نساء رائدات , و مناضلات 1 - الدكتورة نزيهة الدليمي \ من العراق
- الحصول على الرابط
- X
- بريد إلكتروني
- التطبيقات الأخرى
مقال عن الدكتورة نزيهة :
لنحيي معاً ذكرى وفاة المناضلة الوطنية والأممية ورائدة المرأة العراقية الدكتورة نزيهة الدليمي
كاظم حبيب
الحوار المتمدن 2018 / 10 / 30
لنحيي معاً ذكرى وفاة المناضلة الوطنية والأممية ورائدة المرأة العراقية الدكتورة نزيهة الدليمي
كاظم حبيب
الحوار المتمدن 2018 / 10 / 30
حين نحتفي هذا العام بتأبين الدكتورة نزيهة جودت الدليمي في ذكرى وفاتها السنوية، فنحن نستذكر فيها حياة امرأة عراقية مناضلة مقدامة كرّست حياتها للنضال اليومي الشجاع طيلة ستة عقود ونيف من سني الكفاح المليئة بالأحداث الجسام والتحولات الدراماتيكية، على الصعد المحلية والإقليمية والدولية،
نُحي ذكرى نضالها الدؤوب ضد الاستعمار والاستغلال والحرب والتدخل الأجنبي في شؤون البلاد وضد الانقلابات والشوفينية والعنصرية والتمييز الديني والمذهبي والطائفية السياسية، وفي سبيل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ومنها بشكل ملموس حقوق المرأة ومساواتها التامة بالرجل وعلى جميع الأصعدة، وفي سبيل الأمن والسلام العالميين والعدالة الاجتماعية، لا على صعيد العراق حسب، بل وعلى صعد الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط والعالم. فهي مناضلة وطنية ديمقراطية وأممية أمينة على مبادئ حق الشعوب في تقرير مصيرها، وحق أتباع الديانات والمذاهب والاتجاهات الفكرية الديمقراطية في ممارسة عباداتهم واتجاهاتهم الفكرية الإنسانية والعدالة الاجتماعية والسلام.
كانت رفيقتنا الدكتورة نزيهة الدليمي منذ نشأتها السياسية، أثناء الحرب العالمية الثانية، قد ناهضت منذ البدء النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والعسكرية اليابانية التي انتشرت أفكارها الشوفينية والعنصرية في العراق منذ أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين، وتجلت في تأسيس نادي المثنى بن حارث الشيباني في العام 1935 والذي ارتبط بعلاقات عمل وتعاون وتنسيق مستمر ومتين مع الحزب النازي والحكومة الهتلرية والقنصل والوزير المفوض الألماني في بغداد الدكتور فريتز غروبا، إذ كانت له علاقة ممتازة مع الملك غازي الأول ورئيس حزب الشعب القومي رشيد عالي الكيلاني ومفتي القدس محمد أمين الحسيني.
في العام 1941 حاك العقداء الأربعة وحزب الشعب القومي السري انقلاب الأول من مايس/ أيار 1941 ضد الحكومة الملكية. في نهاية شهر أيار/مايس من نفس العام فشل الانقلاب، فنفذ أتباع الحزب وفدائيي محمد يونس وجموع من الأوباش مباشرة مجزرة رهيبة وجريمة بشعة ضد اليهود في الأول والثاني من شهر حزيران/يونيو 1941 في بغداد وراح ضحيتها 144 من المواطنات والمواطنين العراقيين اليهود. وقبل ذاك كان قد حصل فرهوداً مماثلاً في البصرة دون وقوع قتلى.
في العام 1945، وهي طالبة في كلية الطب، شاركت الدكتورة نزيهة مع مجموعة من النسوة في تشكيل "الجمعية النسوية لمكافحة النازية والفاشية" برئاسة السيدة عفيفة رؤوف وعضوية الدكتورة روز خدوري وخانم زهدي ومبجل بابان وناشطات أخريات.
تركز نضال نزيهة في هذه الفترة في تعبئة النساء للنضال من أجل الحصول على حقوقهن المغتصبة في مجتمع كان لا يزال يعاني من التخلف الاقتصادي والاجتماعي وغياب الوعي بالحقوق والواجبات، إضافة إلى كونه ذكوريا متعسف وديني مشوه في مواقفه إزاء المرأة تماما.
