مختارات / عن لويس عوض
لويس عوض
الكاتب / فهد المضحكي - كاتب من البحرين
18-9-2021 موقع الحوار المتمدن
لويس عوض قامة فكرية ليس في مصر وإنما في العالم العربي.. هذا المفكر والمثقف الكبير واحد من رموز النقد البارزين، وهو مترجم أيضًا ومؤلف مسرحي مرموق، تتلمذت على يده أجيال متلاحقة من طلاب العلم. عرف السجون والمعتقلات في الحقبة الناصرية، وعندما فصل من عمله عرضت عليه بعض الجامعات العربية العمل فيها بعقود سخية وبرغم أن هذه العقود كان يمكن أن توفر له الرغد بدلاً من حياة التقشف، وتمكنه من التفرغ لأبحاثه العلمية، فإنه لم يقبل بها كما لم يقبل اللجؤ لأي دولة أوروبية او امريكية، وذلك لأنه كان يرفض رفضًا قاطعًا أن يبتعد عن وطنه. ويذكر الكاتب والباحث المصري صلاح زكي أحمد، منذ زمن بعيد، ومن خلال ما كان يكتبه أعلام الفكر المصري والعربي في الخمسينيات والستينيات، عرف الدكتور لويس عوض الذي كانت دراساته النقدية في الأدب، والثقافة تأتي صباح كل جمعة على صفحات الملحق الأسبوعي لجريدة الأهرام، إلى جانب مقالات رئيس التحرير محمد حسنين هيكل وكوكبة المفكرين الكبار منهم توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وحسين فوزي وعائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) ويوسف إدريس وغيرهم.
كان لويس عوض (1915 - 1990) صاحب رؤية متفردة في طرح قضايا تثير الجدل والاختلاف، لكن قيمتها الحقيقية مستمدة من تلك الحوارات والنقاشات التي تتوالد منها عشرات القضايا الفكرية والثقافية التي كانت مثل موجات الماء المضطرم وحلقاته الدائرية التي سرعان ما تتسع وتتسع بقدرة قوة ذلك الحجر الذي ألقاه لويس عوض في بحيرة الفكر المصري والعربي. كتب عوض عن رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، فأثار معركة متعددة الأبعاد، وكتب عن مقارنة النظام التعليمي بين ما هو قائم في مصر ونظيره في فرنسا، فأثار اهتمامًا وانتباهًا، ونشر بعد ذلك كتابه الخطير «مقدمة في فقه اللغة» ففجر حربًا ضروسًا لم تنتهِ تبعاتها حتى اليوم، رغم مصادرة هذا الكتاب بعد صدوره ببعض ساعات.
لم تأتِ مذكراته التي حملت اسم أوراق العمر على نحو ما اعتاد عليه غالبية أعلام عصره من ناحية التكريس للحياة الشخصية لكاتبها فقط، ولكنها جاءت شاملة، فلم يترك شاردة وواردة من تاريخ التطور الاجتماعي والسياسي والحزبي في مصر خلال سنوات وعية، سنوات الطفولة والصبا حتى عام 1937، إلا وذكرها، طبيعة هذه المذكرات جعلتها تتجاوز المعنى المباشر لكتب السيرة الذاتية، حيث اشتملت على كتابين لا كتاب واحد. يمكن اعتبار الكتاب الأول هو ذلك الجزء المتعلق بحياته العائلية. أما الكتاب الثاني فهو الجزء المتعلق بالحركة الوطنية المصرية خلال تلك السنوات الممتدة بين عام 1914 وحتى عام 1937. يقول في مذكراته: «في كل هذه الاجتهادات اقترن اسمي، خطأ وصوابًا، بالدعوة الصارخة للجديد وبالعداوة الضارية للقديم: تقدمي في الفكر والأدب، تقدمي في السياسة والاقتصاد، تقدمي في القيم الاجتماعية، تقدمي في المفاهيم الدينية: هذا أنا منذ أكثر من نصف قرن حتى كتابة هذه المذكرات». وبعد نصف قرن من تلك السنوات البعيدة، أي