كتابات ومداخلات - لماذا فشل مشروع التنوير ؟

    صلاح الدين محسن

17-2-2021 

كتبت في عام 2017 - منذ 4 سنوات - مقالاً من عدة حلقات عن فشل التنوير وأسباب ذلك في تقديري .. المقال كان بعنوان " تنوير 4 " موجود بكل حلقاته بهذه المدونة . ونشرت بعضها بموقع الحوار المتمدن . ولكنني فوجئت بمقال لأحد الكُتّاب , سبق مقالي ب 15 سنة - منشور عام 2002 - . فنقلته من الموقع - لأقرأه علي مهل , وأستفيد مما طرحه . وكانت لي ملاحظات ومداخلات كثيرة , موجودة بالخط الأحمر  .. : 

النص والمداخلات :

لماذا فشل مشروع التنوير ؟؟

الكاتب : شريف يونس

 الحوار المتمدن  2002 / 9 / 20   

  ذلك هو السؤال الذى يتردد كثيرا الآن فى ظل الأجواء الثقافية والسياسية التى يخيم عليها ظل الإسلام السياسى . ومن خلال هذا الوضع سوف يبدو السؤال بديهيا .. يتعرض لمشكلة حقيقية ويتطلب إجابة .

ولكن بدلا من الإجابة أقترح على القراء أن نتريث قليلا .. ونتوقف بالعكس طويلا أمام السؤال نفسه ، لأنه ليس سؤالا بريئا كما يبدو .. بل هو يحمل فى طياته إجابات كثيرة ضمنية ، لا يجوز أخذها على أنها مسلمات . فالسؤال يفترض : أن ثمة مشروع محدد للتنوير له مقاييس معروفة ، وأن هذا المشروع سعى أنصاره لتحقيقه ، وأنه فشل .. أى أنه عجز عن تحقيق الأهداف المفترضة له . هذه كلها مسلمات من الممكن مساءلتها هى نفسها عن حقيقتها .. هل هناك حقا مشروع متصل للتنوير ؟ هل هذا المشروع الذى اتخذ اسم التنوير فى مصر هو ذاته المشروع الأوربى للتنوير ؟ هل كان يهدف فعلا إلى ما يعلنه من أهداف ؟ أو .. ما هى طبيعة مشروع التنوير الحقيقية التى تفسر تاريخه ؟ بغير الإجابة على هذه الأسئلة لن نستطيع أن نحكم بأن التنوير قد فشل ، وبالتالى لن نستطيع أن نتساءل عن أسباب فشله .

والذى يدفعنى لطرح هذه الأسئلة هو تشكك عميق فى ادعاءات التنوير المصرى عن نفسه ، الادعاء بأن له تاريخ متصل من النضال من أجل الديمقراطية والعقل وتنوير المجتمع والتحديث ومواجهة الخرافة .. وهذا فى حد ذاته مبرر كاف للتوقف والتريث وإنعام النظر . فأبسط فلاح يعرف أنه لا يجوز أن تأخذ تصورات الناس عن أنفسهم أمرا مسلما به .

وثمة مصدر آخر للتشكك .. هو كيف يمكن للتنوير أن يفشل أصلا ؟ التنوير المعروف هو حركة فكرية للنقد العقلانى للواقع .. وهى مهمة لا تنتهى بطبيعتها ، بحكم أن الواقع نفسه متحرك ، فضلا عن عمقه الشاسع .. ومن هنا يمكن القول بأن نقد عقل التنوير الأوربى المميز للقرن الثامن عشر، والذى ما زال مستمرا حتى الآن فى أوربا ، ليس خروجا عن مبدأ التنوير فى حد ذاته ، برغم أنه أصبح يرفض الكثير من مسلمات سلطة العقل التى قام عليها التنوير القديم . مثل هذا النوع من التنوير ممكن دائما .. طالما وُجِد على الأرض تنويريون .. وهذا ما يثير تساؤلات إضافية عن أسباب كلام التنويريين عن فشل التنوير بدلا من القيام بالتنوير فعلا .

