فرعونيات - قانون الثواب والعقاب
فى المقال اللى فات تطرقت لمفهوم "مسخينيت" (الكارما) أي قانون السبب و النتيجة عند أجدادنا و اللى هو معروف في الأديان الشرقية بمعنى الثواب و العقاب ، و عرفته مصر القديمة تحت مسمى "مسخينيت" (ربة الأقدار) ... بينما عرفتها الفلسفة الهندية تحت مسمى "كارما" ، و في أخر المقال سالت سؤال: كيف يتم حساب هذه النتيجة الاجمالية لأفعال الانسان؟
للرجوع للمقال السابق كاملاً للى مش متابعنا و اللى متابعا برضه فى الرابط التالى لأن المقال ده مرتبط بالمقال السابق
https://www.facebook.com/ groups/116377292291682/ permalink/400437720552303/
السؤال السابق سؤال عام و كبير ممكن نقسمه لعدة أسئلة فرعيه و نجاوب عليهم فى المقال واحده واحده
- ازاى بيتم حساب أفعال الإنسان في قاعة المحاكمة؟
- وإذا كانت الأفعال توزن فما ذنب القلب المسكين بتقييم الأفعال؟
- وهل يمكن للإنسان أن يكون إيجابى متناغم مع الماعت لتحقيق هدفه؟
- واذا كان ذلك ممكنا فكيف؟
- وما المقصود بعملية تطهير القلب؟
- وأخيرا ما علاقة رياضة اليوجا بكل ما سبق؟
حاسس أن فيه ناس مخضوضه و مستصعبه الموضوع من كتر الأسئلة 😅😅
نبدأ نتابع واحده واحده
من المعروف أن أفعالنا فى الماضى تؤثر بالإيجاب أو السلب على حاضرنا و مستقبلنا لأن الأفعال و التصرفات التى نقوم بيها فى حياتنا ليست شيئ منفصل عنا و انما هى جزء من كياننا و تعبير عن ما يدور بداخلنا من مشاعر و أفكار و تترك انطباع فى الاوعي يشبه الى حد كبير تأثير البقعة على الثوب الأبيض بحيث تظل هذه البقعة (التصرف أو الفعل) ملتصق بالروح و ينتقل معها من عالم الى عالم آخر (و هى عبارة عن أفعالنا التى ستلازمنا وسنحاسب عليها يوما ما)
و بعد موت الجسد المادى تنتقل تلك الانطباعات مع الروح من العالم المادى الى العالم النجمى و تشكل الانطباعات المخزونة فى اللاوعى البذرة التى تنبثق منها أفكار و رغبات تضغط على الروح و تطالب باشباعها (و هنا ناخد بالنا يجب أن نفرق بين الانطباعات و بين الذكريات) فالانطباعات لا تعنى الذكريات أو تفاصيل أحداث معينة وقعت فى الماضى
نقول مثال نبسط بيه الكلام اللى فات بعض الناس لديهم مخاوف منذ الطفولة من شئ معين بدون أن يتذكروا على وجه التحديد ما هو الموقف الذى أدى لوجود الخوف من ذلك الشئ تحديدا و هى ما يطلق عليها (الفوبيا) (مثل الفوبيا من الأماكن الضيقة أو المرتفعة أو الخوف من الكلاب ... و غيرها) فى تلك الحالة لا يتذكر الانسان تفاصيل الأحداث السابقة لأن اللاوعى لا يقوم بتخزين تفاصيل الموقف و انما ما يتم تخزينه هو المشاعر التى ارتبطت بالموقف فاذا كانت المشاعر المرتبطة بالموقف هى الخوف فان اللاوعى يقوم بتخزين شعور الخوف و لا يخزن السبب فى وجود هذا الخوف - بعد الموت يترك الانسان جسده المادى على الأرض و يذهب الى العالم النجمى بجسده النجمى و هناك يقف فى قاعة المحاكمة ليتم تقييم أفعاله ، و لكن فى الحقيقة ما يتم تقييمه ليس الأفعال نفسها و انما الانطباعات و الأفكار التى تم تخزينها فى اللاوعى الذى رمز له المصرى القديم (بالقلب) لذلك فالذى يوزن ليست الأفعال و انما القلب الذى تأثر بتلك الأفعال و حمل المشاعر و الانطباعات الناتجة عن كل التجارب التى مر بها فى الحياة الدنيا ، و بعد وزن القلب يتم تحديد مصير الروح اذا كانت ستمضى الى عالم السموات أم ستعود مرة أخرى الى دائرة اعادة التجسد.