في العام 1947 تخرجت من كلية الطب، فعمدت إلى وضع اختصاصها في مساعدة الفقراء والمعوزين، حين كانت عيادتها في مدينة كربلاء أو في السليمانية، وبالتالي ساهمت عبر مهنتها إلى توسيع دائرة المناضلات والمؤيدات لحقوق المرأة، وكسبت من خلال ذلك جمهرة واسعة من النساء للحزب الشيوعي العراقي لا عبر دعايتها المباشرة للحزب بل عبر حيويتها ونشاطها الطبي في مساعدة الآخرين وسلوكها الإنساني وسمعتها الطيبة، إذ اعتبروا ذلك جزءاً من سلوك ونشاط الشيوعيين لصالح الفقراء.
في العام 1952 بادرت مع مجموعة من النساء الناشطات في تشكيل رابطة المرأة العراقية وانتخبت في أول مؤتمر لها رئيسة للرابطة، في ذات الفترة التي تم تأسيس اتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي وحركة السلام العراقية كجزء من حركة السلم العالمية، والتي كانت بتوجيه ودعم كبيرين من الحزب الشيوعي العراقي. وفي العام 1953 شاركت في مؤتمر اتحاد النساء الديمقراطي العالمي في كوبنهاگن وانتخبت الرابطة عضوة في هذا الاتحاد.
في العام 1958 فجر الجيش العراقي انتفاضة عسكرية ناضل الشعب لتحويلها إلى ثورة شعبية لتحقق له الكثير من طموحاته الوطنية والديمقراطية. في أول تشكيلة حكومية بعد الثورة، برئاسة الزعيم عبد الكريم قاسم، تولت الدكتور نزيهة الدليم وزارة البلديات، وهي أول امرأة عربية تصبح وزيرة في الدول العربية. جاء توزيرها لعدة أسباب مهمة، منها سمعتها الطيبة كطبية نسوية، ورئاستها لرابطة المرأة العراقية وحيويتها ونشاط المنظمة البارز في فترة الحكم الملكي وتعرض مناضليها للاضطهاد والسجن والتعذيب، عضويتها في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، الذي كان قد حصل في نفس العام وبمبادرة من الرفيق سلام عادل، السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب. كان لتوزيرها الوقع الحسن في الشارع العراقي، ولاسيما بعد أن برهنت بدورها الفعال في وزارة البلديات، ومنها: 1) كثرة منجزات وزارة البلديات لصالح المجتمع عموماً ولاسيما للكادحين، 2) أطلاق اسم مدينة الثورة على المنطقة التي امتلأت بالفلاحين الهاربين من ظلم الإقطاعيين وكبار الملاكين والعناية بها وبقاطنيها، 3) توزيعها قطع بمساحات مناسبة على العائلات الفلاحية في مدينة الشعلة لبنا دور لهم بدلاً من الأكواخ الطينية العشوائية، 4) دورها المميز مع الرابطة في انجاز وإصدار حكومة الثورة قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 كأحسن قانون في الدول العربية حينذاك وفي العراق حتى الآن. وكان هذا القانون المتقدم، رغم تواضعه فيما تضمن من حقوق مهمة للمرأة العراقية، من العوامل التي دفعت بالقوى الرجعية والقومية اليمينية والبعثية والفئات الإقطاعية والمؤسسات والمرجعيات الدينية، إضافة إلى الحركة المسلحة الكردية المشاركة في لتآمر على حكومة قاسم وإسقاطها بانقلاب شباط الدموي والفاشي عام 1963، وبدعم دولي امريكي بريطاني مباشرين، مما أكده علي السعدي نائب رئيس وزراء حكومة البعث الانقلابية بقوله "جئنا بقطار أمريكي"، ودول حلف بغداد (السنتو) والعديد من الدول العربية.
