مختارات - مراجعات في فكر أبيقور
قرأت لك .. / صلاح الدين محسن 11-12-2021
----- ----- -----
مراجعات في فكر أبيقور
الكاتب : مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب
الحوار المتمدن 2021 / 12 / 10
تعريب فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع لملخص محاضرة قدمها مصعب قاسم عزاوي باللغة الإنجليزية في مركز دار الأكاديمية الثقافي في لندن.
ولد الفيلسوف اليوناني أبيقور في عام 341 قبل الميلاد، في جزيرة ساموس، على بعد أميال قليلة من ساحل تركيا الحديثة. لقد كان ذا لحية طويلة بشكل غير عادي، وكتب أكثر من 300 كتاب، وكان واحداً من أشهر الفلاسفة في عصره، وامتدت حياته المفعمة بالإبداع الفكري حتى سنة 270 فبل الميلاد.
ما جعل أبيقور مشهوراً هو تركيزه الماهر والمتواصل على موضوع فكري مركزي بعينه: السعادة. في السابق، أراد الفلاسفة أن يعرفوا كيف يكونوا صالحين؛ بينما أصر أبيقور على كونه يريد التركيز في فلسفته على كيفية إدراك السعادة.
هناك قلة قليلة من الفلاسفة سبق لهم أن اعترفوا بمثل هذا الاعتراف الصريح الواقعي بأهدافهم الفكرية دون مواربة أو تزويق من قبل. ولقد استهجن الكثيرون من معاصري أبيقور نهجه خاصةً عندما سمعوا بأنه قد بدأ إنشاء مدرسة للسعادة تسمى الحديقة في أثينا. وكانت فكرة ما يجري في داخل المدرسة غير مألوفة بالحد الأدنى للكثير من معاصري أبيقور آنذاك. وقام عدد قليل من الأشخاص الذين لم يرقهم ما كان يجري في المدرسة ببعض التسريبات المضللة والمشوهة والتي لا أساس لها في الواقع حول ما كان يجري في المدرسة. فقد قال تيموكراتس إن أبيقور كان عليه أن يتقيأ مرتين في اليوم لأنه قضى جميع وقته على أريكة يتغذى على اللحوم والأسماك الفاخرة من قبل فريق من العبيد. ونشر ديوتيموس الرواقي خمسين رسالة بذيئة قال فيها بأن أبيقور كتبها إلى بعض الطلاب الشباب عندما كان في حالة سكر وهوس جنسي. وبسبب هذا القيل والقال، لا نزال الآن نستخدم أحياناً صفة "الأبيقوري" لوصف الرفاهية والانحطاط. ولكن الحقيقة كانت على غير ذلك التشويه المتعمد. فالحقيقة حول أبيقور أقل دراماتيكية بكثير، لكنها أكثر إثارة للاهتمام المعرفي الفلسفي الحق. لقد ركز الفيلسوف اليوناني حقاً على السعادة والسرور، لكنه لم يكن مهتماً بالوجبات باهظة الثمن أو العربدة. كان يمتلك فقط عباءتين وعاش على الخبز والزيتون و- كمتعة تكميلية – بإضافة شريحة من الجبن في بعض الأحايين على خبزه و زيتونه. وبعد دراسة السعادة بصبر لسنوات عديدة، توصل أبيقور إلى مجموعة من الاستنتاجات البارزة والثورية حول ما نحتاج إليه فعلاً لكي نكون سعداء؛ استنتاجات تتعارض كلياً مع افتراضات عصره، ومع عصرنا إلى حد شبه مطلق.
