كتابات مختارة - قرن على ميلاد محمود أمين العالم

قرن على ميلاد محمود أمين العالم


رضي السماك  - كاتب وباحث بحريني في القضايا السياسية والتراثية -

نقلاً عن موقع : الحوار المتمدن 22-2-2022

تحتفل الأوساط اليسارية والتقدمية في مصر والعالم العربي في هذه الأيام بمرور مئة عام على ميلاد المفكر اليساري الكبير محمود أمين العالم المولود في حي الدرب الأحمر بالقاهرة في يوم 22 فبراير/ شباط من عام 1922، ولا يخلو رقم هذا اليوم والشهر الذي وُلد فيه من مغزى ومفارقة أليمة، فهو اليوم نفسه الذي تمت فيه واحدة من أكبر مهازل تاريخنا العربي المعاصر، ألا هي الوحدة الأندماجية بين مصر وسوريا عام 1958 التي تمت كما نعلم بشكل أرتجالي متسرع جداً مما أدى إلى حيث فشلها بعد ثلاث سنوات فقط من إتمامها، ليؤكد هذا الفشل صحة تحفظات الشيوعيين العرب في مصر والعراق وسوريا ولبنان عليها، وقد كان المفكر الراحل أمين العالم من أبرز القادة الشيوعيين المصريين الذين أبدوا بشجاعة تحفظاتهم عليها بمبررات موضوعية رصينة، دون أن يعني ذلك رفضهم للفكرة من الناحية المبدئية.
ولكن السلطات الناصرية المصرية ردت على تحفظاتهم ليس بدراستها أو مقارعة الحجة بالحجة، بل كما لو أرتكبوا جريمة كببيرة لا يمكن أغتفارها، ولم تكتفِ بذلك فحسب، بل وإمعاناً في الفجور الأنتقامي أختارت توقيت بداية الأنتقام بأن يكون ليلة عيد من الأعياد التي تحتفل به البشرية، وهكذا ففي ليلة رأس السنة الميلادية 1959، وبعد مدة قصيرة من عودة محمود أمين العالم وزوجته الإعلامية إلى منزلهما بعد أحتفالهما بتلك الليلة السعيدة داهمت السلطات البوليسية المنزل لتفتشه تفتيشاً دقيقا وتلقي القبض
على محمود أمين العالم ضمن أكبر حملة أعتقالات تلحق باليسار في تاريخ مصر الحديث، وقد طالت الحملة الغالبية العظمى من رموز وعناصر اليسار والشيوعيين المصريين، وتعرض جميعهم لصنوف من أشكال التعذيب الوحشي، وسقط تحت هذا التعذيب في معتقل "أبو زعبل"سيء الصيت شهداء عديدون، ومن أبرزهم القائد الشيوعي الفذ شهدي عطية.. وكان العالم ضمن من تعرضوا للتعذيب الشديد والذي كان يوصفه دائماً بهذا التعبير : " ضُربنا ضرب الأبل" حيث كُسرت على إثره إحدى رجليه، ولما كان مطلوب منه وجميع رفاقه القيام بأعمال شاقة في الجبل الذي يسيرون إليه صباحاً لمسافة طويلة حفاة الأقدام، فقد كان العالم يُحمل من قَبل رفيقين له، وعند بوابة الجبل يتم سحله حتى مكان العمل المطلوب حيث عرف أول مرة حينها معنى "السحل"على حد تعبيره، وأستمرت الآلام المبرحة تلازمه لفترة
طويلة . وقبل ذلك في عام 1953 تعرض العالم ومجموعة كبيرة من أساتذة الجامعات لعقوبة الفصل من الجامعة بسبب مواقفهم المطالبة بالديمقراطية، وكان حينها عُيّن مدرساً مساعداً لتدريس المنطق في كلية الآداب بُعيد نيله شهادة الماجستير عن " قانون المصادفة الفيزيائية ودلالاتها الفلسفية " التي أعتبرها المشرفان على رسالته بأنه يستحق عليها درجة الدكتوراه لولا تقيدهم بالنظام التدرجي في نيل الشهادات العليا، وكان عندئذ يستعد للتحضير لرسالة الدكتوراه عن " قانون الضرورة في العلوم الإنسانية" .
ومع أن الوحدة فشلت عام 1961وأعترف عبد الناصر بفشلها لعوامل سبق أن ساقها الشيوعيون في أبداء مواقفهم منها، ومع أن الميثاق الوطني الذي صدر في العالم التالي 1962 مقتبسة اُستوحيت أفكاره بمعظمها من الفكر الاستراكي الماركسي، إلا أنه لم يجرِ الإفراج عنهم إلا عام 1964 إثر ضغوط من الاتحاد السوفييتي عشية زيارة رئيسه خروشوف لمصر . وفور الإفراج عنهم تم الضغط بقوة على قياداتهم لحل حزبهم الشيوعي والتعاون مع حزب السلطة " الأتحاد الاشتراكي" ولم يكن لهم خيار سوى الخضوع لهذا الضغط، حيث أعلنت اللجنة المركزية حل الحزب في أبريل 1965.
أنخرط محمود أمين العالم مع مجموعة من رفاقه اليساريين في النضال السياسي تحت مظلة "الاتحاد الاشتراكي" وعينه الرئيس جمال عبد الناصر في "التنظيم الطليعي" السري الذي أنشئه داخل الاتحاد الاشتراكي نفسه، ثم شغل مناصب عديدة، منها : رئاسة تحرير ومجلس إدارة صحيفة أخبار اليوم التي فُصل منها لرفضه مصادرة مقال له فيها ، ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للكتاب، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة المسرح والموسيقى والفنون الشعبية، كما اُنتخب عضواً قيادياً في نقابة الصحفيين. أما في عهد الرئيس أنور السادات فقد تعرض للاعتقال ضمن الحملة التي طالت القيادات الناصرية في مايو 1971 ، وبعد الإفراج عنه سافر إلى بريطانيا وأقام فيها لفترة قصيرة، ثم حط رحاله في باريس وعمل استاذاً في جامعة السوربون، كما أصدر من هناك مع رفيق دربه المناضل ميشيل كامل مجلة"اليسار العربي" وبعد عودته لمصر في عهد الرئيس حسني مبارك أصدر "مجلة قضايا فكرية" الدورية والتي ظلت تصدر بانتظام حتى رحيله في العاشر من يناير 2009 مخلفاً إرثاً فكرياً ونضالياً وسياسيا مهماً ً.
وبالرغم من أن محمود أمين العالم كان واحداً من قلة من المفكرين العرب الذين قدموا اسهامات تنظيرية متميزة في أثراء الفكر العربي بلا منازع ما أجمع عليه كل المفكرين وكبار المثقفين العرب على أختلاف مشاربهم الفكرية؛ إلا أنه كان إلى جانب ذلك ناقداً أدبياً كبيراً لا يشق له غبار، وإن لم يتفرغ بالكامل للعمل النقدي، إذا كان شغله الشاغل قضايا النضال السياسي اليومي.
____________________________

تعليقات