وبسبب المخاطر التي تجمعت حول حياة الدكتورة نزيهة الدليمي، وحياة الكثير من المناضلين حينذاك، قررت قيادة الحزب الشيوعي العراقي إرسالها للدراسة الحزبية في موسكو في العام 1961. وبعد إسقاط النظام الوطني رغم فردية عبد الكرم قاسم وتراجع في سياساته الديمقراطية، انتقلت الدكتورة نزيهة الدليمي إلى براغ وساهمت في تشكيل "حركة الدفاع عن الشعب العراقي وانتخبت في عضوية هيئتها القيادية إلى جانب رئيسها الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري والدكتور فيصل السامر والأستاذ عبد الفتاح إبراهيم والفنان التشكيلي محمود صبري والدكتور عزيز الحاج ونوري عبد الرزاق حسين وآخرون. هيأت الدكتور نزيهة الدليمي، عضوة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، نفسها للعودة إلى الوطن وعادت فعلاً في العام 1967/1968 ونسبت عضوا في لجنة منطقة بغداد للنهوض بعمل الحزب النسوي ورابطة المرأة العراقية في آن واحد، وكانت قبل ذاك قد ساهمت في اجتماع اللجنة المركزية في براغ في العام 1964 الذي تم فيه انتخاب الرفيق الفقد عزيز محمد السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، كما مثَّلت الحزب في مجلس وهيئة تحرير مجلة الوقت، لسان حال الأحزاب الشيوعية والعمالية للأممية الثالثة على الصعيد العالمي.
لقد شاركت الدكتورة نزيهة الدليمي أثناء وجودها في الخارج في الفترتين اللتين أجبرت على مغادرة العراق، الأولى 1961 والثانية 1978، في جميع المؤتمرات الدولية لاتحاد النساء الديمقراطي العالمي وكانت نائبة لرئيسة الاتحاد، وفي مؤتمرات نسوية وندوات كثيرة، كما كانت عضوة في هيئة رئاسة مجلس السلم العالمي إلى جانب الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، وهو من المشاركين في أول اجتماع لحركة السلام العالمي في العام 1948، وأحد مؤسسي مجلس السلم العالمي في مؤتمر الحركة الأول في العام 1950 والعضو الدائم فيه، وكذلك كل من الرفيقين القياديين والفقيدين عزيز شريف وعامر عبد الله.
تميزت نزيهة الدليمي بالحيوية والنشاط الدؤوب وبعلاقات واسعة مع المنظمات الإقليمية والدولية في مجالات النساء وحركة السلام العالمية والقوى الديمقراطية اليسارية واتسمت بالتواضع الجم في علاقاتها مع من حولها ومع الناس الكادحين الفقراء والعاملين معها.
قرر المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي انتقال الدكتور نزيهة الدليمي من دمشق إلى مدينة بوتسدام بألمانيا الديمقراطية في نهاية العام 1985 بداية 1986. وقد كلفت بكتابة تاريخ الحزب، بعد أن كانت مسؤولة عن تنظيمات الحزب في الخارج لسنوات عديدة حتى العام 1986 وبسبب مرض القلب الذب كانت بداية معانتها منه، وللأجواء السياسية المعقدة في الشام والصراعات الحزبية الجانبية التي بدأت تبرز حينذاك.
بدأت الدكتورة بهذا العمل الكبير، ولم يكن التاريخ ضمن اختصاصها، فأنجزت جزءاً صغيراً ومحدوداً منه، إذ لم تتوفر المصادر ولا ساعدتها صحتها على استكماله، ولكنها عملت مع الرفيقة ثمينة سلام عادل في موسكو لمراجعة كتاب ثمينة الموسوم "سلام عادل". واختلفا في بعض المسائل، فعادت إلى برلين. لقد تميزت نزيهة باستقلالية الرأي والرغبة في الحوار والنقاش الموضوعيين للوصول إلى الرأي الصائب والسديد دون تعصب أو أصرار، وملكنها كانت باستمرار إلى جانب رأي قيادة الحزب، وكانت مؤمنة تماماً بالحزب والماركسية -اللينينية وبالاتحاد السوفييتي، ولهذا كان الضربة قاسية حين انهار الاتحاد السوفييتي وكل المعسكر الاشتراكي، ولكنها لم تفقد ثقتها وأحلامها ببناء المجتمع الخالي من الاستعمار والاستغلال والعنصرية والتمييز والحروب.
