المبدعون ولو في قلب محنة

   تمهيد  - صلاح الدين محسن - 8-12-2018

كاتبة مصرية , توفي شقيقها . أرادت أن تكتب عن المناسبة الحزينة. فجاءت كتابتها تحفة من أدب السير الذاتية . مما يوقع القراء في حيرة . هل يقدموا  لها التعازي  ويتغاضون عن واجب الثناء علي تحفتها الأدبية , مما يعد غُبناً لعمل فني  يستحق الاعجاب !؟ أم يؤدوا الواجبين معاً  ؟
بعد تقديم خالص العزاء , ها نحن نبدي إعجابنا بالعمل الأدبي من خلال إعادة نشره - الصور أضفناها , نقلاً من الانترنت - : 
  
 المنشور الأول


إكرام يوسف  - كاتبة صحفية ومترجمة مصرية -


كنت الحفيدة الأولى (في الحقيقة سبقتني اثنتان، توفيتا بعد ذلك، فلم يتبقى في الذاكرة ذكريات مع أي منهما) يسبقني أربعة صبيان، كانوا رفاق لهو سنوات الطفولة الأولى! أو بالأحرى، كانوا القادة وكنت التابعة، بحكم انني الأصغر، وبحكم انني البنت! فهم الأكثر جرأة ويعرفون ألعابا أكثر إثارة من مجرد لعب الدمى وسماع الحواديت الذي يشبع البنات الأصغر مني في العائلة! 
كنت اتبعهم واقلدهم، بداية من التزحلق على ترابزين السلم، الى اللعب في حوش المنزل الكبير، وفوق السطوح، أو تسلق شجرة الصمغ في قطعة ارض فضاء على الرصيف المقابل للبيت كنا نسميها "الخرابة"!! وتجريح لحائها لينزل منها الصمغ! وصولا الى تفضيل القفز من شباك الشقة التي كنا نسكنها، في الطابق الأول، بدلا من الخروج من باب الشقة!! وكنت ارتدي مثلهم الشورت والقميص، لان الكبار عندما يذهبون لشراء ملابس الأعياد من "عمر افندي" كانوا يستسهلون غالبا شراء حاجاتي مع حاجات الصبيان!!.. وتنهرني جدتي لأني"عاملة زي الصبيان" أو " زي الواد الشقي" ، تملأ الجروح والقروح ساقي حتى فوق الركبتين، وذراعي حتى حافة القميص ذي النصف كم، ولوحت الشمس بشرتي فصارت بنية!!
وكما هو السائد عن الأولاد "اللي فوق راس بعض" كانت معظم خناقاتي مع الولدين الأكبر مني مباشرة (فؤاد يكبرني بأحد عشر يوما ـ سبقنا الى رحمة الله قبل نحو أحد عشر عاما، وكتبت عنه يومها مقالا بعنوان "توأمي الضاحك" ـ وعمرو اكبر بثلاث سنوات).
وكانت مشكلتي الكبرى، ان أيا من الاثنين عندما يتشاجر معي، يستسهل جذبي من شعري، بينما يحرمني قصر شعره من نفس الميزة!! (كنت أعوض أحيانا عجزي وضعفي الجسدي امامهما بسلاح "العض"!).
في الأعياد، نلتقي في البيت الكبير، ويرسل الجد للحلاق كي يحضر لحلاقة شعر كل الصبيان في المنزل، فأشعر بحزن شديد وأقول له "ماتخليهوش يقصر شعرهم قوي"!!
كنت في السابعة، عندما ارسلنا الجد مع العمات وزوجات الأعمام لشراء ملابس العيد مع مبلغ مخصص لشراء لعب الأطفال، اختار الخمسة (كان معنا عبد الغني الأصغر منا، شقيق توأمي الضاحك) شراء نوع من "الزمارات" طويلا يشبه الناي لكنه مزخرف وفاخر، واخترت انا وحدي شراء كرة قدم!
ما ان عدنا حتى خطف "عمرو" الكرة من يدي وانطلق مع بقية الصبيان للعب في حوش المنزل 
، فانفجرت في الصراخ، حتى خرج جدي من حجرته متسائلا، وشكوت له أمري، فاستدعى الصبيان للتحقيق؛ قال عمرو: " كرة القدم لعبة الصبيان"، فرد عليه بهدوء "كلكم كنتم في عمر افندي ومعاكم مصروف، ما جبتوش ليه كرة قدم؟ دلوقت يا إما ترجعوا لها كرتها يا إما تلاعبوها معاكم" فقال عمرو "دي بروطة ومش حتعرف تلعب".. فكان قرار الجد حاسما "اما تلاعبوها معاكم، او تدوها كورتها"! وانصاع الجميع للأمر ونزلت معهم مزهوة بانتصاري! واقترح الكبيران ان اقف في "الجون" وفي ظهري الباب الحديدي للحوش.
