ظاهرة المجون في العصر العباسي


الجذور الاقتصادية والاجتماعية لظاهرة المجون في العصر العباسي

إعداد : صلاح الدين محسن
27-11-2022

من موقع مجلة : رصيف 22
الخميس 24 نوفمبر 2022  م

لفتتْ ظاهرة المجون نظر الكثير من الباحثين العاملين في حقل التراث والتاريخ الإسلاميين، وإنْ كان للاستشراق الفضل في تلقّف هذه الظاهرة، ومحاولة سبر أعماقها. فكيف ساهمت العوامل الاقتصادية في العصر العباسي في زيادة منسوب الترف، بفضل الازدهار الاقتصادي والتجاري؟

شاعت ظواهر كثيرة نجد صداها في الأدب، خاصةً الشعر، والمدونات التاريخية، وكتب الرحلات. وترتب على هذا الترف انتشار الحانات في الحواضر الكبيرة، وانتشار التغزل بالغلمان والجواري، ولنا في أبي نواس و"عصابة المُجّان"، حسب ما أُطلق عليهم، خير مثال على هذه الظاهرة.

المجون مفهوماً ومعنى

جمع ابن منظور في "لسان العرب"، مادةً لغويةً من الفعل الثلاثي مَجَنَ، دارت حول الصلابة والغلظة. والماجن كما يقول اللسان: "مَن لا يبالي قولاً وفعلاً وكأنه صلب الوجه"، وتالياً يكون الماجن صلب الوجه قليل الحياء.


وعرّف الدكتور علي شلق، في كتابه "أبو نواس بين التخطي والالتزام"، مفهوم المجون بأنه وجهٌ من وجوه التهتك والعبث والضياع التي يحيا فيها الإنسان، بعد أن تستحيل عليه الحقيقة. ويرتبط هذا المصطلح حسب دراسة الدكتورة حمدة مشارك الرويلي، "شعراء الزهد والمجون في الشعر العباسي حتى القرن الرابع الهجري"، بـ: الزندقة، الخلاعة، الشك، الهزل، الملذات والشهوات، و"المجاهرة بالمعاصي"، وفق تعبيرها.

كان لهذه الظاهرة صدى كبير في الأدب، وخاصةً الشعر، كما عند الحسن بن هانىء (أبو نواس)، الذي جايل كذلك بشار بن بُرد، وغيرهما من الشعراء الذين عُرفوا بـ"عصابة المجان"، واحتضنتهم حانات بغداد، وقصور الخلفاء العباسيين. كما تناولها الأدباء ومؤرخو الأدب واللغة مثل الأصفهاني في "الأغاني"، وابن عبد ربه في "العقد الفريد"، والأبشيهي في "المستطرف"، والجاحظ في "مفاخر الجواري والغلمان"، وغيرهم.

الاقتصاد السياسي في العصر العباسي

الظاهرة الاجتماعية لا تنشأ من فراغ. ازدهرت ظاهرة المجون في العصر العباسي، خاصةً في قسمه الأول المعروف بعصر الازدهار، والذي ينتهي، حسب الرؤية الدارجة، بوفاة الخليفة الواثق في العام 232هـ. فلماذا كان هذا العصر مزدهراً؟ ولماذا ترعرع المجون في ظل هذا الازدهار؟ ولماذا ارتبط المجون أكثر بالحواضر، خاصةً بغداد، "حاضرة الحواضر ومدينة السلام"؟

لم يظهر المجون في العصر العباسي، بل كان ظاهرةً قديمةً في المجتمعات الإسلامية، ولم يخلُ العصر الأموي ولا حتى الراشدي منها، ولنا في الشاعر الذائع الصيت عمر بن أبي ربيعة، أسوة، فهو الذي كان في العصر الأموي يغازل النساء ويتحرش بهن (وفق تعبير عصرنا)، في أثناء الطواف حول الكعبة. ولكن العصر العباسي شهد تحولات اقتصاديةً كبرى نمّت هذه الظاهرة.