اقترح إذن أن نبدأ سعينا لفهم مسألة فشل التنوير المثارة بمحاولة الإجابة على السؤال الآتى : ما هو التنوير الذى يعتبر التنويريون المصريون أنه فشل ؟ 

الإجابة التى يقدمها التنوير هى : هو الفكر العقلانى ، الذى يحوى الديمقراطية والتحديث والنهضة ، ويتمثل فشله فى تقدم فكر الإسلام السياسى ، السلفية ، الخرافة ، على حسابه .. أى تراجع القيم الأولى لصالح الأخيرة سياسيا واجتماعيا .. على أيدى الإسلام السياسى .

ومن الواضح هنا أن التنوير يتحدث عن نفسه وخصومه من حيث هم سلطة، أو فكر سلطة . وهنا يجب أن نتذكر أن تنويرنا المعاصر لا يدور حديثه فعليا إلا عن السلطة (( كلا .. ))، لا عن نقد الواقع .. فسواء كنت أمام قضية العقل أو النظرة التاريخية بدلا من الفقهية ، أو مواجهة مشكلة الحاكمية (تيار القائلين بالحاكمية للـه) فلن تجد كلاما للتنوير سوى "كلام من حيث المبدأ" .. أى الدفاع عن هذه الأفكار أو المبادئ بوصفها مفيدة أو صحيحة .. ولكن ليس ممارستها فعليا . وهذا أشبه بمهندس يتجه ، بدلا من ممارسة الهندسة ، إلى عقد الندوات والمؤتمرات والكتابة فى الصحف ونشر الكتب .. لا عن الهندسة ، بل عن أهمية الهندسة ، وعظمة الهندسة ، ودور الهندسة فى تقدم المجتمع. ((  مداخلة - لصلاح محسن - : الكتّاب ليسوا مهندسي تنفيذ , وانما القلدة السياسيون هم مهندسو التنفيذ .. ويجب أن تشمب كتابات الكتاب التنويريين . تنوير ونقد القادة - والضغط عليهم . ليقوموا بتنفيذ الأفكار )) وهذا طبعا ليس هندسة ، وإنما هو دين جديد اسمه دين الهندسة ، وصاحبه داعية وليس مهندسا .. وفوق ذلك فهو لم يقدم للناس شيئا ملموسا يقنعهم بقيمة الهندسة هذه !! (( مداخلة من " صلاح محسن " : ليس صحيحاً .. بل قدموا الرسم الهندسي .. والمفروض أن يكون هناك مهندسون تنفيذيين , تطبيقيين ))

هذا هو حال التنوير المصرى ، فبدلا من ممارسة حرية العقيدة ونقد الخرافة يتحدث عن أهمية العلمانية .. وبدلا من إعمال العقل فى دراسة ظواهر الواقع ، ومنها ظاهرة الإسلام السياسى نفسها ، يتحدث عن أهمية العقل .. وبدلا من ممارسة التحليل التاريخى يجعله مبدأ فقهيا يتم الدفاع عنه . وبالطبع فإن العقل حين لا يكون فعالية تمارس ، فإنه يصبح صنما يُعبد ، ومحلا للولاء والانتماء .. ويفقد أى طابع نقدى ، أى عقلى ، بالمعنى التنويرى للعقل .( مداخلة - صلاح محسن - : لا نتفق ... بل جَمَعَ التنويريون بين نقد الخرافة وتبيان أهمية العلمانية وليس كما يقول الكاتب )