بدأت المباراة، واشتد اللعب، ثم مر بائع الروبابيكا، ينادي "شكوكو بقزازة"!، لم اشعر بنفسي وانا استدير للفرجة على ما يحمله فوق عربته، حتى انتبهت على تهليل الفريق المنافس "جووووووون"! واذا بعمرو يقفز من الغيظ "قلت لكم دي مش نافعة ونحس، اطلعي فوق وامشي من هنا"!
لم استطع الدفاع عن نفسي، وانسحبت أجرجر أذيال الخيبة والخزي، ويملؤني الغيظ!! ما أن وصلت الى الشقة في الطابق الثاني، حتى اسرعت بانتزاع ورقتين من منصف كراسة، وقطعتها الى قصاصات صغيرة، كتبت فيها اسم عمرو موصوفا بكل ما أعرف من أسماء الحيوانات والحشرات! ثم انطلقت إلى الشرفة لألقي هذه القصاصات فوق رؤوس اللاعبين! وكعادته أمسك عمرو الوريقات بهدوء، ليضحك ساخرا "واحد اسمه عمر حمار، وصرصار، واحنا مالنا؟" .. ادركت لحظتها الخطأ الإملائي الذي وقعت فيه، واسرعت لانتزع صفحتين أخريين من منتصف الكراسة لأصحح الخطأ، وأعدت الكرة!
التقط الكبير وريقة ،وقال "كتبتها صح المرة دي!" هنا، انفجر عمرو صارخا "مين اللي قال لها ان عمرو فيها واو؟ انا لازم اقطعها!" وانطلق نحو باب العمارة! ادركت لحظتها اني سأنال علقة ساخنة! وانطلقت اجري في حجرات البيت ابحث عن مكان للاختباء قبل وصوله، وما أن دخلت المطبخ حتى وجدت الجميع؛ الجدة والعمات وزوجات الأعمام والمساعدات المنزليات، مشغولات مع طباخ كان يحضر في الأعياد، وتيقنت انه لا منقذ لي من "علقة محتومة"! وجدت أمامي "بلكونة المطبخ، فتحت بابها ناوية ان اختبئ في "عشة الفراخ"! ولكن ما أغلقت باب البلكونة خلفي، حتى فوجئت بخروف ضخم بني اللون ذي قرنين عظيمين ومنظر مهيب، ينظر نحوي نظرات مخيفة! ملأني الرعب وفكرت ان أعود أدراجي من حيث جئت، فإذا بي اسمع صوت عمر متوعدا "هي فين؟"!! وقفت وظهري للباب، يكاد قلبي ان يقفز من بين ضلوعي، وصوت وجيبه يكاد يصل إلى من بداخل المطبخ!!
حينها، انتبهت زوجة العم الكبير الى صراخ عمر، ولا أعرف كيف استطاعت تهدئته، وقالت له "خلاص العبوا بالكورة بتاعتها، وما تلاعبوهاش معاكم، وما تضربهاش، لحسن تقول لجدو وياخد الكورة منكم"!!
أمس، كنا في عزاء عمرو رحمه الله! نسيت اختلافاتنا في فترة الصبا، التي حرصت فيها على ان أكون متفوقة دراسيا بحيث لا يتفوق علي أي من "الصبيان" وأثبت للجميع واولهم والدي ـ الذي كان يفضل ان يكون ابنه الكبير ولدا ـ انني أشطر من كل الصبيان! لكن عمرا كن دائما الأكثر تفوقا!! ونسيت اننا كبرنا واختلفنا فكريا، وانه صار أستاذا في كلية الطب، وتفرقت بنا السبل، وصار لكل منا اسرة ومجال عمل وأفكار تختلف عما لدى الآخر! نسيت كل ذلك، وظل ذهني منذ الأمس يراوح مكانه في فترة الطفولة، وبيت طنطا، الحوش، والسطوح، والخرابة، والترابزين، وأول منشور معارضة أكتبه في حياتي!!
لم اجد مخرجا مما أنا فيه سوى كتابة هذه السطور، كي أستطيع الفكاك بذهني من أسر سنوات بعيدة، نشبت أظافرها في رأسي ووجداني، وأنبه نفسي الى ان أكثر من نصف القرن مر، على احداث لا تريد ان تفارق الذهن لتعود الى حقبة زمنية خلت!! وأدفع عقلي للعودة رغما عنه إلى أيامنا المتعبة الحالية!!.. وأقول لنفسي ان عمرا جاء دوره، بعد "فؤادين"، وسبقنا الثلاثة الى حيث سنذهب جميعا. وصار علي أن أنتبه لدوري في الطابور، واحافظ عليه حتى لا يغافلني احد الصغار ويسرقه!
عل لقاء أخر يعيد بعض براءة ذهبت!
=======

تعليقات