فى أحد نصوص الحكمة المصرية القديمة و المعروف باسم حكمة "مرى-كا-رع" جاء فيها: "اعلم يا بنى أن يوم وزن القلب (يوم الحساب) يوم عصيب على الانسان الشقى .... لا يغرك طول الأجل .... فمهما طالت حياتك على الأرض ستجد أحداثها تمر أمام عينيك و كأنها ساعة زمن واحدة فقط بمجرد أن تتركها و تذهب الى العالم الآخر .... فالانسان لا يفنى بعد الموت و انما يبقى و تتراكم أفعاله بجواره .... ان الحياة فى العالم الآخر هى الحياة الأبدية .... فمن أتى بقلب سليم طاهر لم يرتكب خطيئة فسيحيا فى العالم الآخر ككائن الهى ، و سيسير فى الكون حرا طليقا متحكما فى أقداره"
خلال رحلة الانسان فى حياته الدنيا تتراكم الانطباعات التى تنتج عن مختلف المواقف و التجارب التى يمر بها و يتم تخزينها فى اللاوعى و تنتقل معه بعد الموت من العالم المادى الى العالم النجمى ، كان الإعتقاد فى مصر القديمة إنه اذا عاش الانسان حياة الفضيلة و كانت أفعاله فى تناغم مع الماعت (النظام الكونى) فانه يخرج من حياته الدنيا بانطباعات ايجابية تجعله فى سلام و رضا و تقوده لمعرفة الذات الالهية.... أما اذا عاش حياة فوضوية و كانت أفعاله نابعة من الأنا و تصرفاته تعبير عن مشاعر الجشع و الكراهية و الغضب و الخوف فانه يخرج من حياته الدنيا بانطباعات سلبية تجعله فى قلق و توتر و تحرمه من الخلود مع العالم الآخر بل و تقوده للتجسد مرة اخرى فى جسد مادى بحثا عن ذاته الحقيقية التى لا يعرف كيف يراها (و هنا نكون جاوبنا على أول سؤالين اللى هما ازاى بيتم حساب أفعال الإنسان في قاعة المحاكمة؟ و إذا كانت الأفعال توزن فما ذنب القلب المسكين بتقييم الأفعال؟)
فى العالم المادى وسط كل ما يمزق وعي الإنسان من مشاعر و أفكار غير نقية هل يمكن للانسان أن يقتلع الأفكار و العادات السلبية و يغرس مكانها أفكار جديدة وعادات ايجابية؟ و اذا كان ذلك ممكنا فكيف؟ (و هنا نكون دخلنا على السؤال التالت و الرابع)
نعم يمكن للانسان تحقيق ذلك عن طريق تدريب النفس على الانضباط من خلال التعاليم و الحكم الروحانية ، أو عن طريق تدريبات رياضة اليوجا
عندما نقرأ التعاليم الروحانية و نعيها بالقلب و نتأملها بالفكر و نغير نظام حياتنا للأحسن عند ذلك يمر الوعي بعملية تحول و تغيير جذرية تؤثر فى طريقة التفكير و فى ردود الأفعال و فى تصرفاتنا (هذا التحول فى الوعى هو ما كان يطلق عليه فى مصر القديمة مصطلح "تطهير القلب") و هو الموضوع الرئيسى الذى يدور حوله كتاب "الخروج الى النهار"
يدل مصطلح تطهير القلب على اقتلاع الأفكار و العادات السلبية القديمة التى كانت تثقل القلب بالمشاعر ، و استبدال العادات السلبية بوعى جديد و عادات ايجابيه يعنى ذلك إدراك وجود الذات الالهية فى الأعماق الداخلية للنفس و ينتج عن ذلك خروج كل الأفكار و الأفعال النابعة منا معبرة عن تلك الذات النقية. و عند ذلك يقال ان هذا الشخص (يحيا فى الماعت) أى أن كل أفكاره و أفعاله تخرج منسجمة مع النظام الكونى لأن الذات الالهية حاضرة فى قلبه فى كل لحظة و تلك هى (يوجا الماعت) أو (يوجا الفعل) فكل الممارسات و التدريبات هى بمثاءة يوجا (و التى سنتحدث عنها باستفاضة في الأسطر القادمة) - (و هنا نكون جاوبنا على السؤال الخامس اللى بيقول "ما المقصود بعملية تطهير القلب"؟)
و ندخل على السؤال السادس و الأخير (ما علاقة رياضة اليوجا بكل ما سبق؟)
تعتبر فلسفة الماعت من أهم التعاليم الروحانية التى تتضمن نشأة الكون و علاقة الانسان بالكون و الاله و أقدار الانسان و علاقتها بأفعاله النابعة من ارادته الحرة فقد جاء فى ميثولوجيا نشأة الكون المصرية أن الروح الأسمى "نبر- تشر" (و الذي يعني الألوهية التى تحيط بكل شئ و تحتويه أو الروح الأسمى الذى يتخلل كل شئ و الذى هو جوهر كل الأشياء) أوجد الخلق بالماعت (النظام / الاتزان / الحق / العدل) أى أن تدفق الطاقة من عالم الروح الى العالم المادى يتم حسب نظام متزن لا يختل و هو الذى يضمن للكون الاستمرار.
