مقتطفات - حول سد النهضة
مواجهة التكتيكات الصهيونية للأثيوبيين بمفاوضات سد النهضة
حاتم الجوهري
الحوار المتمدن 15-7-2020
(( .. بداية دعونا نعترف أن الدبلوماسية المصرية أخطأت في حرث الأرض وترتيب تحركها الدولي، كان يجب على الخارجية المصرية إقامة الحجة وحشد التأييد لوجهة النظر المصرية، في كافة المنظمات الإقليمية التي تهتم بمشكلة السد، قبل أن تنتقل بها لمجلس الأمن، وأن يكون عنوان الحملة المصرية – كما أشرت في مقال من عدة أشهر – تجميد الوضع على ما هو عليه لحين تجاوز جائحة كورونا، مع البحث في مصادر القوة الناعمة الموجودة لمصر في القارة السمراء، ومحاولة تنشيطها واستعادتها، لكن لا بكاء على اللبن المسكوب..
خاصة وأن مصر لها عدة ملفات نشطة في نطاق الاتحاد الأفريقي، ولابد أن توجه فيها خطابا سياسيا مقبولا لدى الاتحاد الأفريقي، مثل الملف الليبي، وملف جنوب السودان، وملف البحر الأحمر، والقرن الأفريقي عموما (أرتريا- الصومال – جيبوتي)، وملف طريق الحرير والحضور الصيني، تجاوز الاتحاد الأفريقي دون العمل اكتساب تأييده للموقف المصري كان أكبر الأخطاء الدبلوماسية في إدارة الملف مع أثيوبيا قبل التوجه لمجلس الأمن. ونرجو عدم تكراره مع الملف الليبي رغم عدم الحضور الأفريقي البارز فيه، لكنها ستصبح نقطة محط الاحترام والتقدير إذا وضعت مصر الاتحاد الأفريقي في الصورة في خطة تحركها هناك، خاصة إذا تم ذلك بشكل يتسم بالذكاء والدبلوماسية الواعية.
المناورة الأمريكية في ملف المياة وعلاقته بليبيا وصفقة القرن
كما أنه لابد من الإشارة للتصور الكلي الذي أتحدث عنه منذ فترة عن علاقة صفقة القرن بملف سد النهضة، والدور الأمريكي والصهيوني، الذي يريد أن يمرر هذه في مقابل تلك، وإلا لكان الأولى أن تقدم أمريكا الطلب لمجلس الأمن بوصفها الدولة الراعية للاتفاق الذي انسحبت منه أثيوبيا في بداية هذا العام، وكانت الحجة البلوماسية ستكون قوية وحاضرة حينها، بأنها الدولة التي اتفقت الأطراف الثلاثة عليها، لكن أمريكا تدير ملف سد النهضة بهدف تمرير صفقة القرن وبهدف اختبار القوة وتحجيم القاهرة في المنطقة وإعادتها لمنطق ودور "الدولة حارسة التناقضات"، وفي السياق ذاته تتعامل أمريكا مع الملف الليبي، بإدارة التناقضات فيه بين الفرقاء المحليين واللاعبين الدوليين، بغرض واضح كما قلنا يشمل تحجيم القاهرة وتمرير صفقة القرن ومشروع ضم أراضي الضفة الغربية.
خطورة استعارة المفاوض الأثيوبي
للتكتيكات الصهيونية
ما يعنيني هنا في المقام الأول الإشارة للتكتيكات الصهيونية في الإدارة الإثيوبية للملف، التي وضحت منذ فترة لكنها أخذت تمثلها الأبرز في الفترة الأخيرة التي اعتمدت على سياسة "حافة الهاوية"، والمواجهة المباشرة والاستفزاز لاختبار مكامن القوة وردود الأفعال، وإعادة ترسيم مساحات الحركة السياسية وتغييرها، وإعادة ضبط قواعد الاشتباك الدبلوماسي والشعبي، ومن ضمن هذه التكتيكات الصهيونية التي اتبعها المفاوض الأثيوبي والدبلوماسية الأثيوبية عموما.
تكتيك ترحيل النقاط الخلافية لمراحل لاحقة
(سياسة "التأجيل ثم قضم المتاح")
أبرز التكتيكات التي استعارتها الدبلوماسية الأثيوبية والمفاوض الأثيوبي والتي تمثل ناقوس خطر شديد للدبلوماسية المصرية، كانت التصريحات التي خرجت منهم قرب نهاية جولة المفاوضات الحالية، بترحيل النقاط الخلافية لمرحلة لاحقة! وهذا التكتيك يكاد يحمل علامة تجارية حصرية (فرانشيز) للمفاوض الصهيوني والسياسة الخارجية التفاوضية الصهيونية عموما، التي تعتمد على ما يمكن تسميته "التأجيل ثم قضم المتاح" أي تأجيل النقاط الجوهرية في عملية التفاوض وجولاتها، مع قضم واقتطاع الممكن والمتاح منها عبر الزمن..
