مختارات - تكوين- بين التنوير والإصلاح

-تكوين- بين التنوير والإصلاح


أمين بن سعيد

 

الحوار المتمدن  2024 / 5 / 18


تعدد القراءات والمفاهيم لمصطلح ما , نعمة ونقمة في نفس الوقت. تأتي النعمة من الاختلاف الذي يسمح بكسر قداسة وصنمية النص واحتكاره وتأويله وتفسيره من جهة واحدة، وهذا الاختلاف يؤدي إلى التعايش والتسامح وهذا جيد ومحمود ومن ذلك يقال إن تعدد القراءات "نعمة". لكن بالمقابل، هذا التعدد يؤدي إلى الفوضى التي قد تهدم بالكلية أصل المصطلح ومفهومه فيؤدي ذلك إلى تحريف الحقيقة وهدم كل شيء معها، ومن ذلك مثلا ما نرى في الغرب منذ سنوات من تساؤلات غريبة عجيبة وصلت درجة نفي معنى "رجل" و "امرأة".
وبما أن النسبية والمصلحية والمذهبية تحكم وعي البشر شاءوا ذلك أم أبوا، وبما أن العقلاء منهم يسعون دائما إلى التوفيق بين المطلق والنسبي ويحاولون الوصول إلى أقرب ما يمكن أن يكون حقيقة هذا المصطلح أو ذاك، نتساءل ومن حقنا أن نفعل، فنقول ما معنى "تنويري"؟
أصل الكلمة عصر الأنوار في الغرب، والمعنى واضح حيث كانت الشعوب الغربية تعيش في الظلام، فولد من رحمها أناس فلاسفة وعلماء قالوا أنهم وأفكارهم النور لظلام مجتمعاتهم. لكننا نجد أن الأديان قالت نفس الشيء وقبل هؤلاء الفلاسفة بقرون، حيث كانت المجتمعات أيضا في ظلام وجاءت الأديان فنورتها... وكل يدعي وصلا بليلى.
مع التنوير، نجد أيضا مصطلح "الاصلاح"، ومعناه بين، أنك ستصلح خطأ ما، لكنك ستحافظ على الأصل وإلا لسمي هدما. وهنا نستنتج أن الأصل إذا كان في ذاته غير صالح فإن اصلاحه لن يكون مجديا، ومن ذلك نستطيع التفريق بين المصطلحين واستنتاج أن التنوير والاصلاح لا يجب لهما أن يلتقيا.
لكنهما التقيا عند الغربيين في عصور نهضتهم، والتقاؤهما لا يعني أن ذلك كان الطريق الصحيح، لكنه كان تزامنا لا توافقا، فعدو عدوي قد يكون رفيق طريق مرحلية لكنه يبقى على أصله أي عدوي. ويقال في هذا المضمار أن مارتن لوثر كان "مصلحا دينيا" وأن فولتير كان "تنويريا"، والمصطلحان يصدقان فقط إذا قلنا ما قالا أي أن الظلام كان الكاثوليكية.
الاصلاح الديني مصطلح مطاط، وعندما نبحث في خباياه نصل إلى حقيقة مرعبة. الدين مصدره إله، والإله كامل، وبالضرورة رسالته كمال مطلق، وأي خلل لن يكون إلا من البشر، ولذلك يصدق أكثر مصطلح "إصلاح الفكر الديني" لا "الاصلاح الديني" والفرق واضح، وهنا ينزه النص ويقدس أكثر من قبل المصلح وإن ظهر عليه العكس، بهذا "المنطق" يكون السفاحان مارتن لوثر ومحمد بن عبد الوهاب "مصلحين". مارتن لوثر "أصلح" أخطاء الكنيسة وتجبرها، وابن عبد الوهاب "أصلح" عبادة المسلمين وأنقذهم من الشرك.