اختارت د. نزيهة بوتسدام لتكون قريبة من شقيقها واثق الدليمي وعائلته، فاحتضنت من العائلة بمحبة واحترام دائمين، وعاشت في شقة خاصة بها وقريبة من عائلة الأخ إلى حين وفاتها. لقد كانت الفقيدة نزيهة محط احترام وحب كبيرين من رفاقها وأصدقاءها وصديقاتها ومن كانت تلتقي بهم, كانت الزيارات لها دائمة من قادة الحزب الذين يمرون ببرلين ومن القاطنين بألمانيا ولاسيما برلين. لقد فقدت نزيهة شقيقين عزيزين هما لطفي وواثق، وكلاهما أصغر سناً منها، فتلقت بذلك ضربة قاسية في الصميم لم تكن تتوقعها ولم تتحملها، كما إنها كانت بعيدة عن السياسة اليومية وعن رابطة المرأة العراقية، رغم كونها كانت ماتزال رئيستها بسبب بعدها عن واقع الحياة السياسة والاجتماعية اليومية وعن الناس ولاسيما النسوة في بغداد والعراق، وكان هذا البعد يحز في نفسها كثيرا ويؤرقها وتحس بالعزلة والوجع النفسي. لم تكن في عزلة عن الأصدقاء والصديقات وعن الزيارات المتكررة لها، ولكنها كانت معزولة عن واقع الحياة السياسية في بغداد أو دمشق أو حتى برلين، بسبب صغر وبعد بوتسدام وعدم وجود وسائل الاتصال الحديثة، كما كانت تعاني من ضعف في القلب، وكان سبب وفاتها، وفي القدرة على السير بسبب العمر، وكانت محاطة برعاية عائلة شقيقها وزوجته الفاضلة وابنته الدكتورة زحل وأبنيه الدكتور سعد وأحمد وزينة. وكانوا حولها حين وفاتها في المستشفى.
لقد كانت لي علاقة رفاقية وأخوية وصداقية حميمة مع الدكتورة نزيهة واحترام كبير متبادل منذ الستينيات من القرن الماضي وعملنا في حزب واحد وفي تنظيمات واحدة لفترات معينة، ولاسيما في فترة السرية ببغداد، وفي تنظيمات الخارج، وكانت لي زيارات لها في بوتسدام مع أصدقاء وصديقات من العراق وألمانيا، وأهدتني نسخة مصورة من مسودة كتابها غير المنجزة وغير المطبوعة عن تاريخ الحركة الوطنية والحزب الشيوعي العراقي والتي استفد منها في كتابة رسالة ماجستير عنها في بغداد، كما شاركت في فيلم وثائقي ألماني عن العراق في فترة العهد الملكي، وانجزت كراساً عن حياة ونضال ودور المرأة العراقية.
إننا إذ نحيي ذكرى الفقيدة، نتابع أيضاً وبغضب وحزن شديدين استمرار موجة جرائم الاغتيالات الجبانة التي ترتكب ضد الناشطات من النساء العراقيات ومن اللواتي يعملن في مجالات الزينة النسوية والشأن العام، وكذلك ضد مجموعة من المناضلين الشجعان، بعد أن انطلقت حملة نضالية احتجاجية وانتفاضة شعبية ضد نظام المحاصصة الطائفية ونقص شديد في الخدمات والفساد السائدين وظواهر التمييز الديني والطائفي والقومي المقيتة، لاسيما بعد أن عمدت الحكومة وأجهزتها الأمنية والمليشيات الطائفية المسلحة والحشد الشعبي بضرب المظاهرات في البصرة ومناطق أخرى في الجنوب والوسط وبغداد، وملاحقة تلك القوى المسلحة خارج القانون للناشطات والناشطين واغتيالهم بوحشية وفي وضح النهار. لم تنتج التحقيقات الرسمية التي أعلن عنها رئيس الوزراء حتى الآن عن اكتشاف أي مجرم، علماً بـأن سلطات الدولة تعرف عين اليقين من هم القتلة، سواء أكانوا من داخل الحدود، أم جاءوا من وراء الحدود ومن دول الجوار، ولاسيما إيران. إننا إذ ندين هذه الجرائم ونطالب بإيقافها فوراً والكشف عن مرتكبيها القتلة، وعن عمليات الاختطاف والابتزاز والتغييب ومحاكمتهم وأنزال العقاب العادل بهم.
في العراق قررت الحكومة العراقية في العام 2009 إقامة تمثال لها في إحدى ساحات بغداد كأول امرأة ووزيرة وناشطة نسوية وديمقراطية، والذي لم يتحقق حتى الآن، ولا بد من السعي للضغط من أجل تنفيذه.
في اليوم التاسع من شهر تشرين الأول/أكتوبر 2007 توقف قلبها عن الحركة وفقدنا بها أختاً ورفيقة وصديقة ومناضلة جسورة ومتواضعة وذات مبادئ ثابتة وحب كبير للشعب العراقي.