لننظر في اتفاقية أوسلو التي وقعت بين الفلسطينيين والإسرائيليين في تسعينيات القرن الماضي، التي اعتمدت على تأجيل النقاط الخلافية التي تشمل حق العودة والتراجع لحدود ما قبل عدوان 1967، والسيطرة على القدس العربية، حتى انتهت أوسلو إلى "صفقة القرن"، عن قضم المتاح بعد تأجيله والعمل على ضم أراضي الضفة رسميا لا الانسحاب منها! والعمل على قضم القدس بأكملها وطرد السيطرة الفلسطينية خارجها لا تمكينهم فيها! وقضم حق العودة تماما لا تفعيله وتقديم حزم مالية بديلة وأوطان متخيلة بديلة!
أثيوبيا بطرحها التكتيك الصهيوني عن ترحيل النقاط الخلافية لمراحل لاحقة، تعلن عن نيتها لا في قضم حقوق مصر واستحقاقاتها في السد النهضة فقط، بل سيكون ذلك مؤشرا على نجاح التكتيك الصهيوني، بما يعني إكمال السياسة نفسها القائمة على قضم المزيد من الحقوق المصرية، في مياه النيل سواء عبر سد النهضة أو غيره، ولا تملك الدبلوماسية المصرية سوى خوض معركة سياسية ودبلوماسية قوية، لترد الرسالة للجانب الأثيوبي بقوة وحزم شديدين، وإلا لأصبحت مصر تمثل مفهوم "البطة العرجاء" (Lame duck) في السياسة الخارجية، أو الأسد العجوز الذي تساقطت أنيابه فأصبحت القرود تتقافز على أكتافه.
تكتيك تسريب أنباء بحجز المياه وإجراءاتها
(سياسة التصعيد والخطوات الاستباقية)
في الوقت نفسه استخدمت الدبلوماسية الأثيوبية تكتيكا صهيونيا آخرا، يأتي أيضا في سياق سياسة "حافة الهاوية" واستعراض القوة والاستفزاز، وهو تسريب أنباء تؤكد على اتخاذ خطوات أحادية تستبق المفاوضات أو تسير بالتوزاي معها، في نوع من الحرب النفسية ضد المفاوض المصري لإحباطه وكسر معنوياته، وهو التكيتك الصهيوني ذاته الذي اتبعته الصهيونية على مدار عقود طويلة حربا وسلما، فبينما مثلا تجري مباحثات وقف إطلاق النار أثناء حرب اكتوبر، تحاول تحريك قواتها لتغيير الوضع على الأرض وإعطاء المفاوض الصهيوني مركز قوة نفسية في مواجهة نظيره المصري، كما أنها مثلا كانت تستبق المباحثات الثنائية مع المفاوضين الفلسطينيين حول ملف ما، بخطوات على أرض الواقع، لتصيب المفاوض الفلسطيني بالعصبية وتخرجه عن طوره.
ذلك هو ما تحاوال أثيوبيا فعله معنا، قامت مصر بالتصعيد الدبلوماسي ردا على إعلان أثيوبيا حجز المياه خلف السد من جانب واحد، وتجري المفاوضات الحالية بهدف الوصول لاتفاق بين الدول الثلاث يضبط عملية حجز المياة خلف السد، لكن كان التكتيك الصهيوني حاضرا بأن خرج رئيس الوزراء الأثيوبي آبي أحمد بعد إحالة مجلس الأمن الملف للاتحاد الأفريقي، ليخرج بعدة تصريحات استباقية! مرة أن المفاوضات لا تعني امتناع أثيوبيا عن حجز المياه، ومرة أخرى يعلن أنه سيحجز المياة دون أن يضر بمصر، ومرة ثالثة تتسرب الأنباء عبر الإعلام المحلي بأن عملية حجز المياة بدأت فعلا! وتؤكد أطراف سودنية الأنباء عبر تصريحها بانخفاض مستوى المياة الواصلة للسودان بما يدل على احتمالية بدء حجز المياة من أثيوبيا من جانب واحد ودون اتفاق.