وعليه، "الإصلاح الحقيقي" المنشود لن يكون إلا "الهدم"، الأصل فاسد ويجب تجاوزه، الأصل ظلام ويجب تنويره أي تسليط الضوء عليه، والضمير يرجع إلى الأصل أي "النص". من سيفعل ذلك؟ ومن سيستطيع؟ والجواب أنه الشخص الذي يرى أن العيب فيه، وهذا الشخص لا يمكن بأي حال أن يكون مؤمنا بالنص؛ المؤمن بالنص لن يكون إلا "مصلحا" والمصلح لن ير العيب في النص بل في التطبيق، ليس في الدين نفسه بل في التدين، والنتيجة الحتمية ستكون تقوية النص وسلطته وإن تغير من ينطق ويحكم باسمه. وهذا المصلح قطعا سيكون إقصائيا إرهابيا وربما ارتكب فظاعات أكثر ممن سبقوه، لأنه يؤمن بقدسية النص وبألوهيته ومن يرى نفسه حاملا لحق مطلق إلهي لن يتورع عن التنكيل بكل من لا يرى رأيه وإن كان مؤمنا مثله بنفس النص. ولنا في داعش خير دليل عايشناه ورأيناه ولا أحد يستطيع التشكيك في حدوثه كالأحداث التاريخية الغابرة، الدواعش كانوا "يفتحون" بلدان الكفار ويطبقون شرع الله وكانوا يفتخرون بأفظع الجرائم ويرون أنفسهم وكلاء الإله الواحد ومؤسسي دولته المنشودة على الأرض. ويجب التأكيد هنا أنه لا يمكن لمنصف أن يقارن أي فكر أو فلسفة أو أيديولوجيا بالدين، مهما كانت جرائم ذلك الفكر. والفرق يأتي من المصدر، وشتان بين المصدر الإلهي حامل الحق المطلق الذي لا يناقش، وبين مصدر وإن زعم حقا مطلقا لكنه يبقى بشريا ومهما توغل وتغول في عقول أتباعه إلا أن نقده ومراجعته يبقيان أسهل.
تبعا لما قيل، وبعد التفريق بين التنويري والمصلح، نستطيع أن نحكم عن كل من يدعي التنوير بعد إجابته مثلا عن هذا السؤال البسيط: "ما علاقة داعش بالإسلام؟"، والجواب سيكون جوابين لا ثالث لهما؛ الأول "لا علاقة" وقائلها إما داعشي مثل الدواعش وإما "مصلح"، الثاني "العلاقة وثيقة" وقائلها علم أهم أصل من أصول التنوير الحقيقي، قد تغيب عنه أصول أخرى لكن معرفته بأهم أصل يجعله شريكا في مسيرة التنوير لكن بشرطها وشروطها:
1- المسيحي واليهودي سيجيبان الجواب الصحيح يقينا لكنهما ليسا شريكا مسيرة تدعى بـ "التنوير"، يسخر المسيحي من القرآني الذي خرج علينا بعد 14 قرن زاعما أن كل من جاؤوا قبله لم يفهموا وهو وحده -بسلامته- فهم، لكنه بكلمة واحدة ودون أي حرج يقول أن كل التاريخ الدموي لعقيدته كان أخطاء أناس لم يفهموا وكل ما قاموا به ليس لهم عليه حرف واحد من كتابه المقدس يسندهم، أما اليهودي فيقول لنا بكل تلقائية أن اليهود ليسوا خيرا من غيرهم من البشر والتوراة لم تقل أنهم شعب مختار لكن الله أعطاهم رقعة صغيرة من الأرض وجعلهم حملة مشعل الإنسانية والمحبة والعدالة في كل مكان وجدوا فيه. النص الديني المؤسس هو الظلام الذي يجب تنويره، وإن كان هذا النص هو الحاكم الرئيسي فذلك لا يعني إطلاقا أن ننسى أو نتناسى من سبقاه ومن يفعل ذلك من حقنا أن نسأل في شأنه، كيف نقبل من يرفض تجارة البشر ويسكت عن تجارة الأسلحة والمخدرات؟
