كتابات مختارة
النوارس ترفض أن تموت وحيدة
سمير عطا الله
18-6-2017 جريدة الوفد - عن الشرق الأوسط
ربما ليس هناك في الجغرافيا العلمية شيء يدعى «البحر الليبي». لكن إذا قرأت
روايات ومذكرات اليوناني نيكوس كازانتزاكيس، فسوف تراه على الدوام واقفاً في
جزيرته، كريت، متأملاً «البحر الليبي». هذا «البحر الليبي» عاد إلى الظهور
في صحف العالم، تحت عنوان آخر. إذا أردت الاختصار الشديد، لضيق النفس
والوقت، فالعنوان هو الموت. بقليل من الصبر والتأمل يصبح: الغرق، والبؤس،
والأشد بؤساً.
ليس فقط موت اللاجئين، بل حتى الطيور التي تعيش وتموت في البحر: النوارس،
والسنونوات الماضية، والخطاف البحري، وغيرها. في «البحر الليبي» ثلاثة
أنواع من السفن الآن: قوارب الموت، وقوارب حرس السواحل، وقوارب المتطوعين.
ماذا يحمل المتطوعون أكثر من أي شيء آخر؟ أكياس البلاستك الزرقاء التي
يلفّون بها جثث الذين يموتون؟ كيف يموتون؟ من دون سبب واضح، أو محدد: التعب،
الإرهاق، الجوع، أو مجرد الملل من المزيد.
فتش المتطوعون القادمون من مالطا إلى «البحر الليبي» جيوب شاب مات وهم
يبحرون. لا شيء. لا هوية، لا ورقة، لا أثر لشيء. وضعوه في كيس أزرق، وسوف
ينقلون جثمانه إلى واحدة من سبعين مقبرة يدفنون فيها هؤلاء البشر. لكن ثمة
ما هو أكثر حزناً على هذه السفينة الألمانية من المخلوق المجرد حتى من اسم،
أو أي دليل على أنه مرَّ في برّ هذه الدنيا وبحارها: إنهما نورسان اتبعا
السفينة من مالطا، غابا، ثم عادا، فالتحقا بها.
يرفضان، النورسان الجائعان، الطعام الذي أعطي لهما. لقد قبلا اللجوء إلى
السفينة. بل قبل أحدهما أن يغط على يد المتطوع، كاتب هذا المقال في «لندن
رفيو أوف بوكس». لكنه لن يقبل الطعام، وكأنما لا يطيق المشاهد التي يراها
في «البحر الليبي».
ما إن هدأ البحر قليلاً حتى تدفقت قوارب اللاجئين: 11 ألفاً في ثلاثة أيام.
وكان هناك 12 قارباً يحمل المتطوعين من الأطباء والمسعفين والمواد الغذائية
للجائعين، أو الذين على وشك الموت جوعاً، أو النساء الحوامل. وعلى القارب
الألماني استمر النورسان في الإضراب عن الطعام، مع أن الألفة بلغت بهما
أنهما دخلا غرفة القبطان.
وسأل القبطان زميلاً له بالراديو، ماذا يستطيع أن يفعل: لقد قدمنا لهما
البسكويت والسكاكر، ولكن عبثاً. فقال له زميله الأكثر خبرة، لا تحاول شيئاً
بعد الآن. إنهما ينازعان. لكن النوارس ترفض أن تموت وحيدة.
نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط
تعليقات
إرسال تعليق