أباظيات - فكري أباظة
منقول - الأهرام 22-2-2013
فكري باشا أباظة.. شخصية عملاقة لن ينساها التاريخ.. فقد كان يجمع بين العديد من المزايا والمواهب في فرد واحد.. فهو المحامي الناجح الذي شهدته أروقة المحاكم.. وهو يصول ويجول دفاعا عن الحق.
. وهو الصحفي الرائد صاحب المقالات النارية المثيرة للقضايا المهمة والمعارضة للفساد والاحتلال.. والمتحدث الإذاعي اللبق المستحوذ علي آذان المستمع واهتمامه خلال أحاديثه التي كان ينتظرها الناس مثل حفلات أم كلثوم.
ولن ينسي التاريخ أيضا فكري أباظة ـ عضو البرلمان الجسور الذي كان صوته داخل البرلمان مثل زئير الأسد يدافع عن قضايا أمته ويستجوب الوزراء لمعرفة الحقائق وكشف التجاوزات وتعميق الديمقراطية.
وهذه الملامح الرئيسية لشخصية فكري أباظة المتعددة المواهب كمحام وصحفي ومتحدث إذاعي وبرلماني أهلته لكي يكون واحدا من رواد الحرية والنضال ولتبوؤ مكانا لائق في تاريخ مصر المعاصر.
ولقد استحق فكري أباظة بحق قول أمير الشعراء أحمد شوقي عنه إذا كنا شعب ينسي كل شيء بعد حين.. فإنه وإن كان يتظاهر بالنسيان.. فلن ينسي لأنه شعب كريم وفي يحب الذي أحبوه ويخلص للذين أخلصوا له وتفانوا في خدمته.
وينتمي فكري أباظة كما نعلم للعائلة الأباظية التي تعد من أعرق العائلات في تاريخ مصر والتي أنجبت عدة شخصيات في مختلف فروع العلم والأدب والشعر والفن.. منهم الشاعر عزيز أباظة وأديب مصر الكبير ثروت أباظة والفنان رشدي أباظة.. وهذه العائلة من القبائل العربية التي نزحت إلي مصر مع الفتح الإسلامي واستقرت بجوار مدينة بلبيس بمحافظة الشرقية في منطقة تسمي بقرية العائد.. وقد ولد فكري أباظة في قرية كفر أبو شحاتة التابعة لمركز منيا القمح عام8981 وكان والده هو المرحوم حسين بك أباظة الذي تخرج من الأزهر وكان من المقرر أن يتلقي فكري أباظة فيه تعليمة لولا أن والده فضل أن يرسله مع شقيقيه فؤاد وعثمان أباظة لتلقي العلم في مدراس القاهرة.
وكان فكري أباظة ضمن طلبة الحقوق الذين تم فصلهم في فبراير عام5191 وذلك بسبب امتناعهم عن استقبال السلطان حسين كامل احتجاجا علي إعلان الحماية البريطانية ومهادنة الخديوي للإحتلال... ومن بين الذين فصلوا من الطلاب مع فكري أباظة حسن الهضيبي ـ المرشد السابق للإخوان المسلمين وأحمد مرسي بدر وصبري أبوعلم ويوسف الجندي.
ويقول الصحفي فاروق أباظة ـ بدار الهلال إن فكري أباظة.. شارك في ثورة9191 خطيبا وصحفيا وقائدا للثوار.. وكان وقت نشوب الثورة متواجدا في مدينة أسيوط وخطب في أكبر كنائسها وألف نشيدا قوميا وقتها تغني به المسلمون والأقباط.. وطلبت السلطات البريطانية القبض عليه.. ولكنه تنكر وأدعي أنه تاجر حمير!.. وسافر للقاهرة في قطار يحمل مهمات لقوات الاحتلال.