لقد اقترح أبيقور أننا نرتكب عادةً ثلاثة أخطاء عند التفكير في السعادة:
1. إننا نعتقد أننا بحاجة إلى علاقات رومانسية مثالية
وقتذاك - وكما هو الحال الآن - كان الناس مهووسين بالحب. لكن أبيقور لاحظ أن السعادة والحب (ناهيك عن الزواج) يكادا لا يسيران سوياً. هناك الكثير من الغيرة وسوء الفهم والمرارة. فالجنس دائماً علاقة إنسانية معقدة ونادراً في وئام مع العاطفة. وخلص أبيقور إلى أنه سيكون من الأفضل عدم السعي لإنجاز العلاقات العاطفية المثالية، وتقبل تناقضات تلك العلاقات بعجرها وبجرها الذي قد يصعب إدراك سواه في الواقع المعاش يومياً. على النقيض من ذلك، أشار إلى مفاتيح الحفاظ على العلاقات بكل أشكالها، والتي تقتضي دوماً أن نكون مهذبين لا أفظاظاً غلاظاً، نبحث عن نقاط الاتفاق، لا نوبخ أو نتعالى أو نرفض بالمطلق طروحات الطرف الآخر، والأهم من ذلك الإيمان بأننا لا نمتلك الطرف الآخر ولسنا أوصياء عليه. لكن المشكلة هي أننا لا نرى أصدقاءنا وأحبابنا بما فيه الكفاية. تركنا العمل وتعظيم الثروة ليأخذا الأولويِّة. ونعلل ذلك بأننا لا يمكننا العثور على الوقت، وإنهم يعيشون بعيداً عنا في أحيان أخرى، وهي علل لترقيع الخطل الذي نحن فيه من تقصير تجاه الأحباب والأصدقاء.
2. إننا نعتقد أننا بحاجة إلى الكثير من المال
وقتذاك - كما هو الحال الآن - كان الناس مهووسين بحياتهم المهنية، بدافع من الرغبة في المال والرفاهية. لكن أبيقور شدد على صعوبات العمل والسعي لإدراك الثروة من قبيل الغيرة، والنميمة، والمنافسة غير العادلة والمثبطة، وما كان على شاكلتها.
اعتقد أبيقور أن ما يجعل العمل مرضياً حقاً هو عندما نكون قادرين على العمل إما بمفردنا أو في مجموعات صغيرة للغاية، وعندما يكون ذلك العمل مفيداً؛ أي عندما نشعر أننا نساعد الآخرين بطريقة أو نصنع أشياء تعمل على تحسين العالم. فيكون الهدف المضمر من العمل ليس المال أو المكانة أو الرفعة في المجتمع، ولكنه شعور بقيمة الذات من خلال عملنا.
3. نظن بأن الرفاهية هي إكسير السعادة
إننا نحلم بالفخامة: منزل جميل، وغرف أنيقة، ومناظر ممتعة. فنحن نتخيل رحلات إلى أماكن شاعرية، حيث يمكننا الراحة والسماح للآخرين بالاعتناء بنا.
لكن أبيقور اختلف مع طموحاتنا تلك بشكل كلياني. وراء خيال من الفخامة والأبهة والرفاهية، ما اعتقد أننا نريده حقاً هو الهدوء. لكن الهدوء لن ينشأ ببساطة من خلال تغيير المنظر أو امتلاك مبنى مبهج، ورفاهية، وخدم، وحشم.
الهدوء هو الصفاء الداخلي والسكينة الباطنية التي تكون نتيجة التحليل الاستبطاني العقلي لحيواتنا وذواتنا والمحيط الذي نعيش فيه، والتي تأتي حصراً عندما ندقق في آلية تفكيرنا ومخاوفنا ونفهمها ونتكشف أسبابها بشكل صحيح. لذلك فإننا بحاجة إلى وقت كافٍ للقراءة والكتابة، والأهم من ذلك كله، بحاجة لأن نستفيد من الدعم المنتظم من مستمع جيد لما نفكر به، وهو لا بد أن يكون شخصاً متعاطفاً ولطيفاً وذكياً، واهو ما كان يعني في زمن أبيقور الإنسان الفيلسوف، أو المجتهد لأن يكون كذلك.
من خلال تحليله للسعادة وكيفية إدراكها، قدم أبيقور ثلاث ابتكارات فكرية مهمة:
• أولاً، قرر أنه سيعيش مع الأصدقاء ليتمكن من رؤيتهم على الدوام وليس فقط بين الحين والآخر. ولذلك اشترى قطعة أرض متواضعة خارج أثينا وبنى مكاناً يمكن أن يعيش فيه هو وأصدقاؤه جنباً إلى جنب على أساس دائم. كل شخص لديه غرفته، وكانت هناك مناطق مشتركة في الطابق السفلي وفي القبو. وبهذه الطريقة، كان السكان محاطين دائماً بالأشخاص الذين يشاركونهم وجهات نظرهم، وهم أنيسون ولطفاء فيما بينهم لكونهم أصدقاء أحقاق. ويتم الاعتناء بالأطفال بتقسيم واجب الاعتناء بالأطفال بين البالغين بالقسط. وكان الجميع يأكل معاً. ويمكن للمرء أن يُجري دردشات في الردهات مع خلانه حتى وقت متأخر من الليل.