والتنوير بهذا الشكل لا يخرج عن كونه سلطة .. لأنه يطرح نفسه كمبدأ مقدس (( صلاح محسن : !! لا أفهم !  أية سلطة لهم !؟ وأية قداسة إدّعوها !؟ )) .. ولذلك لن يكون من المستغرب أن يبادر باستخدام جميع أسلحة الإرهاب الفكرى ضد خصومه ، لأن المسألة هى حرب : سلطة أمام سلطة ، ومبدأ مقدس أمام مبدأ آخر مقدس . وهكذا نجده يتهم الحاكميين بأنهم أعداء الأديان والأوطان ، مقدسا بذلك الأديان والأوطان ومقدسا نفسه بوصفه المدافع عنها ، بل ويتهمهم (فى كتابات صحافة التنوير) بالعمالة للسعودية وللولايات المتحدة ، وأحيانا - على استحياء - لإسرائيل . وهنا لا مجال للشعب ، للناس ، فى معركة التنوير .. فهى معركة نخبة ضد نخبة ، نخبة تدافع عن اللـه والأخرى تدافع عن الوطن وعن الديمقراطية ... الخ . (( صلاح الدين محسن : الذي يحسم المشكلة لصالحه هو من يمتلك مقاليد السلطة .. أو من يتمكن من استمالة السلطة لأفكاره ))

ولكن النخبة التنويرية تتميز بالتصاقها الشديد بالدولة (( صلاح : بل الحقيقة أقرب للعكس .. )) .. فهى فى الواقع بهذه الاتهامات إنما تستعدى الدولة على أعدائها ، وتحاول أن تقنعها بخطورتهم .. وتطالب من خلال ذلك بحكم العقل التنويرى وبالديمقراطية وبالحرية .. ولكن طبعا ليس بحرية الحاكميين .. فالأصوات التنويرية تطالب الدولة بإبعادهم عن وسائل الإعلام ، والحد من تأثير دعايتهم على الناس .. (( صلاح محسن : مطلب طبيعي .. إبعاد الاظلاميين عن الاعلام لافساح المجال امام سريان النور ))  أما ديمقراطية الشعب فيمكن ببساطة قياس "معزتها" عند التنويريين بقياس رد فعلهم الضئيل جدا على قتل عمال كفر الدوار وأسرهم على يد البوليس قبل شهور . (( صلاح محسن : معقول .. فالموقف السياسي من لوازم وواجبات التنوير .. ))

ليست هذه لائحة اتهامات ضد التنوير ، بل هى مجرد تذكرة بوقائع تتيح لنا النفاذ إلى جوهر التنوير المصرى . إن التنوير المصرى المعروف هو تنوير مرتبط منذ البداية بمسألة "النهضة" ، الوطن ، التقدم ، مفهوما على أنه عمل تقوم به الدولة وينتهى إلى تحديث المجتمع . (( صلاح محسن : التنوير الذي نجح في أوروبا كان مسلطاً علي كل من السلطة والكنيسة معاً ))

لقد كان التنوير المصرى منذ البداية لسان حال عملية إنشاء الدولة الوطنية الحديثة ، التى وضع بذورها محمد علي منذ قرنين من الزمان. وفى حدود هذا الإطار تقدم التنوير من تحديث التعليم إلى المطالبة بالدستور والديمقراطية ، إلى المطالبة بدولة تدخلية قوية فى الحياة الاقتصادية والثقافية ، وهو ما حققته له الدولة الناصرية (( صلاح محسن : كلا .. الدولة الناصرية كانت ضد التنوير - ديموقراطية شعارات , ومنافسة الاسلاميين في تحقيق مكاسب دينية - اذاعة تبث القرآن علي مدار 24 ساعة في اليوم , مدينة للبعوث الاسلامية .. و   و الخ -  تعزز شرعية استمرار الحكم العسكري في عيون عامة الشعب ذي الغالبية الأمية , والذي لا مصدر له لحقائق ما يدور ببلده سوي إعلام يسيطر عليه نظام عسكري بوليسي استخباراتي )) . وكان أعداء التنوير هم أساليب الحياة والقيم التقليدية وكل ما يعوق عملية تغلغل جهاز الدولة الحديث فى مجال بنية المجتمع .. بدءا من التعليم والصحة وليس انتهاء بتنظيم المرور .