فالماعت (النظام الكونى) هى التى تنظم حركة الكواكب و النجوم فى الأفلاك ، كل شئ فى الفلك يتحرك حسب ايقاع منتظم ، كل شئ فى الكون يتحرك حسب قانون يحكمه... و العشب ينمو حسب قوانين محددة لا تختل و الشمس تشرق حسب قانون كونى صارم لا يختل ، و خلايا الانسان أيضا تنمو بقانون و نظام .. كل شئ في الكون يسير حسب قوانين غاية فى الدقة و التناغم و الانسجام و التوازن بين الأضداد.... النور/الظلمة..... الليل/النهار..... البرد/الحر.... الذكر/الأنثى ، و هو ما يطلق عليه بشكل عام (النظام الكونى)
معظم الناس أفعالهم عبارة عن ردود أفعال لمختلف القوى و الغرائز التى تعصف بهم طوال الوقت كالجوع و الغضب و الخوف و الكراهية و الكبرياء و الجشع وكثيرا ما نفقد السيطرة على هذه المشاعر و الغرائز لادراكنا جوهرنا الحقيقي المادى ، و لكن لو تأملنا بداخلنا بعمق و بحثنا بعين البصيره عن مصدر هذه الأفكار و المشاعر سنكتشف أنها نابعة من الأنا المادية الزائفة و ليس من الذات الحقيقية التى هى فى طبيعتها الهية نقية (فكل انسان منا بداخه طبيعة إلهية تحمل الخير و التوازن و التناغم مع مكونات الكون بجميع اختلافها ، و طبيعة غير إلهية تحمل الكراهية و الغضب و الكبرياء و الجشع و كلها نابعة من الأنا المادية الزائفة) فعلى سبيل المثال تعلمنا يوجا الحكمة أن للانسان ارادة حرة و أن لديه القدرة على اختيار أفكاره و أفعاله و تصرفاته و تحويلها من مجرد ردود أفعال لقوى أو غرائز أو مشاعر هائجة الى أفكار و أفعال تقوده نحو معرفة الذات الالهية و الاتصال بالروح الأسمى أى إنها تنشط الطبيعة الإلهية النقية الكامنة فينا و تجعلنا خيرين و متوازنين و متناغمين مع مكونات الكون بجميع اختلافاته - ففى كل المواقف التى تمر بنا فى حياتنا يمكننا أن تختار أن نتصرف بانسجام و تناغم مع الماعت (النظام الكونى) أو تكون ضد الماعت ، لذلك التدريب على يوجا الحكمة تعلمنا كيف نرتقى فوق طقوس العبادة الشكلية التى تعنى بالمظهر الخارجى فقط لتكون شاهده على وعيك و مراقبا له طوال الوقت الى أن تنجح فى تحويله من الوعى المادى الضيق الى الوعى الالهى الذى يرى كل شئ بعين الاله.
