من عجائب البشر
يوجد من بني البشر شخصيات هي حق عجيبة في عبقريتها . تقف أمامها مندهشا من قدراتها الفذة , القائمة علي تناقضات مروعة . وقد اخترنا تلك الشخصية . التي وردت في مقال مثير . نشرته " الشرق الأوسط اللندنية " يوم 17-7-2016 . للكاتب الأستاذ سمير عطا الله . تحت عنوان : «ظاهرة العرب.. أرمني» !! . ضمن سلسلة مقالاته : هوامش الأسفار وطرائف الأخبار: «ظاهرة العرب.. أرمني»
سمير عطا الله
ثمة «ظاهرة» عربية واحدة خلف جدران الأمم المتحدة الأرمني ليفون كشيشيان ، أطول المراسلين في المنظمة زمنًا، وأقصرهم قامة. الرجل الذي بدأ حياته المهنية محررًا رياضيًا في جريدة «الوحدة» في القدس، أصبح عميد المراسلين العرب في هيئة الأمم ومراسل «الأهرام» أيام حسنين هيكل، ومراسل إذاعة الكويت من دون رسائل صوتية، وشيخ المصورين بمهارة الأرمن المشهودة في هذا الحقل، ووكيل منظمة التحرير غير الرسمي في الإعلام، وحمل يوم كان الشيوعيون ممنوعين من دخول أميركا، جواز سفر من اليمن الجنوبي وعليه شعار المنجل والمطرقة وأقوال ماركس وخطب لينين عن مزابل التاريخ.
أخفق العلم في تحقيق «الحركة الدائمة» وأنجزها «البارون» ليفون. كان مكتبه في الدور الأول من مبنى المنظمة مليئًا بالناس ومثالاً لـ«الفوضى الخلاقة»، إذ بصرف النظر عن عدد الزوار وضوضائهم، كان ليفون يمضي في الكتابة على آلة طابعة قديمة، طبعًا بالإنجليزية، لأن مراسل «الأهرام» كان يحب العروبة ولا يتقن لغتها.
كانت أرض المكتب مفروشة بالصحف على الدوام. وفي زاويته سكرتيرة أرمنية تعمل بنشاط. وفي زاوية أخرى زوجته ومساعدته، الهادئة مثل نسمة، التي تخرجت من هارفارد مع غسان تويني في الأربعينات. وإضافة إلى كل الزوايا والصحف والزوار، كانت هناك زاوية استأجرها مراسل «الباييس» الإسبانية، وهو أيضًا في حجم ليفون، ومثله لا يتوقف عن الطباعة على آلة قديمة، ولكن بالإسبانية.
لم يمر دبلوماسي عربي على الأمم المتحدة إلا وطلب مساعدة ما من البارون، ولم يمر بها صحافي عربي إلا ومرّ بدورة «تدريبية» في معهد «الفوضى الخلاقة». كنت تستفسر والبارون مستمر في الطباعة لا يجيب، لكي تعرف أنك هنا لا شيء من دونه. وبعد قليل يرفع رأسه ويستمر في الطباعة، ثم يعطيك مفتاح هيئة الأمم.
والآن فلنكن جديين قليلاً: لم أكن أعرف من هو الأكثر شهرة، الأمم المتحدة أم ليفون كشيشيان. وفي المساء بعد نهاية نهار عاصف بالطباعة، كنت تجد البارون، بابتسامته الساخرة، يصور حفلات الاستقبال العربية. لا صورة زائدة ولا صورة ناقصة. فقط المجموعة الصالحة للنشر أو للحفظ، ويخرج بعدها ليأخذ القطار إلى منزله، خاتمًا فصلاً آخر من «الحركة الدائمة» و«الفوضى الخلاقة» من دون إضاعة لحظة واحدة في تسكع «نادي المندوبين» أو غدَوات المطعم. كل تلك الإضاعات تركها لنا، وظل منصرفًا إلى حياكة ظاهرته التي لا تتكرر. وأكثر مما لا أنسى عنه يوم قلت له، يا بارون، لماذا لا تنظم نفسك قليلاً؟ فقال بكل جديّة وعفويّة: بيضيع بابا. بيضيع.