بعد دخول لويس عوض جامعة القاهرة، ثارت، كما أسلفنا، في وجهه عاصفة عاتية فور صدور كتابه «مقدمة في فقه اللغة» الذي أشار فيه بعدم قدسية اللغة العربية، فقد وجدوا واحدًا مماثلاً له في الكبريا الشخصي، والثقة في النفس الى حد العنف، يسانده في تلك الحرب الضروس، عندما دخل يوسف إدريس المعركة الى جانبه مناصرًا له، ناشرًا مقالاً في الأهرام كان عنوانه «لويس عوض وكفى». والقارئ لسيرة الرجلين الذاتية، ومعاركهما الأدبية والثقافية يجد تشابها كبيرًا بينها، فاحكامهما واضحة الى حد الصرامة، ومعاركهما عنيفة لا تهدأ بانتهاء غبار وسكوت مدافعها؛ لأن كليهما يتشابهان في «مفتاح الشخصية» وهو«الثقة بالنفس» فضلاً عن الأحكام القاطعة التي لا تقبل ما يسمى بالحلول الوسط. ولكي يواجه عوض هذا المجتمع الكبير كان عليه أن يتعرف على الكبار، حتى يشحن جعبته الثقافية والفكرية، ويبقى سلاحه عامرًا بالذخيرة على الدوام. علينا أن نتصور مدى الإقدام والجرأة اللتين امتلكهما طالب لايزال في عمر الشباب، فيتعرف على من أسماهم «العمالقة الثلاثة» طه حسين وعباس محمود العقاد وسلامه موسى، وهم في الحقيقة لم يكونوا أساتذة لهذا الشاب القادم من الصعيد فقط، بل أساتذة لكل جيله. يقول عوض «بقدر ما وجدت طه حسين مهيبًا، وعباس العقاد شامخًا، وجدت سلامه موسى متواضعًا، كان غزير العلم في غير تكلف، وكان قصير القامة قمحي اللون واسع العينين كانما في عينيه دائما علامة استفهام دائمة وحنو غير مكشوف، ولم تكن هيئته تدل على شيء، كان يمكن أن يكون مدرسًا بالمدارس الحكومية، أو طبيبًا، أو رئيس مصلحة حكومية، ولكن ما أن يبدأ في الكلام حتى يتدفق علمه الموسوعي ويتجلى ذكاؤه الحاد كالنصل القاطع».
وللحديث عن هذا النصل يأتي عوض على حجم التأثير الذي ترك بصماته الثقافية والفكرية وحتى السياسية لهذا المفكر الفذ على عقل الطالب، المفكر الكبير لاحقًا. فإذا كان طه حسين كما يقول الباحث زكي هو من تولاه بالرعاية والتشجيع طوال سنوات دراسته الجامعية، وزكاه للحصول على درجة الدكتوراه من جامعة كامبردج، والعقاد هو النموذج للمفكر الصلب والجبار، فإن سلامه موسى كان الرجل الذي جعل فكر وانتماء هذا الشاب ينحازان إلى الاشتراكية والديمقراطية وحرية الرأي ومحاربة التخلف.
ويعتقد محمود أمين العالم إن المنحى الأخير في حياة لويس عوض الفكرية أثمر العديد من النتاجات في اللغة والتحليل التاريخي للفكر والدراسات والنقد والإبداع والترجمة والتراث والثقافة الشعبية وانطلاقا من ذلك إن جوهر فكر لويس عوض هو «وحدة الثقافة الإنسانية التي تنبثق من الصيغة الإنسانية للثقافة ومن رؤية أعمق، كونية، دقيقة، لوحدة وجود يمتزج الفكر الديني فيه بالمنهج العقلاني تطلعًا الى مستقبل أكثر جمالاً وحرية»، ولا ينكر العالم تأثير سلامه موسى في لويس عوض، لكنه يؤكد على اهمية اختياره الجمع بين الثنائيات (كالمثالية والمادية) كنهر فكري ابتعد عن فكرة اومفهوم التوحيدية، وهي الرؤية التى يراها العالم وراء منجز لويس عوض الثقافي ومواقفه السلوكية، تلك الرؤية التي عليها النزعة الانسانية، لحل مشاكل الوجود بعيدًا عن العنف.
-----------------
تعليقات
إرسال تعليق