " أو شلضم،
- أفقر تلميذ بالفصل – في الغالب ترتيبه علي الفصل هو الأول ، وأمه السيدة الفقيرة كانت تبيع الفجل والليمون علي ناصية الحارة
- بجوار دوار العمدة – والد زميلنا عبد الرحمن ، الذي كان شلضم يتفوق عليه وعلينا- ..
- واذا سأل مدرس الرياضيات وقتها سؤالا في الحساب أو الجبر أو الهندسة ، وعجزنا كلنا عن الاجابة الصحيحة ، غالبا كانت الاجابة عند
- شلضم .. ونصفق له جميعنا بأمر المدرس ..
- واذا سأل مدرس العلوم أو اللغة العربية أو أية مادة أخري سؤالا عز علي الجميع الاجابةعليه ، فغالبا ما تكون الاجابة جاهزة عند "شلضم
- والابتسامة السمحة المتواضعة الدائمة علي وجهه كما هي ، وكان هو أكثرنا هدوءا وتواضعا وبساطة ، وصمتا والشعور بالرضا يكسو وجهه الأسمر القريب الي ملامح وطبيعة أهل النوبة ، وأهل جنوب مصر – أسوان - .
- ولم يكن " شلضم " تلميذا متفوقا وحسب ، وانما كان أيضا خطاطا موهوبا ، اذ كانت سبورة المدرسة المخصصة للآعلانات بداخل الحوش ، أو الأخري التي تتصدر مدخلها لا يزينها سوي الخط الذهبي للتلميذ جابر، أو: شلضم ..
- وكنا تلاميذ المدرسة والمدرسون نقف مسحورين أمام الخط الرائع لتلميذ الاعدادية " جابر " ..
- أما مدرس اللغة الانجليزية- أحمد محرم – فقد كانت كراسة التلميذ جابر ..تسحره بخط رائع غاية الروعة لدرجة أنه كان يمسك بكراسته
- وكأنه قد جن ويسير بها بين طرقات الفصل قائلا : انظروا .. انظروا خط جابر .. سلاسل من الذهب ..!!
- وبعد سنوات وسنوات ، قابلت بالصدفة بالقاهرة التي انتقلت اليهامع أسرتي بعد نهاية دراستي الاعدادية ، أحد أهالي تلك القرية ، فسألته
- عن أحوال زملاء الماضي ، وعرفت أن منهم من أصبح محاميا ، ، ومنهم الطبيب والمدرس والمهندس ، ومنهم من أصبح رئيسا لمجلس ادارةأحد البنوك وعضوا بالبرلمان ورئيسا للجنة الشئون الاقتصادية به ، وصرت أنا بالاضافة للمكتب التجاري الذي أمتلكه ، مؤلفا صدر لي عدد من الكتب ، وأنشر بعض المقالات من حين لآخر بالصحف والمجلات ، وحصلت علي عضوية اتحاد الكتاب ، وكتبت احدي المجلات العلمية عن أحد كتبي ، ونقلت وكالات الأنباء مقتطفات من كتاب آخر .. .. ، وجميعنا بمن فينا ابن العمدة ، كان جابر يفوقنا ذكاء
- .. فتري : كيف اذن صار حال جابر، وأين مكان جابر..؟
- كان الجواب عندما سألته : انه خطاط القرية ..!
- سألته مندهشا: تقصد خطاط المحافظة التي تتبعها القرية ؟!
- - كلا ..
- خطاط القرية ..
- سألته مرة أخري وأنا غير مصدق : اذن هل تقصد خطاط المركز كله الذي تتبعه القرية ؟!
- - كلا ، بل أقول لك انه خطاط القرية وحسب .
- !! !!
- تعجبت ورحت أبحث عن سر ذلك ؟
- لعل السر ببساطة هو أن جابر وان كان يفوقنا ذكاء ، وكان هو الأحق بأن يكون رئيس مجلس ادارة البنك أو الأديب ، أو المفكر ، أو الطبيب ، أو المهندس أو خطاط كبري صحف الدولة..
- لكونه كان متفوقا علينا جميعا في كل مواد الدراسة ..، الا أننا – كما يبدو لي – كنا نتفوق عليه في شيء آخر هام .. ، ليس لأن ظروف معظمنا الاقتصادية كانت أفضل من ظروفه ..، كلا .. ، وانما الشيء الذي كنا نتفوق عليه فيه اسمه : الطموح
- نعم : الطموح ، وقد كان جابر ( شلضم ) بلا طموح .. وذكاء ومواهب بلا طموح غالبا تذهب أدراج الرياح ..
- انني لم أقابل جابر ( شلضم ) منذ عام 1964 ونحن الآن في عام 2002 – وقت كتابة قصته – أي منذ 38 سنة الا أنني لا زلت أتذكر
- ابتسامة الرضا التام التي كانت تكسو وجهه السمح ومشاعر القناعة والسعادة والسرور التي كانت تملأه رغم فقره المدقع الذي كان
- يلمسه مدرس الرياضيات في تلميذه النجيب الذهبي العقل الرائع الذكاء ، فكان هذا المدرس يتسلل أثناء انشغالنا بحل المسائل خلسة كي لا نراه ويدس بجيب جابر بعض النقود مساعدة له ، وتقديرا منه لذكائه الفذ وعبقريته في فن الخط أيضا .. تلك العبقرية التي شأنها شأن
- أية عبقرية لا يمكنها أن تطير وتحلق عاليا بدون : أجنحة الطموح ..
- == == ==========
عندما قرأ الصديق الفنان التشكيلي والشاعر " محمودالهندي" –
مسودة كتابي هذا – ضمن مجموعة قصص " من حديقة البشر " - توقف عند تلك القصة وعقب لي بالقول أن قصة شلضم ، هذه قد ذكرته بطالب كان زميلا له بالمدرسة الثانوية ، وكان ترتيب ذاك الطالب الأول علي الجمهورية كلها .. واسمه محمود الكوز .. وقد فرقت بينهما الأيام بعد انتهاء الدراسة..
وذات يوم سمع دقا علي با ب مسكنه وصوت يناديه ، فتح الباب ، فوجد يدا تناوله رسالة ، مد يده ليأخذ الرسالة ونظر في وجه ساعي البريد ليشكره فاذا بساعي البريد هو: محمود الكوز ... ( الطالب الذهبي .. الذي كان ترتيبه الأول علي الجمهورية كلها ) !
----------------------------------------
كتبت بالسجن السياسي بالقاهرة عام 2002
تعليقات
إرسال تعليق