هنا ياتى دور اليوجا بشكل عام و التى يمكن تعريفها بمجموعة من الطقوس الروحية التى تشير بطريقة فنية أو ضوابط محددة إلى التصوف و الزهد و التأمل و لا تتبع ديانة محددة أو تجعلك تتخلى عن عقيدة ما ... ففي الأدبيات البوذية يستخدم مصطلح "التأمل" بدلا من مصطلح "يوجا" إلا أن الغرب و العرب تعودوا على مصطلح "يوجا" بحيث أصبح من الصعب إدخال مصطلح آخر بنفس المعنى ، و لها ناحيتين الأولى ناحية فكرية: تتمثل بالإيمان بأن التحرر الروحي يحصل حين تتحرر النفس من ارتباطها بالمادة التي تنتج عن الوهم ، والناحية الثانية ناحية عملية: متمثلة في التمارين البدنية و تمارين التحكم بالتنفس و ممارسات أخرى مثل الفنون الجميلة و الفنون القتالية
فى حياتنا اليومية ينظر "العامة" (الذين لم يصلوا بعد الى المعرفة الروحانية) الى الطبيعة على أنها مجموعة من القوى الكونية التى لا يمكن التنبؤ بها أو السيطرة عليها.... أما القليلون (الذين وصلوا الى المعرفة الروحانية) أو الإنسان اليوجى يعرف أن ما يبدو فى الطبيعة و كأنه "فوضى" هو فى الحقيقة جزء من الخطة الكونية الكبرى التى وضعها الروح الأسمى و التى يتم تنفيذها على مراحل حسب قانون السبب و النتيجة (الكارما) ، فكل سبب له نتيجة و كل نتيجة وقعت لسبب حدث قبلها و أفضى اليها...عندما يصل عقل الإنسان اليوجى الى هذا المستوى من الوعى عندها سيعرف أن خلف كل ما يبدو على السطح من مظاهر الفوضى و العشوائية يقبع هناك نظام محكم و قانون كونى يحكم كل الموجودات و لا شئ يخرج عن هذا القانون.... قانون السبب و النتيجة (الكارما)
و هنا يجب أن نفرق بين أهداف الماعت و مفهوم الماعت
تهدف أحكام الماعت المتعلقة بالقيم الأخلاقية الى حفظ النظام داخل المجتمع الانسانى بين عامة الناس الذين لم يصلوا بعد الى الوعى الروحى الذى يمكنهم من اكتشاف الذات الالهية بداخلهم ، أما مفهوم الماعت المتعلق بنشأة الكون و تطوره يعطينا فكرة عن النظام الكونى و الطرق الروحانية التى باتباعها يحيا الانسان فى تناغم مع النظام الكونى
خرج الكون للوجود عندما أقام الروح الأسمى الماعت بدلا من الاسفت أى أحل النظام مكان الفوضى ... خلق الكون بنظام و كل شئ فيه يتحرك بنظام و يدرك الانسان فى أعماقه ذلك النظام الكونى و يعيه بالحدس و عندما يضبط الانسان احساسه الداخلى بالنظام مع النظام الكونى كله و يجعل حياته و أفعاله و تصرفاته فى تناغم و انسجام مع ذلك النظام الكونى عند ذلك سيشعر بوحدة و ألفه بينه و بين كل شئ فى الكون... و اذا رأى الانسان النظام الكونى فى كل ما حوله عندها سيتحول من اتباع القيم الأخلاقية بطريقة عمياء جوفاء الى رؤية جوهر الفضيلة و ستصبح كل أفعاله تعبر تلقائيا عن تلك الفضيلة النابعة من معرفته بذاته الحقيقية/الالهية.
اذا فهمنا منظومة الخلق و عرفنا كيف نشأ الكون بالنظام و عرفنا كيف نضبط أفعالنا و تصرفاتنا تتناغم مع ذلك النظام الكونى سنصل الى حالة من السكينة و السلام المطلق و عندها سيصفو الذهن و يصبح مثل مرآة مصقولة خالية من أية شوائب تنعكس عليها الصورة الحقيقية للذات الانسانية التى لا تنفصل عن الذات الالهية.