وقد أتصف فكري أباظة كمحام وصحفي وبرلماني وإذاعي بأسلوب ساخر عميق.. ولهذا أطلق عليه اسم الضاحك ـ الباكي.. حتي أنه أطلق هذا الاسم علي أول مؤلف له عن أدب الثورة.. وقد ترجم علي صفحاته أدق أحاسيسه الوطنية والعاطفية.. وقد طبع الكتاب أكثر من مرة ونفذ من السوق في كل مرة.
ويحكي فكري أباظة بأسلوب الضاحك ـ الباكي عن لحظة مولده فيقول: أنه نزل من بطن أمه ليس ككل الأطفال الطبيعيين.. فقد كان وزنه ثقيلا ذا حواجب كثيفة ولم يبك مثل الأطفال.. ولهذا ظن والده أنه ولد ميتا.. وجاءوا بشوكة نخلة لكي يجبروه علي البكاء.. ولكن هيهات فقد أصر الطفل وقتها علي عدم البكاء.
وكان فكري أباظة يقول للأستاذ فاروق أباظة.. إنه ندم كثيرا لأنه لم يتزوج.. بل شغلته قضايا وطنه وأمته عن الزواج.. وأنه عندما يموت لن يجد زوجة أو ولد يبكي عليه أو يمشي في جنازته.
وقبل قيام ثورة9191 بعشرة أيام بدأ فكري أباظة العمل في الصحافة.. حيث بدأ في كتابة أول مقالاته في صحيفة الأهرام تحت عنواك كتيب حقير يوم9 نوفمبر9191 مهاجما طابور الخيانة الذي كان يهيئ الظروف للحكم الذاتي في مصر وهاجم الاحتلال الإنجليزي والمندوب السامي في مجموعة مقالات نارية.
وقد وصف الأستاذ داوود بركات رئيس تحرير الأهرام في فترة العشرينيات هذه المقالات بأنها نوع من أنواع الأدب والانشاء المتميز سماه العرب طرفة وعرفة وهو كالغريب والعجيب والمستحسن.
ويقول الأديب الكبير عبدالعزيز البشري عن مقالات فكري أباظة الصحفية:
كم شق باعه الصحف حناجرهم باسم فكري أباظة.. ولكم تطرف الناس وتناولا بحديث فكري أباظة.. الحق أن هذا الفتي قد استحال كاتبا كبيرا.. لقد أصبح شيئا كبيرا ومهما في مصر رغم صغر سنه.. وأصبح لا يستغني عنه الأدب ولا اللغة ولا السياسة.
لقد أصبح فكري أباظة ـ في نظر البشري.. معني من معاني الحركة وعنصرا من عناصر الحياة في هذا البلد.. فهو لازم كالرمل للنازحين للإسكندرية في الصيف.. وللناس في كافيه ريش في القاهرة في الشتاء.. وهو لازم لزوم الفن الجميل يستريح به الناس في كل بلد وفي كل جيل.
وبالإضافة إلي ذلك.. فقد كان لفكري أباظة صولات وجولات في أدب المرافعات داخل المحاكم وصدرت لصالح موكليه أحكاما تعتبر نصرا له كواحد من طليعة المحامين في مصر سواء في أسيوط. حيث بدأ عمله, ثم في الزقازيق والقاهرة بعد ذلك.
وفي يوم الخميس01 يوليو عام6291 بدأ فكري أباظة مشواره البرلماني الحافل عندما وقف أمام البرلمان المصري كعضو عن دائرة منيا القمح ـ محافظة الشرقية وكان معه عمالقة بحق من الأعضاء في كافة الاتجاهات ومنهم زعيم مصر سعد زغلول باشا وحسين رشدي باشا ومحمد فتح الله بركات باشا وحمد الباسل باشا ومحمد محمود باشا وطلعت حرب بك وعبدالفتاح يحيي باشا.