ومن هنا نفهم لماذا لم تكن الديمقراطية ولا العقل يثيران قلق التنوير فى العهد الناصرى .. بل لقد قبل التنوير أن يدعم نشاطات الدولة التدخلية ، بما فى ذلك جهودها فى مصادرة الحياة السياسية وتأطير الحياة الثقافية بإطار من حديد . (( صلاح محسن : قهر العهد الناصري للتنويريين بالسجون والمعتقلات , وبالتجويع عن طريق الوقف عن العمل ))

فالإجابة التى نقدمها على سؤال ما هو التنوير المصرى .. هى أنه أيديولوجية الدولة الوطنية الحديثة .. وليس ذلك المبدأ الإنسانى العقلانى الديمقراطى المجرد كما يدعى .. (( صلاح محسن : أين هي الدولة الوطنية الحديثة : !! !! ))

وإذا كان التنوير المصرى مبدأ عقيديا ينطلق من فكرة العقل ليصل إلى تأليه الدولة الوطنية ويقوم دفاعا عنها بتكفير كل أعدائها .. فإن هذا التنوير لم يفشل مطلقا ، بل نجح نجاحا باهرا .. كمجرد تبرير أيديولوجى للدولة التى كانت قيد الإنشاء . ولعل آخر انتصاراته المجيدة هو ذلك التحول الملموس فى أيديولوجية الإخوان المسلمين ، الذين أصبحوا يقبلون ، فى حدود ، مبدأ عمل المرأة والاستعانة بالعلم الحديث والحياة الحزبية والانتخابات .. والعمل من داخل إطار النظام .. وهو نجاح لا يُعزى طبعا إلى التنوير وحده ، بل أيضا لدور أجهزة الأمن ومجمل جهاز الدولة . (( صلاح محسن : هذا ليس نجاحاً لأحد .. فالاسلاميون يمكنهم قبول أي شيء كتكتيك لحين التمكن , ثم الغاء كل ما قبلوه - وهذا من صميم السنّة المحمدية , حيث قبل محمد مهانة شروط قريش في صلح الحديبية . ثم نقضها اتفاقية الصلح , بأن فاجأهم بسيوفه هو وأتباعه فوق رؤوسهم !! فاضطروا للاستسلام , وأُكرهوا إكراهاً علي الايمان بدين محمد , بفعل السوف المشهرة فوق الرؤوس )) 

وإذا كان الحال كذلك (( صلاح : الحال ليس كذلك الذي قلته )) .. فلماذا ينحسر دور التنوير ؟ والأهم من ذلك - وهو السؤال الثانى الذى طرحناه - لماذا يتكلم التنوير كثيرا عن فشله ؟

إن أزمة التنوير المصرى إنما تكمن بالضبط فى نجاحه . فنجاحه يعنى الاستغناء عن خدماته .. لقد أقيمت الدولة الحديثة بالفعل .. (( صلاح : أين ؟ ومتي أقيمت !؟ )) والأزهر ، معقل فكر العصر الوسيط ، قد تم تحديثه ، والروابط الاجتماعية القديمة قد انحلت .. و"الوطن" أصبح حقيقة واقعة . 

(( صلاح محسن : هذا كلام مقنع مقهي ريش , يفبرك حلول المشاكل قوام ! - كما قال الشاعر نجم -)) وفى ظل هذا الوضع أصبح المتعلم الجامعى "نفرا" ، وكذلك المثقف التنويرى ، أصبح موظفا ، لم يعد مطلوبا منه أن يصبح رائدا ولا بطلا ولا ملهِما . وإذا كانت أحواله تنحدر الآن فإن ذلك بفعل سياسات وطبيعة الدولة الوطنية نفسها . ولذلك فإن المتعلم والمثقف الساخط على النظام لا يصبح فى الأغلب الأعم تنويريا ، وإنما حاكميا .. يطالب بتقويض الدولة الوطنية ، ويرفع السلاح ضد التنويرى . يطلب السلطة التى سبق للمثقف التنويرى أن طالب بها: يحفزه الشعور بالظلم الناتج عن إحساس بالتفوق باعتباره متعلما فى بلد تزيد فيه نسبة الأمية على نصف عدد السكان .