فكلمة "ماعت" باللغة المصرية القديمة تعنى "الاستقامة / ما هو مستقيم" (بالتعبير المصرى الشعبى تعنى "دوغرى") لذلك تكتب كلمة "ماعت" بالهيروغليفية باستخدام رمزين لهما علاقة وطيدة بمعنى الكلمة و هما الريشة (رمز الاتزان) و المنصة (رمز عرش الاله) ، كانت المنصة أو (التل الأزلى) أحد أهم رموز علم نشأة الكون فى مصر القديمة فقصة الخلق تحكى عن خروج الإله (الروح الأسمى) من مياه الأزل "نون" و بعد خروجه مباشرة لم يكن هناك عرش للروح الأسمى كى يقف فوقه لأن "نون" ليس لها سطح فأخرج الإله التل الأزلى من مياه الأزل و هو يشبه المنصة و أصبح هو العرش الذى استوى فوقه
للرجوع للمقال السابق كاملاً للى مش متابعنا و اللى متابعا برضه فى الرابط التالى لأن المقال ده مرتبط بالمقال السابق
https://www.facebook.com/
السؤال السابق سؤال عام و كبير ممكن نقسمه لعدة أسئلة فرعيه و نجاوب عليهم فى المقال واحده واحده
- ازاى بيتم حساب أفعال الإنسان في قاعة المحاكمة؟
- وإذا كانت الأفعال توزن فما ذنب القلب المسكين بتقييم الأفعال؟
- وهل يمكن للإنسان أن يكون إيجابى متناغم مع الماعت لتحقيق هدفه؟
- واذا كان ذلك ممكنا فكيف؟
- وما المقصود بعملية تطهير القلب؟
- وأخيرا ما علاقة رياضة اليوجا بكل ما سبق؟
حاسس أن فيه ناس مخضوضه و مستصعبه الموضوع من كتر الأسئلة 😅😅
نبدأ نتابع واحده واحده
من المعروف أن أفعالنا فى الماضى تؤثر بالإيجاب أو السلب على حاضرنا و مستقبلنا لأن الأفعال و التصرفات التى نقوم بيها فى حياتنا ليست شيئ منفصل عنا و انما هى جزء من كياننا و تعبير عن ما يدور بداخلنا من مشاعر و أفكار و تترك انطباع فى الاوعي يشبه الى حد كبير تأثير البقعة على الثوب الأبيض بحيث تظل هذه البقعة (التصرف أو الفعل) ملتصق بالروح و ينتقل معها من عالم الى عالم آخر (و هى عبارة عن أفعالنا التى ستلازمنا وسنحاسب عليها يوما ما)
و بعد موت الجسد المادى تنتقل تلك الانطباعات مع الروح من العالم المادى الى العالم النجمى و تشكل الانطباعات المخزونة فى اللاوعى البذرة التى تنبثق منها أفكار و رغبات تضغط على الروح و تطالب باشباعها (و هنا ناخد بالنا يجب أن نفرق بين الانطباعات و بين الذكريات) فالانطباعات لا تعنى الذكريات أو تفاصيل أحداث معينة وقعت فى الماضى
نقول مثال نبسط بيه الكلام اللى فات بعض الناس لديهم مخاوف منذ الطفولة من شئ معين بدون أن يتذكروا على وجه التحديد ما هو الموقف الذى أدى لوجود الخوف من ذلك الشئ تحديدا و هى ما يطلق عليها (الفوبيا) (مثل الفوبيا من الأماكن الضيقة أو المرتفعة أو الخوف من الكلاب ... و غيرها) فى تلك الحالة لا يتذكر الانسان تفاصيل الأحداث السابقة لأن اللاوعى لا يقوم بتخزين تفاصيل الموقف و انما ما يتم تخزينه هو المشاعر التى ارتبطت بالموقف فاذا كانت المشاعر المرتبطة بالموقف هى الخوف فان اللاوعى يقوم بتخزين شعور الخوف و لا يخزن السبب فى وجود هذا الخوف - بعد الموت يترك الانسان جسده المادى على الأرض و يذهب الى العالم النجمى بجسده النجمى و هناك يقف فى قاعة المحاكمة ليتم تقييم أفعاله ، و لكن فى الحقيقة ما يتم تقييمه ليس الأفعال نفسها و انما الانطباعات و الأفكار التى تم تخزينها فى اللاوعى الذى رمز له المصرى القديم (بالقلب) لذلك فالذى يوزن ليست الأفعال و انما القلب الذى تأثر بتلك الأفعال و حمل المشاعر و الانطباعات الناتجة عن كل التجارب التى مر بها فى الحياة الدنيا ، و بعد وزن القلب يتم تحديد مصير الروح اذا كانت ستمضى الى عالم السموات أم ستعود مرة أخرى الى دائرة اعادة التجسد.