ويحكي الكاتب الصحفي الكبير مصطفي أمين عن تجربة النائب المحترم والقوي فكري أباظة في البرلمان بقوله:
كان فكري أباظة أحد نجوم البرلمان المصري.. كان خطيبا رائعا ومحدثا ممتازا ومقاطعا ذكيا ومعارضا خفيف الدم.. سهامه كانت تجرح الحكام ولا تسيل دماءهم.. والكلمات تصيب كأنها طلقات الرصاص ولكنها لا تقتلهم.. مكثت عضوا في مجلس النواب المصري خمس سنوات معه.. وكان مقعدي وراء مقعده.. وكنت اسمعه يتكلم فيطربني وكأنه يغني.. كان يستطيع أن ينتزع التصفيق من الذين يهاجمهم.. فقد كانوا يعلمون أنه رجل مؤمن بما يقول.. لا يريد لنفسه منصبا أو جاها أو مالا.. وكان هذا سر قوته.
ويضيف مصطفي أمين.. لقد كان حزب فكري أباظة( الحزب الوطني) لا يزيد أعضاؤه في البرلمان عن ثلاثة أو أربعة.. ومع ذلك إذا تكلم أحسست أن وراءه أغلبية وشعرت أنه لا يتكلم بلسان النواب الأربعة.. وانما بلسان مصر كلها.. وقد رشح نفسه نائبا في أول انتخابات برلمانية عام4291 علي مبادئ الحزب الوطني واكتسحه مرشح سعد زغلول علي الرغم أن الأسرة الأباظية كلها تكتلت لتأييده.
ولم يغضب فكري أباظة علي سعد زغلول لأنه اسقطه في الانتخابات.. فلم يشترك في الحملة
الطاغية التي شنها عليه الملك فؤاد وأنصاره بعد أن أسقطه الإنجليز من رئاسة الوزارة عقب مقتل السردار.
ويقول فاروق أباظة.. لقد قضي فكري أباظة ـ النائب العملاق أكثر من52 عاما كنائب عن دائرته منيا القمح ـ شرقية.. يسأل الوزراء ويطلب الإحاطة ويستجوب ويقدم الاقتراحات في كافة الشئون السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.. ويهاجم تشرشل والمندوب السامي وحاكم السودان العام ومفتش الجيش المصري الإنجليزي.. ويهاجم الانحراف والفساد ويدافع عن استقلال الجامعة... ويطالب بتوفير القوت للشعب ويتبني مشاكل الفلاحين والعمال.. وعندما يشعر بأن هناك من يحاول الاعتداء علي حرية الصحافة ينبري كالأسد ليدافع عنها بكل قوته.. وطالب بإغلاق المعتقلات ولم يترك قضية من قضايا الوطن إلا ودافع عنها كفارس لا تلين عريكته.
وفي ابريل عام8491 حاولت الحكومة استحداث قانون جديد من شأنه إجراء تعديل في بعض مواد قانون العقوبات.. وكان الهدف هو المساس بالحريات وحق المواطن في انتقاد السلطة التنفيذية ويومها وقف فكري أباظة عملاقا لحماية قدسية الدستور واحترامه.
وفي عام9391 اندلعت في مصر حملة إعلامية ونقدية ضد الدكتور طه حسين فور صدور كتابه الأدب الجاهلي.. وكان طه حسين وقتها يعمل عميدا لكلية الآداب ـ جامعة القاهرة.. واتهم المعارضون عميد الأدب العربي بالكفر والإلحاد والزندقة.. وطالبوا بطرده من الجامعة حماية له كما زعموا لشباب الجامعة ووقتها وقف فكري أباظة ليدافع عن طه حسين وليحمي فتيات الجامعة من دعاة التزمت والإنغلاق ونجح فكري أباظة في هذه الحملة المؤيدة لطه حسين.
