قرأت لك - حينما تتفاوض الجمهورية الفرنسية على هويتها

 انه مقال للكاتب حميد زنار    باحث و مترجم جزائري مقيم بفرنسا

منشور بموقع الحوار المتمدن   في 4-2-2021 

وكان هذا تعليقي عليه :  مهزلة .. ؟! أم أكبر قليلاً ؟. . أم أكبر بكثير؟ . أنا أعتبره من مؤشرات العد التنازلي لغروب الحضارة عن دول الغرب - صلاح  محسن - 

-- نص المقال :

حينما تتفاوض الجمهورية الفرنسية على هويتها

بمجرد أن تهم بقراءة الوثيقة المقترحة المسماة "ميثاق مبادئ"، وخاصة إن كنت تعرف مسبقا هوية كاتب النص الإسلاموية، ينتابك شعور بأن ما تقرأ مجرد نص متكلف وليس نصا نابعا من قناعة فكرية تروم إعادة تنظيم شؤون الديانة الإسلامية في فرنسا بالشكل الذي يجعلها متناغمة مع قيم الجمهورية الفرنسية وعلى رأسها لائكية الدولة.

وفي الحقيقة لم يعد خافيا على أحد أن هذا “الميثاق” هو نتيجة للضغوط التي مارسها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، الممثل المفترض لمسلمي هذا البلد، بعد الهجمات الإرهابية الأخيرة التي راح ضحيتها الأستاذ صامويل باتي في منتصف شهر أكتوبر الماضي ولحقه بعد أسبوعين سيدتان ورجل في كاتدرائية نيس.

وكان الهدف منذ البدء هو الطلب من المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية إنشاء مجلس لأئمة فرنسا يخضع لميثاق ينظم نشاطهم في مساجدهم. ولكن إن كان الأئمة المنضوون تحت هذا المجلس سيلتزمون بما جاء في الميثاق وما قد يأتي مثلا، فغيرهم وهم الذين يشكلون نصف عدد الأئمة في فرنسا لا ترتبط مساجدهم بهذا المجلس الذي يعمل مع الحكومة الفرنسية، وبالتالي فهم غير ملتزمين بأي أمر يصادق عليه هذا المجلس. فمن سيتخذ من هذا الميثاق مرجعا إذًا؟ ومن يضمن احترام العمل على ضوئه؟

لقد رفضت التيارات المتشددة المشروع بطبيعة الحال ورفضت ثلاث فيدراليات منتمية إلى المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية التوقيع على الميثاق، اثنتان منها تأتمران بأوامر رجب طيب أردوغان، هما ميلي غوروس ولجنة تنسيق المسلمين الأتراك في فرنسا.

وحسب الصحافي محمد سيفاوي، سحبت الجمعية الأخيرة، بطلب من السلطات التركية، مصادقتها على الميثاق بعد أن وقع رئيسها إبراهيم ألسي على الوثيقة، بذريعة أن بعض ما جاء فيها يمس بشرف المسلمين، الأمر الذي لم تلاحظه قبل تدخل السلطات التركية. وهذا يدل على أن الإجماع مجرد وهم وأن الانقسامات هي ما يطبع ما يسمى بـ”إسلام فرنسا”، الذي تتحكم فيه دول أجنبية.

حتى إمام بوردو طارق أوبرو، الإخواني المتنكر الذي لم يكفّ عن الحديث عن إسلام متنور جديد يناسب قيم الجمهورية الفرنسية، انقلب حينما دقت ساعة الحسم وبدا متحفظا ينتقد الظروف التي تم فيها تبني هذا النص كي لا يعبر صراحة عن رأيه في محتوى الميثاق.

في النص بعض المفارقات الصارخة وأخرى مستترة، فمن جهة مثلا هناك تشديد على إبعاد المساجد عن التأثير الخارجي وتسييرها وتمويلها من دول أجنبية، في حين أن من بين الفيدراليات المنتمية إلى المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية فيدراليات مرتبطة مباشرة ببلدان أجنبية كمسجد باريس ولجنة تنسيق المسلمين الأتراك في فرنسا.

ومن الغريب أن يعتبر النص “حركة التبليغ” من حركات الإسلام السياسي، في حين أنها ممثلة في المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية ذاته! ومن الغريب أيضا أن يوقع “مسلمو فرنسا”، وهم حركة إخوانية، على “ميثاق” يدرج الإخوان المسلمين في خانة الإسلام السياسي الذي يجب أن يحارب!

لم ترد كلمة “إسلاموفوبيا” في النص على الإطلاق، وإنْ تحدث عن كره المسلمين في فرنسا الذي رده إلى مجموعة من المتطرفين لا علاقة لهم بالمؤسسات الرسمية. ولكن إذا كانت كلمة إسلاموفوبيا غير محببة ولا معنى لها في نظر كاتب النص والمصادقين عليه، فما دور “مرصد مكافحة الإسلاموفوبيا” الذي هو تنظيم منبثق من المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية ذاته؟

المفارقة الأساسية هي أن هذا المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية مكوّن من خمس فيدراليات ممولة من طرف بلدان أجنبية ومن ثلاث فيدراليات إسلاموية.

بغض النظر عن التناقضات وعن ذلك التطور النظري الملاحظ في مضمون الوثيقة واللغة الفرنسية الواضحة التي كتبت بها على غير العادة، فهو نص فوقي يحوم على الواقع، لم ينبع عفويا ولا من القاعدة. ولا نعثر فيه على أدنى اهتمام بما يجري في البلدان المجاورة كألمانيا وبلجيكا وهولندا التي يسرح فيها الإسلام السياسي ويمرح ومدى تأثير ذلك على فرنسا.

لا يبدو أن هذا الميثاق موجه للناشطين في الميدان إذ كثير منهم شعروا أنهم مقصيون، لا كلمة لهم، هم الذين يواجهون التطرف كل يوم في الأحياء ويتعاملون مع الشباب المنحدرين من أصول إسلامية والذين يعتبر 52 في المئة منهم أن الشريعة أولى من القانون الفرنسي حسب آخر سبر آراء لمعهد دراسات الرأي الفرنسي (إيفوب).

لقد رفض “الميثاق” استعمال الدين لأغراض سياسية وأقرّ بتوافق الإيمان الإسلامي مع العلمانية واعترف بمساواة الرجل والمرأة وغيرها من المبادئ. وقد وصفه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأنه “التزام كامل، واضح ودقيق لصالح الجمهورية”.

فهل نعتبر الاعتراف بمبادئ غدت بديهية في فرنسا منذ أكثر من قرن ونيف انتصارا ضد الأصولية؟ ألا يمثل التفاوض بخصوص هذه القيم المكرسة سابقة خطيرة قد تشجع أعداء الجمهورية على محاولة مفاوضتها لاحقا على هويتها؟ وهل من مهام الجمهورية العلمانية أن تعمل على تغيير رؤية مؤمنين لدينهم ليتلاءم مع مبادئها أم مسؤوليتها هي تطبيق قوانينها الوضعية على جميع المواطنين دون اكتراث بعقيدة هذا أو ذاك.

------------------ 

تعليقات