فى أحد نصوص الحكمة المصرية القديمة و المعروف باسم حكمة "مرى-كا-رع" جاء فيها: "اعلم يا بنى أن يوم وزن القلب (يوم الحساب) يوم عصيب على الانسان الشقى .... لا يغرك طول الأجل .... فمهما طالت حياتك على الأرض ستجد أحداثها تمر أمام عينيك و كأنها ساعة زمن واحدة فقط بمجرد أن تتركها و تذهب الى العالم الآخر .... فالانسان لا يفنى بعد الموت و انما يبقى و تتراكم أفعاله بجواره .... ان الحياة فى العالم الآخر هى الحياة الأبدية .... فمن أتى بقلب سليم طاهر لم يرتكب خطيئة فسيحيا فى العالم الآخر ككائن الهى ، و سيسير فى الكون حرا طليقا متحكما فى أقداره"
خلال رحلة الانسان فى حياته الدنيا تتراكم الانطباعات التى تنتج عن مختلف المواقف و التجارب التى يمر بها و يتم تخزينها فى اللاوعى و تنتقل معه بعد الموت من العالم المادى الى العالم النجمى ، كان الإعتقاد فى مصر القديمة إنه اذا عاش الانسان حياة الفضيلة و كانت أفعاله فى تناغم مع الماعت (النظام الكونى) فانه يخرج من حياته الدنيا بانطباعات ايجابية تجعله فى سلام و رضا و تقوده لمعرفة الذات الالهية.... أما اذا عاش حياة فوضوية و كانت أفعاله نابعة من الأنا و تصرفاته تعبير عن مشاعر الجشع و الكراهية و الغضب و الخوف فانه يخرج من حياته الدنيا بانطباعات سلبية تجعله فى قلق و توتر و تحرمه من الخلود مع العالم الآخر بل و تقوده للتجسد مرة اخرى فى جسد مادى بحثا عن ذاته الحقيقية التى لا يعرف كيف يراها (و هنا نكون جاوبنا على أول سؤالين اللى هما ازاى بيتم حساب أفعال الإنسان في قاعة المحاكمة؟ و إذا كانت الأفعال توزن فما ذنب القلب المسكين بتقييم الأفعال؟)
فى العالم المادى وسط كل ما يمزق وعي الإنسان من مشاعر و أفكار غير نقية هل يمكن للانسان أن يقتلع الأفكار و العادات السلبية و يغرس مكانها أفكار جديدة وعادات ايجابية؟ و اذا كان ذلك ممكنا فكيف؟ (و هنا نكون دخلنا على السؤال التالت و الرابع)
نعم يمكن للانسان تحقيق ذلك عن طريق تدريب النفس على الانضباط من خلال التعاليم و الحكم الروحانية ، أو عن طريق تدريبات رياضة اليوجا
عندما نقرأ التعاليم الروحانية و نعيها بالقلب و نتأملها بالفكر و نغير نظام حياتنا للأحسن عند ذلك يمر الوعي بعملية تحول و تغيير جذرية تؤثر فى طريقة التفكير و فى ردود الأفعال و فى تصرفاتنا (هذا التحول فى الوعى هو ما كان يطلق عليه فى مصر القديمة مصطلح "تطهير القلب") و هو الموضوع الرئيسى الذى يدور حوله كتاب "الخروج الى النهار"
يدل مصطلح تطهير القلب على اقتلاع الأفكار و العادات السلبية القديمة التى كانت تثقل القلب بالمشاعر ، و استبدال العادات السلبية بوعى جديد و عادات ايجابيه يعنى ذلك إدراك وجود الذات الالهية فى الأعماق الداخلية للنفس و ينتج عن ذلك خروج كل الأفكار و الأفعال النابعة منا معبرة عن تلك الذات النقية. و عند ذلك يقال ان هذا الشخص (يحيا فى الماعت) أى أن كل أفكاره و أفعاله تخرج منسجمة مع النظام الكونى لأن الذات الالهية حاضرة فى قلبه فى كل لحظة و تلك هى (يوجا الماعت) أو (يوجا الفعل) فكل الممارسات و التدريبات هى بمثاءة يوجا (و التى سنتحدث عنها باستفاضة في الأسطر القادمة) - (و هنا نكون جاوبنا على السؤال الخامس اللى بيقول "ما المقصود بعملية تطهير القلب"؟)
و ندخل على السؤال السادس و الأخير (ما علاقة رياضة اليوجا بكل ما سبق؟)
تعتبر فلسفة الماعت من أهم التعاليم الروحانية التى تتضمن نشأة الكون و علاقة الانسان بالكون و الاله و أقدار الانسان و علاقتها بأفعاله النابعة من ارادته الحرة فقد جاء فى ميثولوجيا نشأة الكون المصرية أن الروح الأسمى "نبر- تشر" (و الذي يعني الألوهية التى تحيط بكل شئ و تحتويه أو الروح الأسمى الذى يتخلل كل شئ و الذى هو جوهر كل الأشياء) أوجد الخلق بالماعت (النظام / الاتزان / الحق / العدل) أى أن تدفق الطاقة من عالم الروح الى العالم المادى يتم حسب نظام متزن لا يختل و هو الذى يضمن للكون الاستمرار.