الذكر الطيب للمناضلة النسوية والديمقراطية والشيوعية المقدامة، المناضلة الوطنية والعربية والأممية الساطعة كشهاب بزغ واختفى سريعاً، ولكن بقي وهجه يشع في سماء العراق ليشارك في إنارة طريق النسوة العراقيات والحركة الديمقراطية والتقدمية العراقية دوماً في نضالها الحثيث والثابت من أجل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ومنها حقوق النسوة والسلام والعدالة الاجتماعية، من أجل وطن حر وشعب سعيد.
كاظم حبيب
برلين، 27/10/2007
ملاحظة: ألقيت الكلمة في الاحتفال التأبيني في الذكرى السنوية لوفاة الرفيقة المناضلة الدكتورة نزيهة الدليمي التي أقيمت في منتدى بغداد للثقافة والفنون في برلين بتاريخ 27/10/2018.
كانت رفيقتنا الدكتورة نزيهة الدليمي منذ نشأتها السياسية، أثناء الحرب العالمية الثانية، قد ناهضت منذ البدء النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والعسكرية اليابانية التي انتشرت أفكارها الشوفينية والعنصرية في العراق منذ أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين، وتجلت في تأسيس نادي المثنى بن حارث الشيباني في العام 1935 والذي ارتبط بعلاقات عمل وتعاون وتنسيق مستمر ومتين مع الحزب النازي والحكومة الهتلرية والقنصل والوزير المفوض الألماني في بغداد الدكتور فريتز غروبا، إذ كانت له علاقة ممتازة مع الملك غازي الأول ورئيس حزب الشعب القومي رشيد عالي الكيلاني ومفتي القدس محمد أمين الحسيني.
في العام 1941 حاك العقداء الأربعة وحزب الشعب القومي السري انقلاب الأول من مايس/ أيار 1941 ضد الحكومة الملكية. في نهاية شهر أيار/مايس من نفس العام فشل الانقلاب، فنفذ أتباع الحزب وفدائيي محمد يونس وجموع من الأوباش مباشرة مجزرة رهيبة وجريمة بشعة ضد اليهود في الأول والثاني من شهر حزيران/يونيو 1941 في بغداد وراح ضحيتها 144 من المواطنات والمواطنين العراقيين اليهود. وقبل ذاك كان قد حصل فرهوداً مماثلاً في البصرة دون وقوع قتلى.
في العام 1945، وهي طالبة في كلية الطب، شاركت الدكتورة نزيهة مع مجموعة من النسوة في تشكيل "الجمعية النسوية لمكافحة النازية والفاشية" برئاسة السيدة عفيفة رؤوف وعضوية الدكتورة روز خدوري وخانم زهدي ومبجل بابان وناشطات أخريات.
تركز نضال نزيهة في هذه الفترة في تعبئة النساء للنضال من أجل الحصول على حقوقهن المغتصبة في مجتمع كان لا يزال يعاني من التخلف الاقتصادي والاجتماعي وغياب الوعي بالحقوق والواجبات، إضافة إلى كونه ذكوريا متعسف وديني مشوه في مواقفه إزاء المرأة تماما.
في العام 1947 تخرجت من كلية الطب، فعمدت إلى وضع اختصاصها في مساعدة الفقراء والمعوزين، حين كانت عيادتها في مدينة كربلاء أو في السليمانية، وبالتالي ساهمت عبر مهنتها إلى توسيع دائرة المناضلات والمؤيدات لحقوق المرأة، وكسبت من خلال ذلك جمهرة واسعة من النساء للحزب الشيوعي العراقي لا عبر دعايتها المباشرة للحزب بل عبر حيويتها ونشاطها الطبي في مساعدة الآخرين وسلوكها الإنساني وسمعتها الطيبة، إذ اعتبروا ذلك جزءاً من سلوك ونشاط الشيوعيين لصالح الفقراء.
في العام 1952 بادرت مع مجموعة من النساء الناشطات في تشكيل رابطة المرأة العراقية وانتخبت في أول مؤتمر لها رئيسة للرابطة، في ذات الفترة التي تم تأسيس اتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي وحركة السلام العراقية كجزء من حركة السلم العالمية، والتي كانت بتوجيه ودعم كبيرين من الحزب الشيوعي العراقي. وفي العام 1953 شاركت في مؤتمر اتحاد النساء الديمقراطي العالمي في كوبنهاگن وانتخبت الرابطة عضوة في هذا الاتحاد.