وفكري أباظة.. كان بطل أول واقعة في حياتنا البرلمانية عندما استعانت الأغلبية ببوليس الحرس الملكي لكي يخرجوه بالقوة من قاعة المجلس بعد أن استطاع أن يحكم سيطرته القوية وفلت المعارضة في مقارعة حجته القوية.. وتبدأ القصة في41 ابريل عام3491 عندما تقدم أحمد حسنين باشا ـ رئيس الديوان الملكي باستقالته إلي الملك فاروق بعد أن تقدم النائب إبراهيم مكاوي بسؤال إلي نجيب الهلالي باشا ـ وزير المعارف في وزارة الوفد,, ويقول السؤال: هل صحيح أن معالي أحمد حسنين أوصي عام9391 بصنع أثاث منزل له بإحدي المدارس الصناعية التابعة لوزارة المعارف بمبلغ005 جنيه.. وأنه استلم الأثاث بعد صنعته وهل تم مطالبته بالثمن أم لا.
وكانت إجابة الوزير.. أنه توجد في ذمة حسنين باشا مبلغ535 و705 ملاليم.. وهو ثمن أثاث اشتراه عام9291 ولم يقم بسداده.
وأعلن حسنين باشا في بيان أصدره حول هذه الأزمة.. أنه أمضي في العمل الحكومي72 عاما.. ولكنه عجز عن دفع ثمن أثاث منزله بعد أن اشتري3 طائرات ليتعلم عليها الطيران.. ولكن هذه الطائرات تحطمت خلال محاولات التدريب عليها وباع إرث والده عام1391 خلال الأزمة الاقتصادية.
وخلال جلسة النواب.. وقف النائب محمد محمود جلال.. يعترض علي أن يسأل نائب عن دور رئيس الديوان الملكي علي اساس إن اللائحة الداخلية تمنع ذلك.. ولكن النائب فكري أباظة يقف معترضا علي ذلك ويهاجم الحكومة بموضوعية مما يجعل الحكومة ونوابها يثورون ويطالبون بخروج فكري أباظة من القاعة بواسطة الحرس الملكي.
ويتواصل تألق فكري أباظة تحت البرلمان.. ويلفت الأنظار إليه في كل أرجاء مصر مما دفع أمير الشعراء أحمد شوقي لتنظم قصيدة إعجاب بفروسيته.. يقول فيها:
ابني أباظة إن رافع بيتكم
جعل المكارم فيه والإحسانا
فكري أذقت القوم عفو بلاغة
وأزرفت محضا للنهي ولبابا
من كل فاكهة وكل فكاهة
هيأت نقلا واتخذت شرابا
ما زلت تنثر كل طيبة الشذي
حتي جمعت من الزهور كتابا
---------------- عبد الكريم يعقوبوهذه الملامح الرئيسية لشخصية فكري أباظة المتعددة المواهب كمحام وصحفي ومتحدث إذاعي وبرلماني أهلته لكي يكون واحدا من رواد الحرية والنضال ولتبوؤ مكانا لائق في تاريخ مصر المعاصر.
ولقد استحق فكري أباظة بحق قول أمير الشعراء أحمد شوقي عنه إذا كنا شعب ينسي كل شيء بعد حين.. فإنه وإن كان يتظاهر بالنسيان.. فلن ينسي لأنه شعب كريم وفي يحب الذي أحبوه ويخلص للذين أخلصوا له وتفانوا في خدمته.
وينتمي فكري أباظة كما نعلم للعائلة الأباظية التي تعد من أعرق العائلات في تاريخ مصر والتي أنجبت عدة شخصيات في مختلف فروع العلم والأدب والشعر والفن.. منهم الشاعر عزيز أباظة وأديب مصر الكبير ثروت أباظة والفنان رشدي أباظة.. وهذه العائلة من القبائل العربية التي نزحت إلي مصر مع الفتح الإسلامي واستقرت بجوار مدينة بلبيس بمحافظة الشرقية في منطقة تسمي بقرية العائد.. وقد ولد فكري أباظة في قرية كفر أبو شحاتة التابعة لمركز منيا القمح عام8981 وكان والده هو المرحوم حسين بك أباظة الذي تخرج من الأزهر وكان من المقرر أن يتلقي فكري أباظة فيه تعليمة لولا أن والده فضل أن يرسله مع شقيقيه فؤاد وعثمان أباظة لتلقي العلم في مدراس القاهرة.