2- الظلام الرئيسي هو النص الديني ولم أقل "الوحيد"، يفعل ذلك أصحاب النظرة المجهرية التي تعميهم عن معرفة أماكن أخرى مظلمة يجب تنويرها، وراء مجاهرهم يكون هؤلاء مثاليين وتعمل عقولهم دون أن يدروا بلونين فقط فإما أسود وإما أبيض والحقيقة غير ذلك تماما، هؤلاء لا يبتعدون إلى الخلف ليروا بانوراما الأسود فيها يبقى واضحا جليا نعم لكن تحيط به ألوان أخرى كثيرة وجب معرفتها. الأستاذ هشام آدم في كتابه عن المسلمين الجدد وفي فيديوهات عديدة يفصل بين الإسلام والعروبة فيضع العيب كله في الاسلام ويستشهد بالحرية الدينية التي كانت في مكة والتي قضى عليها محمد: نرى بالمجهر فنجد أن مشكلتنا العلمانية، وبما أن مكة كانت تعددية قبل محمد إذن الاسلام هو السبب، وهو قول عجيب حقا يمكن رده بسهولة من كل من فتح كتاب فقه وتساءل من أين جاءتنا أغلب تلك الشرائع الإسلامية؟ مكة أمام الجميع فيل عظيم في بيت النوم فهل الحج والعمرة نزلا من السماء أم طقوس عربية بدائية وجزية مفروضة على الشعوب باسم السماء؟ من أين جاءتنا قصص النسب بالرضاعة؟ الرقية الشرعية والتعاويذ؟ مصيبة تحقير الزراعة؟ العاقلة؟ القسامة؟ الخمس؟ إلخ من عشرات الموارد. كل من فتح كتاب عقيدة، وقبل ذلك القرآن، سيتعجب وسيسأل مثلا من أين جاءتنا عقائد الجن التي تدمر وعي مجتمعاتنا؟ والجن "ماركة عربية مسجلة"، اليهودية والنصرانية التي عايشهما محمد فيهما شياطين وملائكة لكن لا وجود للجن. الجن ديانة بأكملها! كانت من أهم مصادر الإسلام (العمرة لكهان الجن أساف ونائلة في الكعبة وعند الصفا والمروة، عبادة الجن قزح في مزدلفة، الجن التي توحي إلى الشعراء الشعر وإلى الكهان خبر السماء ومنها أخذ محمد قصة جبريل الذي يوحي بكلام رب السماء، الجن الذي يتشكل ومنها دحية الكلبي والفظائع التي يشاهدها الملايين على الفضائيات اليوم كالزواج من جنية وإخراج الجن من الملبوسين...) مع عبادة النجوم والكواكب (الله وزوجته اللات وبناته مناة والعزى): اليهودية ليست المصدر رقم 1 كما يقول الكثيرون بل رقم 3 بعد الديانة النجمية وديانة الجن... النظرة المجهرية هنا تعود إلى عوامل قومية، فالقومي العربي لن ير أي شيء من شأنه أن يخدش في أصوله كما يعتقد ولا أدري ما المشكلة في قول حقيقة أن الإسلام خرج من بيئته وما هو إلا ثقافة عرب القرن السابع بتجارهم (ملأ مكة) وصعاليكهم (محمد وأسلم وغفار والأوس والخزرج)؟ أما غير العربي فيخشى أن يتهم بالعنصرية ضد العرب ويذكرنا موقفه هذا بالخوف من نقد الإسلام في الغرب خوفا من تهمة الاسلاموفوبيا وأيضا نقد اللوبي اليهودي خوفا من تهمة معاداة السامية.
مثال ثاني عن أصحاب النظرة المجهرية، وهو من عرف حقيقة الاسلام لكنه جهل حقيقة الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، وأقصد من يدعم إسرائيل بغباء وأيضا من يدعم فلسطين بعمى. التنوير استئصال سرطان، ولا مكان للعاطفة فيه؛ تمنع ممارسة الجراحة على الأقارب مهما كانت كفاءة الجراح ومهما كان جلده. المكان فقط للمعرفة والعلم؛ المعرفة بحقيقة ما يجري منذ بدء القصة إلى اليوم، والقصة أصلها نصوص دينية وتراكمت فيها عبر الأزمنة سياسات ومصالح وخيانات عالمية ومحلية وإقليمية. والعلم بكل المعطيات الداخلية والخارجية لكل بلد ومجتمع على حدة: لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يساند