في العام 1958 فجر الجيش العراقي انتفاضة عسكرية ناضل الشعب لتحويلها إلى ثورة شعبية لتحقق له الكثير من طموحاته الوطنية والديمقراطية. في أول تشكيلة حكومية بعد الثورة، برئاسة الزعيم عبد الكريم قاسم، تولت الدكتور نزيهة الدليم وزارة البلديات، وهي أول امرأة عربية تصبح وزيرة في الدول العربية. جاء توزيرها لعدة أسباب مهمة، منها سمعتها الطيبة كطبية نسوية، ورئاستها لرابطة المرأة العراقية وحيويتها ونشاط المنظمة البارز في فترة الحكم الملكي وتعرض مناضليها للاضطهاد والسجن والتعذيب، عضويتها في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، الذي كان قد حصل في نفس العام وبمبادرة من الرفيق سلام عادل، السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب. كان لتوزيرها الوقع الحسن في الشارع العراقي، ولاسيما بعد أن برهنت بدورها الفعال في وزارة البلديات، ومنها: 1) كثرة منجزات وزارة البلديات لصالح المجتمع عموماً ولاسيما للكادحين، 2) أطلاق اسم مدينة الثورة على المنطقة التي امتلأت بالفلاحين الهاربين من ظلم الإقطاعيين وكبار الملاكين والعناية بها وبقاطنيها، 3) توزيعها قطع بمساحات مناسبة على العائلات الفلاحية في مدينة الشعلة لبنا دور لهم بدلاً من الأكواخ الطينية العشوائية، 4) دورها المميز مع الرابطة في انجاز وإصدار حكومة الثورة قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 كأحسن قانون في الدول العربية حينذاك وفي العراق حتى الآن. وكان هذا القانون المتقدم، رغم تواضعه فيما تضمن من حقوق مهمة للمرأة العراقية، من العوامل التي دفعت بالقوى الرجعية والقومية اليمينية والبعثية والفئات الإقطاعية والمؤسسات والمرجعيات الدينية، إضافة إلى الحركة المسلحة الكردية المشاركة في لتآمر على حكومة قاسم وإسقاطها بانقلاب شباط الدموي والفاشي عام 1963، وبدعم دولي امريكي بريطاني مباشرين، مما أكده علي السعدي نائب رئيس وزراء حكومة البعث الانقلابية بقوله "جئنا بقطار أمريكي"، ودول حلف بغداد (السنتو) والعديد من الدول العربية.
وبسبب المخاطر التي تجمعت حول حياة الدكتورة نزيهة الدليمي، وحياة الكثير من المناضلين حينذاك، قررت قيادة الحزب الشيوعي العراقي إرسالها للدراسة الحزبية في موسكو في العام 1961. وبعد إسقاط النظام الوطني رغم فردية عبد الكرم قاسم وتراجع في سياساته الديمقراطية، انتقلت الدكتورة نزيهة الدليمي إلى براغ وساهمت في تشكيل "حركة الدفاع عن الشعب العراقي وانتخبت في عضوية هيئتها القيادية إلى جانب رئيسها الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري والدكتور فيصل السامر والأستاذ عبد الفتاح إبراهيم والفنان التشكيلي محمود صبري والدكتور عزيز الحاج ونوري عبد الرزاق حسين وآخرون. هيأت الدكتور نزيهة الدليمي، عضوة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، نفسها للعودة إلى الوطن وعادت فعلاً في العام 1967/1968 ونسبت عضوا في لجنة منطقة بغداد للنهوض بعمل الحزب النسوي ورابطة المرأة العراقية في آن واحد، وكانت قبل ذاك قد ساهمت في اجتماع اللجنة المركزية في براغ في العام 1964 الذي تم فيه انتخاب الرفيق الفقد عزيز محمد السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، كما مثَّلت الحزب في مجلس وهيئة تحرير مجلة الوقت، لسان حال الأحزاب الشيوعية والعمالية للأممية الثالثة على الصعيد العالمي.