وكان فكري أباظة ضمن طلبة الحقوق الذين تم فصلهم في فبراير عام5191 وذلك بسبب امتناعهم عن استقبال السلطان حسين كامل احتجاجا علي إعلان الحماية البريطانية ومهادنة الخديوي للإحتلال... ومن بين الذين فصلوا من الطلاب مع فكري أباظة حسن الهضيبي ـ المرشد السابق للإخوان المسلمين وأحمد مرسي بدر وصبري أبوعلم ويوسف الجندي.
ويقول الصحفي فاروق أباظة ـ بدار الهلال إن فكري أباظة.. شارك في ثورة9191 خطيبا وصحفيا وقائدا للثوار.. وكان وقت نشوب الثورة متواجدا في مدينة أسيوط وخطب في أكبر كنائسها وألف نشيدا قوميا وقتها تغني به المسلمون والأقباط.. وطلبت السلطات البريطانية القبض عليه.. ولكنه تنكر وأدعي أنه تاجر حمير!.. وسافر للقاهرة في قطار يحمل مهمات لقوات الاحتلال.
وقد أتصف فكري أباظة كمحام وصحفي وبرلماني وإذاعي بأسلوب ساخر عميق.. ولهذا أطلق عليه اسم الضاحك ـ الباكي.. حتي أنه أطلق هذا الاسم علي أول مؤلف له عن أدب الثورة.. وقد ترجم علي صفحاته أدق أحاسيسه الوطنية والعاطفية.. وقد طبع الكتاب أكثر من مرة ونفذ من السوق في كل مرة.
ويحكي فكري أباظة بأسلوب الضاحك ـ الباكي عن لحظة مولده فيقول: أنه نزل من بطن أمه ليس ككل الأطفال الطبيعيين.. فقد كان وزنه ثقيلا ذا حواجب كثيفة ولم يبك مثل الأطفال.. ولهذا ظن والده أنه ولد ميتا.. وجاءوا بشوكة نخلة لكي يجبروه علي البكاء.. ولكن هيهات فقد أصر الطفل وقتها علي عدم البكاء.
وكان فكري أباظة يقول للأستاذ فاروق أباظة.. إنه ندم كثيرا لأنه لم يتزوج.. بل شغلته قضايا وطنه وأمته عن الزواج.. وأنه عندما يموت لن يجد زوجة أو ولد يبكي عليه أو يمشي في جنازته.
وقبل قيام ثورة9191 بعشرة أيام بدأ فكري أباظة العمل في الصحافة.. حيث بدأ في كتابة أول مقالاته في صحيفة الأهرام تحت عنواك كتيب حقير يوم9 نوفمبر9191 مهاجما طابور الخيانة الذي كان يهيئ الظروف للحكم الذاتي في مصر وهاجم الاحتلال الإنجليزي والمندوب السامي في مجموعة مقالات نارية.
وقد وصف الأستاذ داوود بركات رئيس تحرير الأهرام في فترة العشرينيات هذه المقالات بأنها نوع من أنواع الأدب والانشاء المتميز سماه العرب طرفة وعرفة وهو كالغريب والعجيب والمستحسن.
ويقول الأديب الكبير عبدالعزيز البشري عن مقالات فكري أباظة الصحفية:
كم شق باعه الصحف حناجرهم باسم فكري أباظة.. ولكم تطرف الناس وتناولا بحديث فكري أباظة.. الحق أن هذا الفتي قد استحال كاتبا كبيرا.. لقد أصبح شيئا كبيرا ومهما في مصر رغم صغر سنه.. وأصبح لا يستغني عنه الأدب ولا اللغة ولا السياسة.