• ثانياً، توقف الجميع في المجتمع عن العمل لصالح أشخاص آخرين. لقد قبلوا فكرة تدني مدخولهم المادي في مقابل القدرة على التركيز على إنجاز العمل الذي يريدون القيام به. كرس بعض أصدقاء أبيقور أنفسهم للزراعة، والبعض الآخر للطهي، وعدد قليل لصنع الأثاث والفن. كان لديهم أموال أقل بكثير من أقرانهم في مجتمعاتهم التي كانوا يعيشون فيها سالفاً، ولكن كان لديهم الكثير من الرضا الجوهري الوافر، والسكينة العقلية والداخلية الراسخة.
• ثالثًا، كرس أبيقور وأصدقاؤه أنفسهم لإيجاد الهدوء من خلال التحليل العقلاني والبصيرة. وأمضوا فترات من كل يوم في التأمل في أسباب قلقهم، وتحسين فهمهم لأنفسهم، وإتقان الإجابة عن الأسئلة الفلسفية الكبرى.
تم فهم تجربة أبيقور في العيش من قبل الكثير ممن عاصروه ومن جاؤوا بعده. وتم تأسيس المجتمعات الأبيقورية في جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط وجذبت الآلاف من المؤمنين بها. وازدهرت تلك المجتمعات على مدى أجيال حتى تم قمعها بوحشية من قبل الفئات المهيمنة في القرن الخامس الميلادي وخاصة الكنسية التي رأت في نمط حياتهم البسيط المتباسط في أهدافه عدواً لا بد من تهشيمه لكونه يقدم بديلا ملموساً عن سبل إدراك السعادة والطمأنينة غير تلك المرتبطة بالإذعان للكنسية وقسسها. لكن حتى ذلك الحين، نجا جوهرها الفكري واستمر في الحضور بأشكال مختلفة حتى بعدما تحول الكثير من المجتمعات الأبيقورية إلى أديرة بقوة الكنيسة آنذاك.
واستمر تأثير أبيقور بقوة في العصر الحديث. فقد قدم كارل ماركس أطروحته للدكتوراه حول فكر أبيقور، ناظراً إليه على إنه فيلسوفه المفضل. وقد يستقيم تسمية ما ندعوه بالطوبى الشيوعية بشكلها الماركسي بأنها في الأساس مجرد نسخة أكبر - وبتحوير استبدادي صراعي وبعض الرتوش التنظيرية ذات المظهر العلمي - من الأبيقورية بشكلها الأصيل.
حتى اليوم، يظل أبيقور دليلاً لا غنى عنه للحياة في المجتمعات الرأسمالية الاستهلاكية المتقدمة لأن صناعة الإعلان والترويج -التي يقوم عليها بنيان هذا النظام - تعمل على تشويش الناس بذكاء حول ما يعتقدون أنهم بحاجة إلى أن يكونوا سعداء به. فهناك عدد غير عادي من الإعلانات الرأسمالية يركز على الأشياء الثلاثة ذاتها التي حددها أبيقور كإغراءات مزيفة وخلبية عن السعادة المشتهاة: الحب الرومانسي، والوضع المهني، والرفاهية.
إن أبيقور يدعونا لتغيير فهمنا لأنفسنا ولتغيير المجتمع وفقا لذلك. يجب ألا نستنفد أنفسنا والكوكب الذي نعيش فيه في سباق لإدراك أهداف قد لا ترضينا حقاً، حتى لو أدركناها. إننا بحاجة إلى العودة إلى التفكير العميق والاجتهاد بالبحث عن حقيقة ما يجعلنا سعداء أحقاق وليس خير من تركة أبيقور الفكرية في هذا المضمار.
موقع الكاتب :
____________________________
تعليقات
إرسال تعليق