لقد شاركت الدكتورة نزيهة الدليمي أثناء وجودها في الخارج في الفترتين اللتين أجبرت على مغادرة العراق، الأولى 1961 والثانية 1978، في جميع المؤتمرات الدولية لاتحاد النساء الديمقراطي العالمي وكانت نائبة لرئيسة الاتحاد، وفي مؤتمرات نسوية وندوات كثيرة، كما كانت عضوة في هيئة رئاسة مجلس السلم العالمي إلى جانب الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، وهو من المشاركين في أول اجتماع لحركة السلام العالمي في العام 1948، وأحد مؤسسي مجلس السلم العالمي في مؤتمر الحركة الأول في العام 1950 والعضو الدائم فيه، وكذلك كل من الرفيقين القياديين والفقيدين عزيز شريف وعامر عبد الله.
تميزت نزيهة الدليمي بالحيوية والنشاط الدؤوب وبعلاقات واسعة مع المنظمات الإقليمية والدولية في مجالات النساء وحركة السلام العالمية والقوى الديمقراطية اليسارية واتسمت بالتواضع الجم في علاقاتها مع من حولها ومع الناس الكادحين الفقراء والعاملين معها.
قرر المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي انتقال الدكتور نزيهة الدليمي من دمشق إلى مدينة بوتسدام بألمانيا الديمقراطية في نهاية العام 1985 بداية 1986. وقد كلفت بكتابة تاريخ الحزب، بعد أن كانت مسؤولة عن تنظيمات الحزب في الخارج لسنوات عديدة حتى العام 1986 وبسبب مرض القلب الذب كانت بداية معانتها منه، وللأجواء السياسية المعقدة في الشام والصراعات الحزبية الجانبية التي بدأت تبرز حينذاك.
بدأت الدكتورة بهذا العمل الكبير، ولم يكن التاريخ ضمن اختصاصها، فأنجزت جزءاً صغيراً ومحدوداً منه، إذ لم تتوفر المصادر ولا ساعدتها صحتها على استكماله، ولكنها عملت مع الرفيقة ثمينة سلام عادل في موسكو لمراجعة كتاب ثمينة الموسوم "سلام عادل". واختلفا في بعض المسائل، فعادت إلى برلين. لقد تميزت نزيهة باستقلالية الرأي والرغبة في الحوار والنقاش الموضوعيين للوصول إلى الرأي الصائب والسديد دون تعصب أو أصرار، وملكنها كانت باستمرار إلى جانب رأي قيادة الحزب، وكانت مؤمنة تماماً بالحزب والماركسية -اللينينية وبالاتحاد السوفييتي، ولهذا كان الضربة قاسية حين انهار الاتحاد السوفييتي وكل المعسكر الاشتراكي، ولكنها لم تفقد ثقتها وأحلامها ببناء المجتمع الخالي من الاستعمار والاستغلال والعنصرية والتمييز والحروب.
اختارت د. نزيهة بوتسدام لتكون قريبة من شقيقها واثق الدليمي وعائلته، فاحتضنت من العائلة بمحبة واحترام دائمين، وعاشت في شقة خاصة بها وقريبة من عائلة الأخ إلى حين وفاتها. لقد كانت الفقيدة نزيهة محط احترام وحب كبيرين من رفاقها وأصدقاءها وصديقاتها ومن كانت تلتقي بهم, كانت الزيارات لها دائمة من قادة الحزب الذين يمرون ببرلين ومن القاطنين بألمانيا ولاسيما برلين. لقد فقدت نزيهة شقيقين عزيزين هما لطفي وواثق، وكلاهما أصغر سناً منها، فتلقت بذلك ضربة قاسية في الصميم لم تكن تتوقعها ولم تتحملها، كما إنها كانت بعيدة عن السياسة اليومية وعن رابطة المرأة العراقية، رغم كونها كانت ماتزال رئيستها بسبب بعدها عن واقع الحياة السياسة والاجتماعية اليومية وعن الناس ولاسيما النسوة في بغداد والعراق، وكان هذا البعد يحز في نفسها كثيرا ويؤرقها وتحس بالعزلة والوجع النفسي. لم تكن في عزلة عن الأصدقاء والصديقات وعن الزيارات المتكررة لها، ولكنها كانت معزولة عن واقع الحياة السياسية في بغداد أو دمشق أو حتى برلين، بسبب صغر وبعد بوتسدام وعدم وجود وسائل الاتصال الحديثة، كما كانت تعاني من ضعف في القلب، وكان سبب وفاتها، وفي القدرة على السير بسبب العمر، وكانت محاطة برعاية عائلة شقيقها وزوجته الفاضلة وابنته الدكتورة زحل وأبنيه الدكتور سعد وأحمد وزينة. وكانوا حولها حين وفاتها في المستشفى.