فالماعت (النظام الكونى) هى التى تنظم حركة الكواكب و النجوم فى الأفلاك ، كل شئ فى الفلك يتحرك حسب ايقاع منتظم ، كل شئ فى الكون يتحرك حسب قانون يحكمه... و العشب ينمو حسب قوانين محددة لا تختل و الشمس تشرق حسب قانون كونى صارم لا يختل ، و خلايا الانسان أيضا تنمو بقانون و نظام .. كل شئ في الكون يسير حسب قوانين غاية فى الدقة و التناغم و الانسجام و التوازن بين الأضداد.... النور/الظلمة..... الليل/النهار..... البرد/الحر.... الذكر/الأنثى ، و هو ما يطلق عليه بشكل عام (النظام الكونى)
معظم الناس أفعالهم عبارة عن ردود أفعال لمختلف القوى و الغرائز التى تعصف بهم طوال الوقت كالجوع و الغضب و الخوف و الكراهية و الكبرياء و الجشع وكثيرا ما نفقد السيطرة على هذه المشاعر و الغرائز لادراكنا جوهرنا الحقيقي المادى ، و لكن لو تأملنا بداخلنا بعمق و بحثنا بعين البصيره عن مصدر هذه الأفكار و المشاعر سنكتشف أنها نابعة من الأنا المادية الزائفة و ليس من الذات الحقيقية التى هى فى طبيعتها الهية نقية (فكل انسان منا بداخه طبيعة إلهية تحمل الخير و التوازن و التناغم مع مكونات الكون بجميع اختلافها ، و طبيعة غير إلهية تحمل الكراهية و الغضب و الكبرياء و الجشع و كلها نابعة من الأنا المادية الزائفة) فعلى سبيل المثال تعلمنا يوجا الحكمة أن للانسان ارادة حرة و أن لديه القدرة على اختيار أفكاره و أفعاله و تصرفاته و تحويلها من مجرد ردود أفعال لقوى أو غرائز أو مشاعر هائجة الى أفكار و أفعال تقوده نحو معرفة الذات الالهية و الاتصال بالروح الأسمى أى إنها تنشط الطبيعة الإلهية النقية الكامنة فينا و تجعلنا خيرين و متوازنين و متناغمين مع مكونات الكون بجميع اختلافاته - ففى كل المواقف التى تمر بنا فى حياتنا يمكننا أن تختار أن نتصرف بانسجام و تناغم مع الماعت (النظام الكونى) أو تكون ضد الماعت ، لذلك التدريب على يوجا الحكمة تعلمنا كيف نرتقى فوق طقوس العبادة الشكلية التى تعنى بالمظهر الخارجى فقط لتكون شاهده على وعيك و مراقبا له طوال الوقت الى أن تنجح فى تحويله من الوعى المادى الضيق الى الوعى الالهى الذى يرى كل شئ بعين الاله.