=====
سمير عطا الله
ثمة «ظاهرة» عربية واحدة خلف جدران الأمم المتحدة الأرمني ليفون كشيشيان ، أطول المراسلين في المنظمة زمنًا، وأقصرهم قامة. الرجل الذي بدأ حياته المهنية محررًا رياضيًا في جريدة «الوحدة» في القدس، أصبح عميد المراسلين العرب في هيئة الأمم ومراسل «الأهرام» أيام حسنين هيكل، ومراسل إذاعة الكويت من دون رسائل صوتية، وشيخ المصورين بمهارة الأرمن المشهودة في هذا الحقل، ووكيل منظمة التحرير غير الرسمي في الإعلام، وحمل يوم كان الشيوعيون ممنوعين من دخول أميركا، جواز سفر من اليمن الجنوبي وعليه شعار المنجل والمطرقة وأقوال ماركس وخطب لينين عن مزابل التاريخ.
أخفق العلم في تحقيق «الحركة الدائمة» وأنجزها «البارون» ليفون. كان مكتبه في الدور الأول من مبنى المنظمة مليئًا بالناس ومثالاً لـ«الفوضى الخلاقة»، إذ بصرف النظر عن عدد الزوار وضوضائهم، كان ليفون يمضي في الكتابة على آلة طابعة قديمة، طبعًا بالإنجليزية، لأن مراسل «الأهرام» كان يحب العروبة ولا يتقن لغتها.
كانت أرض المكتب مفروشة بالصحف على الدوام. وفي زاويته سكرتيرة أرمنية تعمل بنشاط. وفي زاوية أخرى زوجته ومساعدته، الهادئة مثل نسمة، التي تخرجت من هارفارد مع غسان تويني في الأربعينات. وإضافة إلى كل الزوايا والصحف والزوار، كانت هناك زاوية استأجرها مراسل «الباييس» الإسبانية، وهو أيضًا في حجم ليفون، ومثله لا يتوقف عن الطباعة على آلة قديمة، ولكن بالإسبانية.
لم يمر دبلوماسي عربي على الأمم المتحدة إلا وطلب مساعدة ما من البارون، ولم يمر بها صحافي عربي إلا ومرّ بدورة «تدريبية» في معهد «الفوضى الخلاقة». كنت تستفسر والبارون مستمر في الطباعة لا يجيب، لكي تعرف أنك هنا لا شيء من دونه. وبعد قليل يرفع رأسه ويستمر في الطباعة، ثم يعطيك مفتاح هيئة الأمم.
والآن فلنكن جديين قليلاً: لم أكن أعرف من هو الأكثر شهرة، الأمم المتحدة أم ليفون كشيشيان. وفي المساء بعد نهاية نهار عاصف بالطباعة، كنت تجد البارون، بابتسامته الساخرة، يصور حفلات الاستقبال العربية. لا صورة زائدة ولا صورة ناقصة. فقط المجموعة الصالحة للنشر أو للحفظ، ويخرج بعدها ليأخذ القطار إلى منزله، خاتمًا فصلاً آخر من «الحركة الدائمة» و«الفوضى الخلاقة» من دون إضاعة لحظة واحدة في تسكع «نادي المندوبين» أو غدَوات المطعم. كل تلك الإضاعات تركها لنا، وظل منصرفًا إلى حياكة ظاهرته التي لا تتكرر. وأكثر مما لا أنسى عنه يوم قلت له، يا بارون، لماذا لا تنظم نفسك قليلاً؟ فقال بكل جديّة وعفويّة: بيضيع بابا. بيضيع.
=====
تعليقات
إرسال تعليق