الأمر يتطلب من الجانب المصري الرد بقوة وهدوء و"ثبات انفعالي"، يمارسه الواثق من قدراته وامتلاكه الحلول البديلة الناعمة بمستوياتها، والخشنة بمستوياتها، حقيقة المعركة الدبلوامسية الحالية تتطلب فريقا مشتركا مدمجا يملك مرونة وحلولا متعددة، للرد على التكتيك الأثيوبي بأي شكل تسمح به حدود الدبلوماسية الناعمة والخشنة (نعم هناك دبلوماسية خشنة)، ولابد أن يكون الفريق المصري على مقدرة وبينة من حلوله وبدائلها للرد على كافة الاحتمالات والمسارات، وإلا كان ما يحدث هو مجرد تحصيل حاصل وتضييع للوقت.
تكتيك مصر كامتداد لعنصرية الرجل الأبيض واستعماريته
(سياسة مغازلة عقدة الضمير الأوربية)
قامت الدبلوماسية الأثيوبية بالترويج عالميا لمصر، وكأنها الامتداد لسياسات استعمار الرجل الأبيض في الأحقاب الماضية، بل استغلت انتفاضة الأمريكان من أصل أفريقي وتواصلت مع اللوبيهات الممثلة لهم هناك، وقدمت الأمر في سياق أقرب لتصوير النزاع وكأنه اضطهاد مصري يدعي تفوقه العرقي والعنصري، وهى التكتيكات نفسها التي استخدمتها الصهيونية للترويج لمشروع احتلال فلسطين، وكانه تحرير ليهود أوربا من اضطهاد النازي في القرن العشرين، ومن ممارسات معاداة السامية بشعارات دينية مسيحية في العصور الوسطى وعصر النهضة، وبالتالي وضعت أوربا في حرج سياسي وارتباك فكري، وصار من يرفض مشروع الصهيونية واحتلال يهود أوربا لفلسطين، شخصا عنصريا ومعاديا للسامية!
وهو ما يتطلب استراتيجية مضادة تقوم على فكرة "ما بعد المسألة الأوربية"، وتجاوز مرحلة الاستعمار وما بعده سويا، والتأكيد على ظهور نماذج إنسانية أكثر عدالة تتجاوز مرحلة الفعل والرد فعل للمركزية الأوربية وتناقضاتها، التي تستخدمها الصهيونية في سياساتها، ويعيد المفاوض الأثيوبي الآن استخدام التكتيكات نفسها، حيث يجب أن ترد الدبلوماسية المصرية بخطاب مضاد يقوم ويؤكد على مركز القوة الناعمة المصرية في نماذجها التحررية الجديدة، التي تجاوزت المسألة الأوربية واستنساخ نماذجها، كما تمثل في ثورات الميادين المصرية التي انتقلت للعالم أجمع، وأن مصر قدمت نموذجا تحرريا للعالم في العصر الاستعماري في فترة عبد الناصر الذي مد كل جسور التعاون لأفريقيا، وأن المواطن المصري المعاصر قدم نموذجا ثوريا تحرريا (2011م) تجاوز شعارات المسألة الأوربية في تمثلها الشرقي الماركسي وفي تمثلها الغربي الرأسمالي، وأن العالم يجب أن يعطي الفرصة لحراك جديد، ولا يعيد إنتاح المسألة الأوربية بتمثلاتها، لتنتصر أوربا لجانب من يلعب على عقدها التاريخية.
تكتيك الهجوم عبر مواقع التواصل الاجتماعي والإعلانات مدفوعة الأجر
(سياسة الصدام الشعبي والتهيئة لتغيير الصورة النمطية)
كما لجئت أثيوبيا لواحد من التكتيكات الصهيونية المشهورة لتوجيه الخطاب غير الرسمي والشعبي، وذلك عن طريق الإعلام الموجه بعيدا عن المفاوضات بلغة الخصم (اللغة العربية)، فأنا شخصيا قد ظهر على صفحتي الشخصية على منصة التواصل الاجتماعي "الفيس بوك"، صفحة رئيس الوزراء الأثيوبي آبي أحمد كإعلان ممول تحمل منشورا يتحدث باستعلاء شديد عن قضية سد النهضة في مواجهة مصر ودبلوماسيتها، وقد حقق المنشور الغرض منه (مثلما يحدث مع الدعاية الصهيونية ذاتها)، إذا علق عليه مئات وربما آلاف المصريون والعرب والسودانيون وكذلك الأثيوبيون، وانتقلت المواجهة إلى الساحة الشعبية، لتغير الصورة النمطية وربما أفق التوقع على المستوى الشعبي غير الرسمي.
وهو التكتيك نفسه الذي تتبعه الصهيونية مع بعض الصفحات الموجهة منهم باللغة العربية، محاولة تغييرصورتها النمطية وتطبيع وجودها، ولو عن طريق شحذ الكراهية أو استفزاز المستوى غير الرسمي، وهو ما نجده في عدة صفحات موجه مثل صفحة "أفيخاي أدرعي".