هنا ياتى دور اليوجا بشكل عام و التى يمكن تعريفها بمجموعة من الطقوس الروحية التى تشير بطريقة فنية أو ضوابط محددة إلى التصوف و الزهد و التأمل و لا تتبع ديانة محددة أو تجعلك تتخلى عن عقيدة ما ... ففي الأدبيات البوذية يستخدم مصطلح "التأمل" بدلا من مصطلح "يوجا" إلا أن الغرب و العرب تعودوا على مصطلح "يوجا" بحيث أصبح من الصعب إدخال مصطلح آخر بنفس المعنى ، و لها ناحيتين الأولى ناحية فكرية: تتمثل بالإيمان بأن التحرر الروحي يحصل حين تتحرر النفس من ارتباطها بالمادة التي تنتج عن الوهم ، والناحية الثانية ناحية عملية: متمثلة في التمارين البدنية و تمارين التحكم بالتنفس و ممارسات أخرى مثل الفنون الجميلة و الفنون القتالية
فى حياتنا اليومية ينظر "العامة" (الذين لم يصلوا بعد الى المعرفة الروحانية) الى الطبيعة على أنها مجموعة من القوى الكونية التى لا يمكن التنبؤ بها أو السيطرة عليها.... أما القليلون (الذين وصلوا الى المعرفة الروحانية) أو الإنسان اليوجى يعرف أن ما يبدو فى الطبيعة و كأنه "فوضى" هو فى الحقيقة جزء من الخطة الكونية الكبرى التى وضعها الروح الأسمى و التى يتم تنفيذها على مراحل حسب قانون السبب و النتيجة (الكارما) ، فكل سبب له نتيجة و كل نتيجة وقعت لسبب حدث قبلها و أفضى اليها...عندما يصل عقل الإنسان اليوجى الى هذا المستوى من الوعى عندها سيعرف أن خلف كل ما يبدو على السطح من مظاهر الفوضى و العشوائية يقبع هناك نظام محكم و قانون كونى يحكم كل الموجودات و لا شئ يخرج عن هذا القانون.... قانون السبب و النتيجة (الكارما)
و هنا يجب أن نفرق بين أهداف الماعت و مفهوم الماعت
تهدف أحكام الماعت المتعلقة بالقيم الأخلاقية الى حفظ النظام داخل المجتمع الانسانى بين عامة الناس الذين لم يصلوا بعد الى الوعى الروحى الذى يمكنهم من اكتشاف الذات الالهية بداخلهم ، أما مفهوم الماعت المتعلق بنشأة الكون و تطوره يعطينا فكرة عن النظام الكونى و الطرق الروحانية التى باتباعها يحيا الانسان فى تناغم مع النظام الكونى
خرج الكون للوجود عندما أقام الروح الأسمى الماعت بدلا من الاسفت أى أحل النظام مكان الفوضى ... خلق الكون بنظام و كل شئ فيه يتحرك بنظام و يدرك الانسان فى أعماقه ذلك النظام الكونى و يعيه بالحدس و عندما يضبط الانسان احساسه الداخلى بالنظام مع النظام الكونى كله و يجعل حياته و أفعاله و تصرفاته فى تناغم و انسجام مع ذلك النظام الكونى عند ذلك سيشعر بوحدة و ألفه بينه و بين كل شئ فى الكون... و اذا رأى الانسان النظام الكونى فى كل ما حوله عندها سيتحول من اتباع القيم الأخلاقية بطريقة عمياء جوفاء الى رؤية جوهر الفضيلة و ستصبح كل أفعاله تعبر تلقائيا عن تلك الفضيلة النابعة من معرفته بذاته الحقيقية/الالهية.
اذا فهمنا منظومة الخلق و عرفنا كيف نشأ الكون بالنظام و عرفنا كيف نضبط أفعالنا و تصرفاتنا تتناغم مع ذلك النظام الكونى سنصل الى حالة من السكينة و السلام المطلق و عندها سيصفو الذهن و يصبح مثل مرآة مصقولة خالية من أية شوائب تنعكس عليها الصورة الحقيقية للذات الانسانية التى لا تنفصل عن الذات الالهية.
فكلمة "ماعت" باللغة المصرية القديمة تعنى "الاستقامة / ما هو مستقيم" (بالتعبير المصرى الشعبى تعنى "دوغرى") لذلك تكتب كلمة "ماعت" بالهيروغليفية باستخدام رمزين لهما علاقة وطيدة بمعنى الكلمة و هما الريشة (رمز الاتزان) و المنصة (رمز عرش الاله) ، كانت المنصة أو (التل الأزلى) أحد أهم رموز علم نشأة الكون فى مصر القديمة فقصة الخلق تحكى عن خروج الإله (الروح الأسمى) من مياه الأزل "نون" و بعد خروجه مباشرة لم يكن هناك عرش للروح الأسمى كى يقف فوقه لأن "نون" ليس لها سطح فأخرج الإله التل الأزلى من مياه الأزل و هو يشبه المنصة و أصبح هو العرش الذى استوى فوقه
======
تعليقات
إرسال تعليق