كتابات أعجبتنا - 3



أبعد كل هذا القتل تريدون الخلافة؟

  بقلم   أحمد الشهاوى    ١٩/ ٧/ ٢٠١٥ ( جريدة المصري اليوم ) 
كثيرٌ من تاريخنا، فيه دسٌّ وتشويهٌ وتلفيقٌ وصناعةٌ ؛ لنصرةِ طائفةٍ على أخرى، والحط من شأن قومٍ، والفخر لآخرين لا يستحقون، إذْ دائمًا ما يكتب المنتصر الكلمة الأخيرة، لكنه وهو يضع النقطة فى نهاية الجملة لا يدرك، أو لا تعرف حاشيته أنَّ للزمن غِربالا لا يبلى، يُفرز ويُنبِّه إلى ما هو حصَى وما هو ذهب، وإلى ما هو أصيل وما هو زائفٌ.
وهذه خمس قصص دامية ومُخجلة ومُخيفة ووحشية ومُرعبة ومُروِّعة فى تفاصيلها وأحداثها، ومن فرط هولها قد لا يستوعبها عقل وقلب الإنسان.
ولأنها وقعت فى زمن الخلافتين الأموية والعباسية تحت بصر خلفاء مسلمين، لطالما مُدحوا فى كتب المدارس والجامعات، ونتبع أسماءهم إذا ذكرناها بمقولة «رضى الله عنهم»، خُصوصًا أن بعضهم من الصحابة أو التابعين لرسول الله، فسيكون التصديق أصعب، لأن العقول حُشيت على مدى قرون بجانبٍ واحدٍ من التاريخ، وتم تغييب الجانب الآخر، وهو الجانب الدموى فى الخلافة الإسلامية التى يسعى إليها تجار الدين المتأسلمون فى الدول العربية والإسلامية، ويقتلون الشعوب المسلمة من أجل فرضها بدءا من «فكر ونهج» الإخوان، ووصولا إلى كل الحركات والجماعات التى تلبس الدين رداءً لها.
هذا الجانب الدموى موجود فى كتب متاحة ومتداولة ومنتشرة وصادرة من دور نشر ذائعة الصيت، وهنا فى مصر تبنت إعادة نشرها الهيئة العامة لقصور الثقافة، والهيئة المصرية العامة للكتاب، ومن قبلهما دار المعارف، إضافةً إلى دور النشر الخاصة، لكننا لم نر وزارة الأوقاف أو الأزهر يتبنيان نشر هذه الكتب، وهى تراثية ومُؤلَّفة من مئات السنين، وكتبها فقهاء وعلماء ومؤرخون ثقات، لأنها تذكر المقَاتِل التى وقعت فى أزمنة الخلافة.
■■■
(١)
قتله، ثم قطع رأسه، وأفرغها مما تحويه، ولمَّا صارت خاويةً مُجوَّفةً، حشاها ملحًا وكافورًا، ووضعها فى صندوقٍ من ذهبٍ، تقديرًا لمكانة المجزُوز، وكتب اسم القتيل بخطٍّ فارسىٍّ عزَّ مثيله فى الزمان، وسلَّمها إلى واحدٍ من رجاله، وكان قد اعتزم الحجَّ من قرطبة إلى مكة، وقال له وأنت فى طريقك إلى الحجِّ عرِّج على بغداد، وقبل أن يذهب الخليفة إلى المسجد فجرًا، ضع الصندوق أمام عتبة داره، وضع واجهته مقابل عينيه، وهو خارج من الدار، كى يقرأ بوضوحٍ عبارتنا المحفورة بالذهب :
«هذه هديتى، وفى المرة المقبلة سأهديك رأسَكَ، لكننى سأحشوها بمقدار حملِ جمل من روث البعيرِ، وما يماثلها من خراء الشياطين».
(٢)
قالت لجواريها الحسناوات، وكُن خمسًا، لا تخلو أجسادهن من سمنةٍ مُفرطةٍ بادية خُصوصًا فى مؤخراتهن: اجلسن على ابنى، وهو نائمٌ فى سريره بالقصر، ولا تتركنه حتى يفقد النفَس، أريد خبره الليلة، فلا عاش من غَلَّ يدىَّ فى حُكم الخلافة الإسلامية، فأنا أم الخليفة، لى فوق ما له وأزيَد، ولى التصرُّف فى الأرضِ والعِرض، فى البلاد والعباد، أقول للشىء كُن فيكون، أنا إلهتكم، وأم هذا القتيل، الذى لم يعُد يلزمنى منه ذِكرٌ ولا أمرٌ، أنا الخيزران، ما خُلق بعدُ الذى يكفُّ يدىَّ، أو يحبسهما عن تصرُّفٍ أبتغيه، أنا المحتكرة المستأثرة، الحاكمة بالله، المستبدةُ، سيدةُ الأرضِ.
وهكذا مات خليفة المسلمين مُغتالا مسحُوقًا تحت شدَّةِ وطأةِ مؤخرات جوارى أمِّه.
(٣)
(حتى إنه قتل فى يوم واحد خمسين ألفًا من المسلمين).