وكذلك في تكتيك الصفحات المؤسساتية الموجهة باللغة العربية التي اتبعتها الدبلوماسية الأثيوبية المنقولة عن التكتيك الصهيوني ذاته، مثلما حدث مع إحدى المنصات الأثيوبية المؤسساتية المكتوبة باللغة العربية، والتي استخدمت خطابا عدائيا شديد الاستفزاز حول نجاح المفاوض الأثيوبي في مواجهة المفاوض المصري، مستقطبة أيضا عشرات ومئات التعليقات، وهو الأسلوب العدائي نفسه الذي تتعبه مؤسسات الخارجية الصهيونية في العديد من القضايا.
وهو ما يتطلب حضورا مصريا مرنا وفريق عمل على مستوى مهاري، ليقدم خطابا تأسيسيا يوضح موقف مصر ويبادر بصنع محتواها الرسمي/ الشعبي وأقصد الخطاب الرسمي في مواقع التواصل الممكن استخدامه شعبيا، على أن يكون الخطاب معززا بوجهة النظر الموضوعية التي تتجاوز آليات الاستعداء، وتغيير الصورة النمطية من التعاون إلى الصراع كإطار للمفاوضات.
مؤسستي الخارجية والثقافة المصرية في المواجهة
ولا عزاء للتقاعس وكوادر سد الخانة
(ضرورة تغيير السياسات وتغيير الكوادر)
التكتيكات الصهيونية المتبعة من جانب المفاوض الأثيوبي، بالإضافة إلى تغير الساحة الإقليمية بشدة في ظل عدة استحقاقات منها صفقة القرن والملف الليبي وملف المياة بالطبع، تستدعي إعادة النظر في جانبين، أولا هيكل الدبلوماسية المصرية ووزارة الخارجية، وثانيا الخطاب الثقافي المصري ووزارة الثقافة، وزارة الخارجية من ناحية تغيير أسلوب عملها نحو "فرق التفاوض المدمجة"، وأقصد به فرق التفاوض التي تتسم بامتلاك حزمة مهارت مدمجة تملك خبرة في العلاقات الدولية والسياسة العامة وخبرة إعلامية وخبرة ثقافية ومعلوماتية وبحثية واستراتيجية واقتصادية، أي فرق تتكون من "كوادر متفوقة"، تملك خبرة في آليات تغير الخطاب وبدائله وفق تبدل المواقف السريعة، وهذه الأخيرة ستجعلني انطلق لدور وزارة الثقافة ومؤسساتها التي يجب أن تتغير تماما، لتتحول إلى حواضن معرفية أو مراكز بحثية أو "Think Tanks" ، تنتج خطابا ومعرفة يصلح كرديف لرفد السياسية الخارجية المصرية، ووضع السيناريوهات لها، الكوادر العاملة في الخارجية والثقافة يجب أن تتغير طرق اختيارها تماما، لتصبح روافد تصلح لدعم خطاب المفاوض المصري إزاء التحديات الحضارية والوجودية المقبلة، لا مجرد واجهات زجاجية مفرغة من المعني والكوادر الحقيقية.
عن قوة ناعمة لحضور الذات
و قوة ناعمة لتحييد الآخر المركزي
مصر على مستوى السياسات العامة والاستراتيجيات الكبرى، في حاجة لفكرتين مركزيتين في سياستها الخارجية، وهذه نقطة شديدة الأهمية والمفصلية دونهما قد يكون الجهد المبذول والعدم أقرب لأن يتساويا وانتظار الاضمحلال الحضاري والتراجع على كافة المستويات.
الفكرة الأولى يجب تخص الذات وتسوقها للعالم (وتعمل كمصدر مركزي للقوة الناعمة المصرية الذاتية)..
الفكرة الثانية تخص الآخر بما يُمَكن من تجاوز ما يسوقه في مواجهتنا (وتعمل كقوة ناعمة لاختراق المركزية الناعمة التاريخية للآخر)..
لكن ذلك في حاجة لمقال آخر، وسردية كبرى أخرى للذات المصرية/ العربية (بعد أن صدع رؤوسنا البعض بخطابه الثقافي الآفل الذي يبرر للاضمحلال الحضاري، عن نهاية السرديات الكبرى وحتمية قبول مشروع الآخر الأعلى وسرديته المطلقة والمقدسة، وهو ما أوصلنا لهذه المحطة).
مقال يتحضر في الذهن منذ فترة، وربما اقترب موعده وأوشك. )) .
تعليقات
إرسال تعليق