مقتطفات


مقتطف من مقال :

أني كلّما زرتُ أماكن عبادة عظيمة، بناها أباطرةٌ أو سلاطينُ أو ملوك، تملكتني مشاعرُ متناقضة، فتارة أتفاعل مع جمالِها وجلالِها وبراعةِ المعمار الذي أشاد بناءَها وابتكر طرازَها الفريد، وربما استحضر شيئاً من حالاتِ الروح لمن أدمن الارتياضَ الروحي والصلاةَ والتهجّدَ فيها، وتارة أشعر بالألم والحسرة الموجعة، لحظة أتذكر آلافَ العمال البؤساء، ممن سخّرهم الحكّامُ بالإكراه لبناء بيوت العبادة هذه. ترتسم أمامي صورٌ مفزعة لكيفية طحنِ ضلوع بعضهم، ودفنِ جماجمهم تحت كتل حجارتها المهولة، وكأني أصغي لزفراتهم وأنينهم حين نقلوا تلك الحجارةَ بطرق بدائية قبل اكتشاف الآلات الحديثة لنقل الكتل الثقيلة.
تحضرني في مثل هذه المواقف الفتوى الأخلاقيةُ المنسوبةُ لبعض متصوّفة المعتزلة، ممن قالوا ببطلان الصلاة في مدينة بغداد، بعد أن أسّسها أبو جعفر المنصور، بوصف الصلاة باطلةً في كلّ أرض مغصوبة، وكان المنصور، كما يقال، قد اغتصب هذه الأرضَ من مالكيها من دون أن يعوّضهم بشيء.
وما زلنا حتى اليوم نصلي في جوامع بناها ملوكٌ وحكّامٌ غاشمون، ونحن لا ندري كيف تمّ بناؤُها، ومن هو مالكُ أرضِها قبل أن يغتصبها الحاكم، وما مصدرُ الأموال الوفيرة لتشييدها، وهل بناءُ جامع أهمّ من إطعام جائع، وهل يجوز اختطافُ لقمة من فم جائع لبناء جامع، مثلما كان يفعل صدام حسين أيام الحصار المرير في تسعينيات القرن الماضي، ففي لحظة بناء جوامعه العملاقة وقصوره الباذخة كان يسقط عراقيون صرعى من الجوع والمرض بجوارهما، ويغرق كثيرٌ منهم في البؤس والفاقة؟!
كم في حياتنا من خداع تمارسه سلطاتٌ مختلفة، تحترف التمويهَ، وتبرع في التزوير. كثيرٌ من السلطات في بلادنا لو أرادت تمريرَ فعل يرفضه الناسُ عملتْ على إلباسه رداءً مضادّاً لمضمونه، فطالما ارتدتْ صورةَ المقدّس بغيةَ إخفاء المدنّس، والتقوى بغيةَ إخفاء الخديعة، والورعَ بغيةَ إخفاء اللصوصية، والقانونَ بغيةَ إخفاء الفوضى، والعدالةَ بغيةَ إخفاء الظلم، والدولةَ بغيةَ إخفاء القبيلة، والوطنَ بغيةَ إخفاء العائلة.
وفي صراع الحكومات والجماعات الدينية على احتكار المال والثروة والسلطة خرجَ كثيرٌ من المساجد والأضرحة والمقامات والطقوس والشعائر من وظيفته الدينية، وتم توظيفُ العديد منها سياسياً، فأصبح مادةً أساسيةً في استراتيجيات الهيمنة والسلطة. كذلك صارتْ أكثرُ هذه الأماكن مثابةً للسياحة، وأضحتْ تؤدي وظيفةً اقتصاديةً تتحكّم فيها معادلاتُ المال والسوق.

( من مقال منشور 5-8-2018 بموقع الحوار المتمدن , بعنوان في حضرة مولانا: سياحة في عالم المعنى - 2  )
 الكاتب  : عبد الجبار الرفاعي   عبدالجبار الرفاعي                           http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=607465


======



تعليقات