جملةٌ عاديةٌ تتكرر فى كتاب التاريخ الإسلامى الحافل بمقَاتِل المسلمين بعضهم بعضًا، وما تفعله داعش أو أية حركة متأسلمة، أو جماعة تتاجر فى الدين، هو غيضٌ من فيضٍ، ونقطة صغيرة من بحارٍ دماءٍ سالت، وتاريخ الدولتين الأموية والعباسية ليس ببعيدٍ عن الأذهان.
فلم تعرف العربُ فى الجاهلية أو صدر الإسلام نبشَ القبور، والتنكيل بالجُثث، وتعليقها فى الساحات، أو فوق فروع الأشجار، أو على أبواب البيوت مُددًا طويلةً حتى تبلى وتأكلها الجوارحُ والشمس، بعد قطع رؤوسها، وسحق عظام الخُلفاء، وتذريتها فى الأنهار، أو حرق الجُثث، ونثر رمادها فى المياه، أو فوق الجبال، أو إجبار أهل المقتُولين على شُرب رماد ذويهم بعد غليه، كأنه قهوةٌ عربيةٌ أصيلة.
ويذكر المسعودى فى كتابه العمدة «مُروج الذهب ومعادن الجوهر» أن الخليفة الأول الملقَّب بالسفَّاح أبا العباس نبش قبر الخليفة هشام بن عبد الملك بن مروان، وقد أمر بجلد جُثته ثمانين جلدةً بالسوط.
والسفَّاح هذا، سيُقتل بعد ذلك تحت أنقاض بيته، بعد أن حُبس سبع سنوات، وكانت مخيلة أبى جعفر المنصور تشطح كثيرًا فى تفانين وألوان القتل، فأمر بأن يسكنَ فى بيتٍ، يُوضع فى أساسه ملحٌ، وأن يجرى الماءُ من تحته، فسقط البيت وتهاوى، وكان عُمر الخليفة السفاح وقتذاك اثنتين وخمسين سنة.
(٤)
كان واليًا على إمارة خُراسان، وعاصمتها مرْو، وكانت وقتذاك تشمل مناطق فى أفغانستان وتركمانستان وإيران، ولمَّا قُبضَ عليه، وصُودرت أمواله، وحانت ساعةُ الإحصاء، بلغت- كما تقول معظم المصادر التاريخية- حمل ألف وخمسمائة بعيرٍ.
ذهبت الأموال إلى بغداد عاصمة الخلافة العباسية وكان ذلك فى زمن هارون الرشيد، الذى أمر هرثمة بن أعين بالانقضاض على علىِّ بن عيسى بن هامان والى خراسان.
راحت الأموال بالطبع إلى جيْب الخليفة، الذى كانوا يسمُّونه - خشية غضب الناس - بيت مال المسلمين.
وسيأمر فيما بعد خليفة آخر هو المأمون بقتل هرثمة خنقًا أو بدسِّ السُّم له، وقيل إنه قبل أن يُلقَى فى سجنه، ويُقتل سرًّا، قد دِيست بطنه، وضُرب أنفُه، وسُحب من بين يديه.
هكذا عاشت الخلافة بين الدم والملذات، بين السَّبى والسرقات، وأيضًا كان هناك ضوءٌ يسطع من عقول وقلُوب العارفين من أهل التصوف والشعر والعلم والدين، وإن لم يسلموا من الصلب والقتل والضرب والسحل والاتهام بالزندقة والهرطقة والتكفير، لكنه يظلُّ ضوءًا فرديًّا، وليس نتاجًا لسياسةٍ أو منظومة عملٍ مُخطَّط لها سلفًا.
(٥)
ولمَّا لم يكن شيئًا بين القوم، اصطنع لنفسه نسبًا، وبدَّل اسمه، خجلا من اسمه الذى منحه له والداه، وساعده فى ذلك أناسٌ من القوم، وشجَّعُوه على المضى فى كتابة تاريخٍ جديدٍ له، لم يسطِّرْ منه حرفًا واحدًا، وهى الصناعة التى أتقنها العرب قديمًا، من أجل تقديم وجهٍ، ليكونَ بعد أجلٍ خليفةً أو واليًا، لكنَّ الحاشية لم تستطع أن تتقن عملها كل الإتقان، فمثلا مثلا أن تجعل من أبى مسلم الخراسانى فحْلا بين رجال عصره، إذْ فى حقيقة الأمر لم يكن يقرب النساء إلا مرةً واحدةً كل عام، ولم يذكر لنا التاريخ هل كان فى هذه المرة مُعلما فى الهتك والفتْك والضرب والنيْل، أم هو دون الآخذ بجماع امرأته أو نسائه وجواريه، وكن كثيرات.
وهو القائل: (الجماع جنونٌ، ويكفى الإنسان أن يجن فى السنة مرة واحدة).
ويبدو أن الخراسانى قد انشغل بالدم، ليرسى دعائم الدولة العباسية الجديدة على أنقاض مُلك بنى أمية، إذْ قيل إنَّ أيام حُكْمه شهدت قتل ما يزيد على نصف مليون نفس، وهو نفسه قتل (٣٧ سنة) بعد حين بأمرٍ من الخليفة أبى جعفر المنصور.
ahmad_shahawy@hotmail.com

تعليقات