إن كلام مثقف التنوير الآن عن فشل التنوير إنما يشير إلى محاولته الأخيرة للبقاء فى الساحة .. فى وضع انتقالى .. من مرحلة تأسيس الدولة الوطنية إلى مرحلة إعادة إدماجها سياسيا واقتصاديا فى العالم الرأسمالى . فالكلام فى مشكلة التنوير يفيد تحقيق قدر من الانفصال الجزئى عن الدولة الوطنية ، بادعاء أن مشروعه يختلف شيئا ما عن الوضع القائم .. لأنه بغير هذا التمييز الجزئى لا يصبح له أى دور أيا كان .. ففى إطار التحولات الجارية ما زال مطلوبا من مثقف التنوير أن يقدم الغطاء الشرعى الأيديولوجى ، الغطاء الوطنى (العلمانى الديمقراطى العقلانى) لعملية مواجهة الإسلام السياسى المسلح ، وغير المسلح أيضا فى بعض الأحيان ، ليمتص جزءا من السخط فى "معارضة شرعية" فى إطار الدولة الوطنية ذاتها ، وليتيح للدولة ، من خلال المواجهات الفكرية الضئيلة التى يقوم بها ، أن تتدخل كحكم بين الطرفين ، وتنهض على قدميها كسيد أعلى . لذلك يطالب التنوير بدولة قوية ، بالقضاء على النظام العشوائى ، وبالوحدة الوطنية .

وليس هذا الوضع انتقاليا من وجهة نظر السلطة فحسب ، ولكن أيضا من وجهة نظر التنوير .. فمن خلال هذا الضجيج العالى حول مسألة الإسلامية الوطنية تجرى شيئا فشيئا عمليات تأهيل الاقتصاد المحلى لدخول المنافسة العالمية ، وتنشأ الشركات المحلية والمشتركة والأجنبية الحديثة ، وتمتد السياحة ، ويجد المتعلمون فرص عمل جديدة . ولذلك يسعى الجميع ، إسلاميون ووطنيون ، للحصول لأنفسهم ولأبنائهم على فرص تعلم اللغات الأجنبية ، للانخراط بنشاط فى الأوضاع الجديدة التى لم يكتمل بناؤها بعد .

إن المشكلة الأخطر التى تواجه التنوير هى إمكانية أن يحل الإخوان المسلمون محله كخادم أيديولوجى للنظام ، يمتاز على التنوير بقدرته على الرد على أعداء الدولة الوطنية الذين يحملون السلاح من داخل مبدأهم ذاته ، وبالتالى القدرة على دعم شرعية النظام فى مواجهة ضحاياه بالذات ، المهمشين الذين يعيشون على هامش المجتمع ويتمردون باسم الإسلام .

إن فكرة فشل التنوير هى من جهة تعبير عن مشكلة استغناء الدولة عن خدمات التنويريين ، وهى فى ذات الوقت المحاولة الأخيرة لإقناع الدولة بتبنى التنوير (واضح أن هذه المحاولة قد حققت نجاحا كبيرا منذ زمن كتابة هذا المقال - ملاحظة هذه الطبعة) ، لأن فشله يعنى فى كتابات التنويريين العودة إلى ظلام العصور الوسطى وتهديد الدولة .. وبمعنى آخر .. إقناع الدولة بأن من واجبها ومصلحتها أن تتدخل لإنقاذ التنوير من الفشل ، وهو ما تقوم به جزئيا على أية حال .