كانت الزراعة قطاعاً أساسياً وشديد الأهمية، لأن المدن، وكما في كل العصور القديمة والوسطى، كانت تعتمد في غذائها واستهلاكها للطعام على الأرياف والقرى بشكل كبيرٍ وأساسي. ومن ناحية أخرى، كانت دولة الخلافة العباسية، كغيرها من الدول اللاحقة في العصرين القديم أو الوسيط، تجبي من الفلاحين ضريبةً عُرفت في أدبيات الفقه الاقتصادي الإسلامي بـ"الخراج"، وهي ضريبة تفرضها الدولة على الفلاحين وتُجبى عيناً (أي بمقادير معيّنة من المحاصيل)، أو نقداً، أو الاثنين معاً في أزمنة متأخرة. وتنوعتْ المنتجات الزراعية ما بين المحاصيل الحقلية، والحبوب، والخضروات والفواكه والبساتين والمحاصيل العطرية.

وكانت الحواضر تستهلك الجزء الأكبر من الغذاء، فتُعتصَر الأرياف من خلال الخراج، ونهب المحاصيل الزراعية، عبر آليات كالمزارعة (اقتسام الدولة المحصول مع الفلاح، تاركةً له فقط مقداراً يتقوت به)، في مقابل إبقاء الخزينة العامة للخلافة في وضع جيد، بل كان جزء من الفائض الزراعي يُباع في الأسواق المحلية أو البعيدة، مما ساهم في بناء لبنات أولى لرأسمالية تجارية.

في ذلك العصر، ازدهرت أيضاً حرف وصناعات كثيرة، اعتمد بعضها على الزراعة، كالغزل والنسيج ومعاصر الزيوت واستخراج العسل الأسود من القصب، وبعضها اعتمد على تربية الحيوانات والمواشي والدواجن (وهذا جزء أساسي من الاقتصاد الفلاحي في أرياف العصور القديمة والوسطى)، كالقصابة (الجزارة)، والبيطرة (طبابة الحيوانات)، وتفريخ الصيصان بطرق غير طبيعية (الترقيد)، وغيرها. وازدهرتْ النجارة وصناعة الأثاث والحُلي، وكذلك الحدادة، وحلج الأقطان، وصناعة الورق والبارود والقيشاني والفخار... إلخ.


كنّا إذاً أمام بناء صناعي قوي في ذلك العصر، ساهم بشكل كبير في بناء الصرح الحضاري للخلافة العباسية، خاصةً أن تلك الصناعات كانت لها فائدة من زوايا عدة: إشباع حاجات الطبقة الحاكمة التي ازداد استهلاكها بمرور الوقت، ورفد الخزانة بإيرادات ضخمة من خلال فرض الضرائب والمكوس، وهو ما أتاح ظهور طبقات أكثر ترفاً في المجتمع العباسي.


بالطبع، لا يمكن الحديث عن البناء الاقتصادي في العصر العباسي من دون التعريج سريعاً على قطاع التجارة. فحسب رأي نفرٍ من الباحثين المهتمين بالجوانب الاجتماعية والاقتصادية في العصور الوسطى، مثل المستشرق النمسوي آ. آشتور في كتابه "التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للشرق الأوسط في العصور الوسطى"، كانت للتجارة أهمية قصوى، وكانت تمثّل عصب الاقتصاد في العصور الإسلامية، وخاصةً في العصر العباسي الأول، مما ساعد في تبلور رأسمالية تجارية أكثر تطوراً، راكمتْ أموالاً هائلةً بفضل التجارة البعيدة (العابرة للقارات). ودرس المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون بتفصيل تلك الظاهرة في كتابه "الإسلام والرأسمالية"، وتتبّع بتحليلٍ اقتصادي واجتماعي معمّق ظاهرة نشوء ما سمّاه "طبقة رأسمالوية".


ساعد الازدهار التجاري، وتعدد السلع الورادة والمصدَّرة، في خلق تراكم رأسمالي كبير، نبتت بفضله طبقة أرستقراطية مكونة من الخليفة العباسي وحاشيته ورجال دولته، وبعض من النخب القريبة من دوائر الحكم. هذه الوضعية ساهمت كذلك في بروز ظواهر جديدة هي الإنفاق الكبير على الاستهلاك الترفيهي، وزيادة أعداد المقتنيات من الجواري والغلمان، مما ساعد على بروز ظاهرة المجون التي أصبحت ظاهرةً عامةً وملموسةً منذ عصر أبي جعفر المنصور، وازدادت إبان خلافة هارون الرشيد وأبنائه: المأمون والمعتصم، ثم الواثق ابن المعتصم الذي يُعَدّ آخر الخلفاء العباسيين العظام، حسب الدارج بين المؤرخين.

____________________________

تعليقات