لقد أصبح فكري أباظة ـ في نظر البشري.. معني من معاني الحركة وعنصرا من عناصر الحياة في هذا البلد.. فهو لازم كالرمل للنازحين للإسكندرية في الصيف.. وللناس في كافيه ريش في القاهرة في الشتاء.. وهو لازم لزوم الفن الجميل يستريح به الناس في كل بلد وفي كل جيل.
وبالإضافة إلي ذلك.. فقد كان لفكري أباظة صولات وجولات في أدب المرافعات داخل المحاكم وصدرت لصالح موكليه أحكاما تعتبر نصرا له كواحد من طليعة المحامين في مصر سواء في أسيوط. حيث بدأ عمله, ثم في الزقازيق والقاهرة بعد ذلك.
وفي يوم الخميس01 يوليو عام6291 بدأ فكري أباظة مشواره البرلماني الحافل عندما وقف أمام البرلمان المصري كعضو عن دائرة منيا القمح ـ محافظة الشرقية وكان معه عمالقة بحق من الأعضاء في كافة الاتجاهات ومنهم زعيم مصر سعد زغلول باشا وحسين رشدي باشا ومحمد فتح الله بركات باشا وحمد الباسل باشا ومحمد محمود باشا وطلعت حرب بك وعبدالفتاح يحيي باشا.
ويحكي الكاتب الصحفي الكبير مصطفي أمين عن تجربة النائب المحترم والقوي فكري أباظة في البرلمان بقوله:
كان فكري أباظة أحد نجوم البرلمان المصري.. كان خطيبا رائعا ومحدثا ممتازا ومقاطعا ذكيا ومعارضا خفيف الدم.. سهامه كانت تجرح الحكام ولا تسيل دماءهم.. والكلمات تصيب كأنها طلقات الرصاص ولكنها لا تقتلهم.. مكثت عضوا في مجلس النواب المصري خمس سنوات معه.. وكان مقعدي وراء مقعده.. وكنت اسمعه يتكلم فيطربني وكأنه يغني.. كان يستطيع أن ينتزع التصفيق من الذين يهاجمهم.. فقد كانوا يعلمون أنه رجل مؤمن بما يقول.. لا يريد لنفسه منصبا أو جاها أو مالا.. وكان هذا سر قوته.
ويضيف مصطفي أمين.. لقد كان حزب فكري أباظة( الحزب الوطني) لا يزيد أعضاؤه في البرلمان عن ثلاثة أو أربعة.. ومع ذلك إذا تكلم أحسست أن وراءه أغلبية وشعرت أنه لا يتكلم بلسان النواب الأربعة.. وانما بلسان مصر كلها.. وقد رشح نفسه نائبا في أول انتخابات برلمانية عام4291 علي مبادئ الحزب الوطني واكتسحه مرشح سعد زغلول علي الرغم أن الأسرة الأباظية كلها تكتلت لتأييده.
ولم يغضب فكري أباظة علي سعد زغلول لأنه اسقطه في الانتخابات.. فلم يشترك في الحملة
الطاغية التي شنها عليه الملك فؤاد وأنصاره بعد أن أسقطه الإنجليز من رئاسة الوزارة عقب مقتل السردار.
ويقول فاروق أباظة.. لقد قضي فكري أباظة ـ النائب العملاق أكثر من52 عاما كنائب عن دائرته منيا القمح ـ شرقية.. يسأل الوزراء ويطلب الإحاطة ويستجوب ويقدم الاقتراحات في كافة الشئون السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.. ويهاجم تشرشل والمندوب السامي وحاكم السودان العام ومفتش الجيش المصري الإنجليزي.. ويهاجم الانحراف والفساد ويدافع عن استقلال الجامعة... ويطالب بتوفير القوت للشعب ويتبني مشاكل الفلاحين والعمال.. وعندما يشعر بأن هناك من يحاول الاعتداء علي حرية الصحافة ينبري كالأسد ليدافع عنها بكل قوته.. وطالب بإغلاق المعتقلات ولم يترك قضية من قضايا الوطن إلا ودافع عنها كفارس لا تلين عريكته.
