عن شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء
أبو العلاء المعري بين اللزوميات ورسالة الغفران
الحوار المتمدن 12-12-2020
" أرى الأشياء ليس لها ثبات"
يعتبر أبو العلاء المعري الشاعر الأبرز بعد المتنبي في الفترة القديمة التي شهدت فيها الثقافة العربية تطورا ملحوظا وثورة شاملة على الموروث وتسلحت فيها بإرادة صلبة نحو الإقلاع والتجديد بغية الإضافة والابداع.
لقد ولد بمعرة النعمان بأدلب في سوريا سنة 973 وعاش هناك ومكث في الشام الى أن توفي عام 1057 واشتغل بالشعر والدب والنحو وزاد عليها بالتفكير وابداع الرأي في السياسة ونقد الواقع الاجتماعي والدعوة الى الثورة على الموجود والحلم بالمنشود وشمل نقده المجال الديني والحياة اليومية وكذلك العادات السيئة. لقد تراوحت أعماله بين لزوم ما لا يلزم في المجال الشعري على مستوى البناء الشكلي للقصيدة من جهة نحت القافية والرد على حكاية بن القارح في مسألة الغفران والتطرق الى الجحيم والفردوس والقول بجنة العفاريت وتخطى المحبسين عن طريق الحرية الباطنية وبلغ النظر العقلي الذي عوضه عن حرمانه من النظر الحسي. في الظاهر رسم المعري صورة سوداوية عن المجتمع وصوب نظرة متشائمة من الحياة وأبدى نوع من التبرم من الأوضاع وسخر من ممارسات السياسيين وحمل على رجال الدين وأعلن معارضته لكل سلطة ولكل حكم ولكن في الباطن جعل من تمرده نوع من اثبات الذات وحوّل ثورته الشعرية الى وسيلة للارتقاء نحو الأحسن ودفع يأسه من الحياة الى أن يكون محركا للوعي بالعالم وجسرا للعبور نحو الآخر واسترجاع معنى الكينونة. لقد عاش أبو العلاء غريبا ومنعزلا ولكن غربته كانت مؤانسة للشعراء السابقين له وانعزاله كان وقود ابداعه وتوغل في الأدب العربي حتى الالمام من هوامشه وتفاصيله بعد هضم كلياته واستهلاك مشهوره وبلوغ مرماه وأبدع في الشعر وصفا وهجاء وتشبيها وسخرية وتخييلا وجاوز الحد واخترق المحظور في رسالة الغفران وفكر فيما لم يجرا على التفكير فيه أحد قبله وكشف عن التناقضات ومواطن الضعف في البنية الفقهية المتينة. لقد مجد المعري العقل وسافر الى بغداد طلبا للحكمة وبحثا عن الانوار المعرفية والعلوم العقلية والكتب النقدية واستخدمه في صناعته الأدبية والشعرية بذكاء وقاد وفضله على النقل والسماع وشحذ به قدراته على الفهم والحفظ والكلام والتأليف والتعمق في التفكير والتأمل في خلوة روحية بجلها على الاتصال بالناس ومخالطتهم. لقد نظم الكثير من القصائد والدواوين مثل اللزوميات والغاز وجامع الأوزان وسقط الزند واستغفر واستغفري وألّف مجموعة من الكتب مثل الفصول والغايات وملقى السبيل ومثقال النظم ومجد الأنصار واقليد الغابات والأيك والغصون وتاج الحرة وخماسية الراح وجزر النابح واللامع العزيزي وراحة اللزوم وضوء السقط وذكرى حبيب خصه لأبي تمام وخط جملة من الرسائل أهمها مثل رسالة الغفران ورسالة الصاهل والشاحج.على هذا الأساس لم يكن المعري لسانا متكلفا ولا من صناع الكلام وانما كان عالما موسوعيا وعارفا بدقائق الأمور ومنتبها الى الواقع الذي ينتمي اليه وشاهدا على عصره وملما بعلوم حضارته ومتمكنا من تاريخ الأدب والشعر والفن وقادرا على التنائي النقدي مع العادات والتقاليد والحس المشترك الذي تعتقده الدهماء والعامة. لقد تم تنزيله ضمن رواد القلق الوجودي والمنزع العقلي والنقد الثقافي والمذهب الإنساني في الحضارة العربية الإسلامي ولكن مختلف المعارك الشعرية التي خاضها والردود على الردود التي انخرط فيها جعلت منه أديبا كبيرا ومفكرا لامعا وصاحب فكرة فلسفية تخاطب الانسان بلغة كونية وتبحث عن قيمة الحياة. لقد مطلعا على العقائد والديان والمذاهب ورافضا للتصوف والقول بتناسخ الأرواح ومهاجما لأصحاب العقائد وباحثا عن الايمان الحي والفكرة الدينية الحرة ولذلك ظل متعطشا للحقيقة ومحاربا للجهل والظلم والخرافة وبانيا لعمارة المعرفة وناصحا بالمنهج العقلي الطبيعي ومستهزئا بالباحثين عن الشهرة والمال والجاه والحكم. أما موقفه من السياسة فكان ناقدا لأوضاعها وساخرا من فسادها وتعكيرها لصفو الحياة الاجتماعية ومناديا بضرورة الالتزام بالشيم الاجتماعية وأخلاق المروءة وتحمل الامانة ولقد عبر عنه بالأبيات الساخرة التالية:
يسوسون الأمور بغير عقل فينفذ أمرهم، ويقال ساسة
فأف من الحياة واف مني على زمن رياسته خساسة
مدفن أبي العلاء المعرِّي
وإذا كانت هذه الشخصية الفكرية الفذة بقيت متروكة ومهملة في الثقافة العربية وألصقت بها أبشع النعوت واتهمت بالزندقة والالحاد فإن تأثيرها الكبير على الثقافة العالمية يظهر خاصة في " الكوميديا الإلهية " ل " دانتي ". فكيف لمن أتعبته الحياة وهجر المجتمع أن يؤسس للوجود الإنساني ويصلح ما أفسده الأشرار والمنافقين؟ أليس هو القائل في الغاية السامية من الحياة: "خفف الوطء ما اظن أديم الأرض الا من هذه الأجساد"؟
-------------------
تعليقات
إرسال تعليق