كتابات مختارة : الجولاني في البيت الأبيض... نهاية زمن الشيطان وبداية زمن التجميل السياسي
من مختارات : صلاح أ محسن
12-11-2025
الكاتب : مالك الجبوري
الحوار المتمدن 2025 / 11 / 12
نص المقال :
تأتي هذه المقالة في سياق قراءة تحليلية لواحد من أكثر المشاهد رمزية في السياسة الدولية المعاصرة: استقبال واشنطن، وللمرة الأولى، للرئيس السوري أحمد الشرع – المعروف سابقاً باسم أبي محمد الجولاني – في البيت الأبيض.
بين مشهد “الابتسامة الرسمية” وواقع “الباب الجانبي”، يتقاطع التحليل هنا بين البراغماتية الأميركية، وانهيار الحدود الأخلاقية في العلاقات الدولية.
إنها محاولة لفهم كيف تحوّل “الشيطان” القديم إلى “شريك” جديد، وكيف يُعاد رسم خرائط الشرق الأوسط بفرشاة التجميل السياسي
لم يكن أحد ليتخيل أن الرجل الذي خصصت واشنطن عشرة ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى اعتقاله، سيجلس يوماً في المكتب البيضاوي نفسه الذي كان يأمر بمطاردته. أحمد الشرع، المعروف سابقاً باسم “أبو محمد الجولاني”، القائد السابق لجبهة النصرة وهيئة تحرير الشام، أصبح فجأة رئيس دولة يبتسم في البيت الأبيض.
دخل الشرع من الباب الجانبي، بلا مراسم ولا مصافحة على الدرج، لكن دخوله كان حدثاً سياسياً مدوّياً. فقد طوى المشهد آخر صفحات زمن العزلة السورية، وفتح صفحة جديدة عنوانها: تبييض الجهاد بالديبلوماسية. في عالم السياسة، لا شيء يدوم سوى المصلحة، والجولاني يعرف كيف يُعيد تعريف نفسه حين تتغير الرياح.
من معسكر بوكا الأميركي في العراق عام 2008 إلى رئاسة سوريا الجديدة في 2025، قصة الشرع تجسّد المسار الأكثر غرابة في تاريخ الشرق الأوسط الحديث. من “أميرٍ مجاهد” إلى “رئيسٍ إصلاحي”، من رايات القاعدة إلى أعلام الأمم المتحدة، من تكبيرات المعركة إلى خطابات الشراكة والسلام.
رفعت وزارة الخارجية الأميركية اسمه من لائحة الإرهاب، مجمّدةً قانون قيصر، ومعلنةً دعم إعادة إعمار سوريا بمئات المليارات. والشرع، بدوره، وعد بالانضمام إلى التحالف الدولي ضد داعش، وفتح الباب أمام الشركات الغربية لإعادة بناء ما دمّرته الحرب.
لكن خلف هذه الابتسامات الدبلوماسية، يقف مشهد أخلاقي مثير للسخرية: واشنطن التي كانت ترى في الجولاني تجسيداً للشر، تقدّمه اليوم بوصفه شريكاً في “الحرب على الإرهاب”. إنها السياسة حين تتحول إلى عملية تجميل شاملة، تُخفي القبح بالمكياج وتُلمّع الدم بالتصريحات. لقد انتهى زمن الشيطان، أو هكذا يُقال. أما الحقيقة، فهي أن الشيطان لم يختفِ، بل غيّر بدلته، حلق لحيته، وتعلّم كيف يبتسم للكاميرا. وبين بوكا والبيت الأبيض، سقطت آخر الأقنعة عن عالمٍ لا يبحث عن العدالة، بل عن الصورة الجميلة التي تبرر القبح.
لكنّ ما لم يُرَ في الصورة كان أهمّ ممّا ظهر فيها. فطريقة استقبال الجولاني في واشنطن تكشف الوجه الحقيقي للسياسة الأميركية بين الحسابات الأمنية والرمزية الأخلاقية. لم يُستقبل أحمد الشرع كأي رئيس دولة، لأن واشنطن كانت تعرف أن المشهد أخطر من مجرّد بروتوكول. فالرجل الذي كان على قوائم الإرهاب الأميركية قبل عام واحد فقط، لا يمكن أن يُصافَح علنًا على درج البيت الأبيض دون أن تنفجر السياسة الداخلية الأميركية نفسها. لذلك تمّ كل شيء عبر الباب الجانبي، في لقاءٍ بارد المظهر، ساخن المضمون.
البيت الأبيض أراد من ذلك أن يبعث برسالة مزدوجة: إلى الداخل الأميركي، أنه لم يغيّر مبادئه، وإلى الخارج، أنه مستعد لتغيير كل شيء حين تتبدّل المصالح. فلا أحد في واشنطن يريد أن يتذكّر أنّ هذا الرجل قاد فصيلاً منبثقاً عن القاعدة، ولا أحد في الشرق الأوسط يصدق أنّ أميركا تؤمن حقاً بالتحول الديموقراطي.
ما جرى هو صفقة بلا اعتراف، ورهان على رجلٍ يملك مفاتيح الأرض الميدانية في شمال سوريا، ويُعدّ حجر توازنٍ في مواجهة النفوذ الإيراني والتركي معاً. بعبارة أخرى، الجولاني لم يكن “رئيس دولة” في نظر واشنطن، بل أداة ضبطٍ إقليمي تضمن بقاء ميزان القوى في صالحها.
ومن هنا نفهم لماذا لم تُرفع الأعلام، ولم تُسمع المراسم. فكل شيء في تلك الزيارة كان محسوباً لتجنّب كلمة واحدة: “الاعتراف”. لأنّ الاعتراف يعني الغفران، وأميركا تريد استخدام الماضي لا غفرانه.
بهذا المعنى، كانت الزيارة نفسها درساً في السياسة الواقعية: يمكن تحويل “الشيطان” إلى “شريك”، لكن لا يمكن غسله بالكامل أمام الكاميرات. الجولاني دخل البيت الأبيض ببدلة أنيقة، لكنه خرج منه كما دخل: رجلاً لا يُراد له أن يكون بطلاً، بل ورقةً رابحة في لعبة أكبر منه.
في النهاية، لم يكن استقبال الجولاني حدثاً عابراً بقدر ما كان إعلاناً عن مرحلة جديدة في الشرق الأوسط: مرحلة “الواقعية الوقحة” التي تذيب الحدود بين العدو والحليف، بين الجريمة والسياسة، بين الغفران والمصلحة. وكأن واشنطن تقول للعالم: لا وجود للشيطان أو القديس، بل فقط من يخدمنا اليوم.
--------

تعليقات
إرسال تعليق