عاقل منصف ما تقوم به إسرائيل، وأيضا لا يمكن أن تعطى فلسطين بحماسها وفصائلها وفتحها شيكا على بياض وهي البقرة الحلوب التي بها تستعبد وتجهل شعوب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وأذكر هنا شاهدين يثيران العجب حقا وهما، أولا: كيف نرى ملحدين صهاينة دون خجل من دعمهم اللامشروط لإسرائيل وأيضا موقف الدكتور سامي الذيب الفلسطيني منهم حيث جعل من نفسه "صاحب مفتاح الجنة" وجعل فلسطين الأصل في كل شيء وموقف الدكتور وإن كان محقا في الأصل إلا أن الحدة فيه والكلام عنه وكأنه حقيقة مطلقة لكل شعوب المنطقة يثبت قول البعض أن فلسطين استعمار حقيقي لشعوبنا، وأستطيع مثلا قول شخص مغربي: كيف تريدني أن أدعم من يساند تقسيم بلدي؟ لن ألومه يا دكتور سامي على موقفه ذاك والذي وراءه غيره الكثير من الأسباب لكن سألومه فقط إن دعم إسرائيل.
3- التنوير حقل مفتوح، وكل يدعي فيه وصلا بليلى. لكنه شرف ونبل يعرف معناه الأحرار، هؤلاء لا يمكن أن يتركوا أنفسهم دون شواهد؛ من تشاء له الصدف أن يوجد في مكان ما فيه قتلة وتجار مخدرات وتلتقط له صورة وتنشر، لا يمكن حتى وإن كان السيف على رقبته أن يترك الظن أنه من أولئك. مثال: هل يعقل أن يترضى "تنويري" على أصحاب محمد كلما ذكر أحدهم؟ لن يقتل إن لم يفعل فهل من حقنا أن نسأل ونعيد لماذا فعله؟ وماذا سينور هذا الذي لم يستطع تجاوز أبسط عقبة أمامه؟ وكيف يسمح له شرفه ونبله فعل ذلك إن كان حقا "تنويريا"؟ أنهى الدكتور سيد القمني كتابه "حروب دولة الرسول" بالقول "بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فداك أولادي وأموالي ونفسي، صلى الله عليك وسلم، وعليك صلاتي وسلامي، وتسليمي، ولك ولرب العالمين إسلامي" ويقول -وهو مجرد مورد من مئات- في معرض كلامه عن غزوة بني قينقاع بعد أن نسف الروايات التبريرية لسبب الغزوة: "وربما وافقنا قارئ حصيف في رفضنا للقصة أعلاه، إذا ما أحطناه علما بالتبرير الحقيقي لما حدث، وهو ما جاء مرويا عن الزهري عن عروة (نزل جبريل على رسول الله ص بهذه الآية -وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين- فقال رسول الله ص أنا أخاف من بني قينقاع فسار إليهم ولواؤه بيد حمزة) " أي وانتهى الاقتباس، حقيقة ما جرى لم تكن امرأة عربية كشف عورتها يهودي بل كانت في إطار تصفية ممنهجة لليهود وخطة مسبقة منذ بيعة العقبة أي قبل الهجرة أصلا، ونفهم أيضا مسألة مهمة جدا وهي تقويل الكتب الاسلامية للقرآن ما لم يقله، وكأن القمني يقول لقارئه "الحصيف" ركز مع القرآن ولا تغتر بالروايات فالقرآن قال أن الغزوة سببها مجرد ادعاء لا يمكن للعقل قبوله فالله لا يعلم نبيه هل بني قيقناع خانوا أو سيخونون يقينا لكن يفوض إليه الأمر اعتباطا فإذا "خاف" هاجم. وصدقت عائشة في قولها "ما أرى ربك إلا يسارع في هواك"... التنوير شرف ونبل والقمني الذي كان السيف على رقبته لم يترك نفسه دون شواهد.


____________________________

تعليقات