ولكن التنوير طبعا لا يفهم فشله على هذا النحو .. لذلك يلجأ إلى الأساطير (ويلجأ أيضا إلى اتهام الدولة والمجتمع والسعودية بأنهم مسئولون عن فشله) . وأهم هذه الأساطير أسطورة النقد الذاتى .. تلك الفكرة التى تقول بأن التنوير قد فشل لأنه كان توفيقيا وليس جذريا .. أى إلقاء اللوم على التنوير الماضى ، الذى كان فى الواقع أقل توفيقية وأكثر شجاعة بكثير ، بحكم لعبه لدور إيجابى ما . إن التنوير المعاصر الذى يتهم ماضيه بالتوفيقية لم يستطع أن يطبع تراث ماضيه هذا كاملا .. فاختار وانتقى واستبعد كتبا بأكملها ، ثم نشر ما نشره (فى سلسلة المواجهة) محذوفا منه فقرات ومقاطع وجمل لم يعد هو ذاته يجرؤ على ترديدها ولو على لسان الموتى ! إن التنوير الحالى يقدم تنازلات تصل إلى اتهام خصومه بأنهم غير توفيقيين ، إذ يقدم نفسه الآن بوصفه صاحب التفسير الصحيح للدين ، الذى ينطوى على التسامح ويسمح بالعقل والوطنية ويتفق مع حاجات التقدم .. ويصل من التبجح فى ذلك ، لا إلى اتهام مخالفيه (الحاكميين) بأنهم أعداء العقل فحسب، بل الدين أيضا ، فيلبس العمامة ويفتى فى الدين ، ويصف هؤلاء الخصوم بـ"المتأسلمين" !!

ولكن يجب أن يكون مفهوما أن التنوير المعاصر حين يلجأ لهذه التفسيرات لا يخدعنا عامدا ، بل يقدم فحسب دليلا إضافيا على عجزه عن الرؤية ، عن الخروج عن أفق الدولة الوطنية والتحديث من أعلى .. والحال أنه لا يوجد تيار فكرى/ سياسى يمكنه أن يرى إلا عن طريق "رؤية عمياء" ، رؤية لا ترى ذاتها .. لترى كبديل شيئا آخر .. وهذه الرؤية العمياء هى فى الواقع الوسيلة الوحيدة لإطالة زمن الاحتضار 

إن التنوير الوحيد الممكن الآن هو ذلك الذى يقوم على نقد هذا التنوير ، ويستطيع أن يخرج من معسكر السلطة ، ويرفض النزعة النخبوية التى تتمثل فى تقديس النخبة التنويرية لنفسها عن طريق تقديس العقل ، لتبرر حكما هو فى التحليل الأخير استبدادى وقمعى . ثمة حاجة ملحة إلى تنوير متواضع ، "ينحنى" من "عليائه" إلى الواقع الاجتماعى ، ويتعلم منه ، لا يدعى القيادة الحكيمة ولا يحتكر العقل ، ولا يتكلم باسم كيانات عليا : الوطن والشعب والنهضة .. ليبحث عن العقل فى الممارسة الاجتماعية الواقعية فى أبسط أشكالها .. ويكتشف نفسه من خلالها ، باعتباره مجرد جزء من هذا الواقع العريض .

إن التنوير الحديث لن يكون تنويرا واحدا .. بل مائة ألف تنوير (( صلاح محسن : تلك إعتباطيات قولية ,, صحيح ان التنوير يجب أن يشمل مختلف المجالات . في دولة وشعب ينتمون للعالم الثالث . لكن تلك المجالات كلها لا تقدر بمائة الف ولا بألف واحد وقد لا تبلغ المائة )) تنطلق من شتى المواضع المتباينة فى المجتمع ، من الجزئى والواقعى والملموس ، ومن خلال ذلك يتحرر التنوير من الارتباط المطلق بالدولة ، وبالتالى من إشكالية "العلاقة بين المثقف والسلطة" التى هى إحدى الإشكاليات الأساسية للتنوير المتحجر المحتضر .

-- تم المقال والمداخلات - وهذا هو لينك المصدر :

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=3056

---------------

تعليقات