لقد كانت لي علاقة رفاقية وأخوية وصداقية حميمة مع الدكتورة نزيهة واحترام كبير متبادل منذ الستينيات من القرن الماضي وعملنا في حزب واحد وفي تنظيمات واحدة لفترات معينة، ولاسيما في فترة السرية ببغداد، وفي تنظيمات الخارج، وكانت لي زيارات لها في بوتسدام مع أصدقاء وصديقات من العراق وألمانيا، وأهدتني نسخة مصورة من مسودة كتابها غير المنجزة وغير المطبوعة عن تاريخ الحركة الوطنية والحزب الشيوعي العراقي والتي استفد منها في كتابة رسالة ماجستير عنها في بغداد، كما شاركت في فيلم وثائقي ألماني عن العراق في فترة العهد الملكي، وانجزت كراساً عن حياة ونضال ودور المرأة العراقية.
إننا إذ نحيي ذكرى الفقيدة، نتابع أيضاً وبغضب وحزن شديدين استمرار موجة جرائم الاغتيالات الجبانة التي ترتكب ضد الناشطات من النساء العراقيات ومن اللواتي يعملن في مجالات الزينة النسوية والشأن العام، وكذلك ضد مجموعة من المناضلين الشجعان، بعد أن انطلقت حملة نضالية احتجاجية وانتفاضة شعبية ضد نظام المحاصصة الطائفية ونقص شديد في الخدمات والفساد السائدين وظواهر التمييز الديني والطائفي والقومي المقيتة، لاسيما بعد أن عمدت الحكومة وأجهزتها الأمنية والمليشيات الطائفية المسلحة والحشد الشعبي بضرب المظاهرات في البصرة ومناطق أخرى في الجنوب والوسط وبغداد، وملاحقة تلك القوى المسلحة خارج القانون للناشطات والناشطين واغتيالهم بوحشية وفي وضح النهار. لم تنتج التحقيقات الرسمية التي أعلن عنها رئيس الوزراء حتى الآن عن اكتشاف أي مجرم، علماً بـأن سلطات الدولة تعرف عين اليقين من هم القتلة، سواء أكانوا من داخل الحدود، أم جاءوا من وراء الحدود ومن دول الجوار، ولاسيما إيران. إننا إذ ندين هذه الجرائم ونطالب بإيقافها فوراً والكشف عن مرتكبيها القتلة، وعن عمليات الاختطاف والابتزاز والتغييب ومحاكمتهم وأنزال العقاب العادل بهم.
في العراق قررت الحكومة العراقية في العام 2009 إقامة تمثال لها في إحدى ساحات بغداد كأول امرأة ووزيرة وناشطة نسوية وديمقراطية، والذي لم يتحقق حتى الآن، ولا بد من السعي للضغط من أجل تنفيذه.
في اليوم التاسع من شهر تشرين الأول/أكتوبر 2007 توقف قلبها عن الحركة وفقدنا بها أختاً ورفيقة وصديقة ومناضلة جسورة ومتواضعة وذات مبادئ ثابتة وحب كبير للشعب العراقي.
الذكر الطيب للمناضلة النسوية والديمقراطية والشيوعية المقدامة، المناضلة الوطنية والعربية والأممية الساطعة كشهاب بزغ واختفى سريعاً، ولكن بقي وهجه يشع في سماء العراق ليشارك في إنارة طريق النسوة العراقيات والحركة الديمقراطية والتقدمية العراقية دوماً في نضالها الحثيث والثابت من أجل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ومنها حقوق النسوة والسلام والعدالة الاجتماعية، من أجل وطن حر وشعب سعيد.
كاظم حبيب
برلين، 27/10/2007
ملاحظة: ألقيت الكلمة في الاحتفال التأبيني في الذكرى السنوية لوفاة الرفيقة المناضلة الدكتورة نزيهة الدليمي التي أقيمت في منتدى بغداد للثقافة والفنون في برلين بتاريخ 27/10/2018.
=============
تعليقات
إرسال تعليق