تقلبات الزمن
شارع الرشيد - أشهر شوارع بغداد ( قبل حروب صدام )
ذكرني خبر قرأته اليوم , بموقف حدث معي في بغداد عام 1979 :
ذكرني خبر قرأته اليوم , بموقف حدث معي في بغداد عام 1979 :
كنت وصديق مثقف عراقي - شيوعي - . نتمشي ونتناقش كعادتنا , وصلنا لشارع شعبي متفرع من شارع الرشيد قرب مبني البريد المركزي - كان قريباً من الفندق الذي اعتدت أن أنزل فيه . الشارع هاديء . اقتربنا من مقهي شعبي صغير جداً ويحتل جزءاً من الرصيف . يضع مقعدين طويلين - دكة - من الخشب . يجلس فوقهما بعض الناس .
فجأة توقف صديقي . مذهولاً , وشهق .. وهمس لي قائلاً : هل تعرف من هذا الرجل ؟ وأشار الي أحد الجالسين .. نظرت فوجدت رجلاً عجوزاً يجلس منكمشاً علي نفسه .
يلبس بالطو سميك , ليحميه من البرد . وتبدو أثار دماء علي جبينه . مما يوحي بانه قد تعثر أثناء سيره , بفعل الشيخوخة , فسقط علي وجهه , فأصيب وسالت منه بعض الدماء .. ولم يمسحها . فبقيت كما هي .
البالطو الذي كان يلبسه يبدو مغبراً , وشكله غير مهندم . كأنه واحد من المتشردين , الذين ينامون ليلاً فوق أرصفة الشوارع ..
قلت لصديقي : كلا , لا أعرفه ..
فقال هامسا : انه " يونس بحري " .. !! يا للهول ! شوف الزمن , كيف يصنع بالانسان ..!!؟
سألته : من هو يونس بحري ؟!
أجاب : هل تتذكر أحمد سعيد . بوق عبد الناصر . الاذاعي . والذي كان مديراً لاذاعة صوت العرب بالقاهرة . وكان معروفاً بشتائمه للحكام الذين يختلفون مع عبد الناصر . ويجلجل صوته , بفصاحة عالية !!؟
قلت : نعم أعرفه .. انه رمز من رموز النكسة . اذ كان يذيع أخباراً كاذبة عن انتصار وهمي, وتقدم قواتنا في سيناء , واسقاط عشرات الطائرات الاسرائيلية . ثم فوجئنا بالهزيمة المنكرة والنكسة ..
قال صديقي : هذا الرجل " يونس بحري " كان في العراق هو بمثابة أحمد سعيد - في مصر .. اذ كان هو الذي يرد علي شتائم أحمد سعيد . دفاعاً عن السلطة بالعراق .. ويكيل له الصاع صاعين .. وصوته طالما جلجل جلجلة باذاعة بغداد . وهز ميكروفون الاذاعة وأجهزة الراديو ... !
قلت , وأنا أنظر لحال الرجل العجوز المنطوي , المنكمش في حاله , ويبدو انه لم يعد قادراً علي المشي الا بصعوبة , وربما لم يعد قادراً علي الكلام أيضاً :
غريبة .. ! أهكذا يفعل الزمن بالانسان , ذلك الجبار .. ..!
هنا قال صديقي : أنا متأكد انه هو " يونس بحري " ولنتأكد أكثر , هيا تعالي ..
تقدمنا وجلسنا علي الدكة الخشبية . وجلس صديقي بجواره تماماً , وحياه :
مرحباً , سيد يونس ..
فرد عليه , وهو لا يزال منحنياً : مرحباً ..
صديقي , يسأله : أليس حضرتك الأستاذ يونس بحري ..
الرجل الكهل : ايه . نعم ..
جاء عامل المقهي , يسألنا عما نريد ه من المشروبات . طلبنا شاي وحامض .
حاول صديقي محاورته .. الا أن اجاباته كانت صعبه , مركبه , تفهم علي أكثر من وجه - رغم كبر سنه - ! .. فكف صديقي عن محاولة محاورته .. ..
شربنا ما طلبناه من المشروبات . ودفعنا الحساب , وانصرفنا .. وصديقي يقول لي : اكتفيت بتأكدي من انه فعلاً " يونس بحري " كما قلت لك ... لا يزال عقله واعياً , رغم كهولته , وشدة ضعفه الجسماني , لكن محاورته ليست بالشيء السهل ..! ..
ظللت طوال اليوم متأثراً من حالة الرجل . ومن أفعال الزمن بالانسان .. ما من طير طار وارتفع في الفضاء , الا وعاد للأرض .. !
--- الذي ذكرني بقصة " يونس بحري " هو خبرقرأته اليوم 15-8-2015 . يقول : مليونير أمريكي يتحول إلى متشرد يفترش الأرصفة وينام في الحدائق ..( كما في الصورة أدناه . و التي نقلناها من الاعلام ) .
----- http://salah48freedom.blogspot.ca/?view=flipcard
=======
تعليقات
إرسال تعليق