حكاية من أهوار العراق
الأفندي والأهوار
خالد القشطيني - صحافي وكاتب عراقي
نقلاً عن الشرق الأوسط اللندنية 3-8-2019
ومن أشهر هذه المناطق الحقول المحيطة بناحية العطيفية. وكان السيد مشكور أبو طبيخ مديراً لهذه الناحية في سنة 1934. كان جالساً في موسم صيد الطيور في بيته يتناول الشاي مع أسرته عصراً، وكان اليوم غزيراً بالأمطار في موسم الربيع. وفجأة، دخل عليه الخادم، وقال: «سيدي أكو واحد عصمانلي بالباب يريد يشوفك». و«العصمانلي» تشويه لكلمة «عثماني». وكان أهل المنطقة يقصدون به «أفندي»، أي رجل متعلم يلبس سترة وبنطلوناً. قال له مدير الناحية: اسأله ماذا يريد.
خرج الخادم ليسأل ذلك الطارق عن حاجته، ثم عاد إلى سيده المدير ليخبره بأنه يريد مساعدتك، سيارته غاطسة في الطين والأوحال. قال المدير: أدخله. فأجابه الخادم: سيدي، هذا الرجل طامس بالطين، كل هدومه وقندرته مطينة، كيف أدخله للبيت؟ راح أطرده وأصرفه.
أجابه مشكور أبو طبيخ: لا ابني لا. يمكن هذا بعدين يرجع لبغداد ويتكلم ضدنا، يمكن يطلع من أبناء الذوات ويخلق لنا مشكلة، ويقول مدير الناحية ما ساعدني، ويقول أهل العطيفية ما عندهم مروة وشهامة، روح جيبه خلي يدخل، طين مو طين نتحمله. خرج الخادم وجاء بذلك العصمانلي.
نظر إليه مدير الناحية وهب من مقعده فوراً: «سيدي، نعتذر. الخادم ما عرف حضرتك».
كان هذا العصمانلي المطين طه الهاشمي وزير الدفاع في الحكومة العراقية. خر الخادم إلى قدميه ليزيل بيديه الطين والوحل من حذائه وسرواله، وهو يواصل التمتمة والاعتذار، ويلعن الشيطان الذي جاء بالمطر في هذا اليوم الذي شرفنا فيه حضرة الوزير. جاءوا بكرسي له، وأسرعوا بالشاي والكعك، وهو بدوره راح يعتذر إليهم لخروجه في هذا اليوم لصيد الدراج والخضيري ونحو ذلك من الطيور. قال: ما شفت غير خضيري واحد، صوبت عليه برصاصتين وما أصبته.
«الله رؤوف بالطيور هذا اليوم، يا عزيزي» قال السيد مشكور.
«يا ولد!» هتف مدير الناحية مخاطباً الخادم: «روح نادي على الزلم والفلاحين حتى يطلعون سيارة الوزير من الطين والمستنقع. خليهم يغسلون يدهم بالأول. هذي سيارة الوزير»!
وفي أثناء ذلك خرجت السيدة أم سعدون، زوجة مدير الناحية، ودخلت المطبخ ولم تخرج منه إلا وفي يديها عدد من طيور المنطقة التي سبق لزوجها أن اصطادها: «خذ منها اللي يعجبك يا سيدي».
وفي أثناء ذلك كان الزلم والفلاحون قد أخرجوا السيارة الفخمة من المستنقع، وغسلوها بحرص ونظفوها جاهزة للأفندي وزير الدفاع، ليواصل سفرته عائداً إلى عاصمة البلاد. وكان يوماً من الأيام اللي فاتت وراحت.
========
تعليقات
إرسال تعليق