وفي ابريل عام8491 حاولت الحكومة استحداث قانون جديد من شأنه إجراء تعديل في بعض مواد قانون العقوبات.. وكان الهدف هو المساس بالحريات وحق المواطن في انتقاد السلطة التنفيذية ويومها وقف فكري أباظة عملاقا لحماية قدسية الدستور واحترامه.
وفي عام9391 اندلعت في مصر حملة إعلامية ونقدية ضد الدكتور طه حسين فور صدور كتابه الأدب الجاهلي.. وكان طه حسين وقتها يعمل عميدا لكلية الآداب ـ جامعة القاهرة.. واتهم المعارضون عميد الأدب العربي بالكفر والإلحاد والزندقة.. وطالبوا بطرده من الجامعة حماية له كما زعموا لشباب الجامعة ووقتها وقف فكري أباظة ليدافع عن طه حسين وليحمي فتيات الجامعة من دعاة التزمت والإنغلاق ونجح فكري أباظة في هذه الحملة المؤيدة لطه حسين.
وفكري أباظة.. كان بطل أول واقعة في حياتنا البرلمانية عندما استعانت الأغلبية ببوليس الحرس الملكي لكي يخرجوه بالقوة من قاعة المجلس بعد أن استطاع أن يحكم سيطرته القوية وفلت المعارضة في مقارعة حجته القوية.. وتبدأ القصة في41 ابريل عام3491 عندما تقدم أحمد حسنين باشا ـ رئيس الديوان الملكي باستقالته إلي الملك فاروق بعد أن تقدم النائب إبراهيم مكاوي بسؤال إلي نجيب الهلالي باشا ـ وزير المعارف في وزارة الوفد,, ويقول السؤال: هل صحيح أن معالي أحمد حسنين أوصي عام9391 بصنع أثاث منزل له بإحدي المدارس الصناعية التابعة لوزارة المعارف بمبلغ005 جنيه.. وأنه استلم الأثاث بعد صنعته وهل تم مطالبته بالثمن أم لا.
وكانت إجابة الوزير.. أنه توجد في ذمة حسنين باشا مبلغ535 و705 ملاليم.. وهو ثمن أثاث اشتراه عام9291 ولم يقم بسداده.
وأعلن حسنين باشا في بيان أصدره حول هذه الأزمة.. أنه أمضي في العمل الحكومي72 عاما.. ولكنه عجز عن دفع ثمن أثاث منزله بعد أن اشتري3 طائرات ليتعلم عليها الطيران.. ولكن هذه الطائرات تحطمت خلال محاولات التدريب عليها وباع إرث والده عام1391 خلال الأزمة الاقتصادية.
وخلال جلسة النواب.. وقف النائب محمد محمود جلال.. يعترض علي أن يسأل نائب عن دور رئيس الديوان الملكي علي اساس إن اللائحة الداخلية تمنع ذلك.. ولكن النائب فكري أباظة يقف معترضا علي ذلك ويهاجم الحكومة بموضوعية مما يجعل الحكومة ونوابها يثورون ويطالبون بخروج فكري أباظة من القاعة بواسطة الحرس الملكي.
ويتواصل تألق فكري أباظة تحت البرلمان.. ويلفت الأنظار إليه في كل أرجاء مصر مما دفع أمير الشعراء أحمد شوقي لتنظم قصيدة إعجاب بفروسيته.. يقول فيها:
ابني أباظة إن رافع بيتكم
جعل المكارم فيه والإحسانا
فكري أذقت القوم عفو بلاغة
وأزرفت محضا للنهي ولبابا
من كل فاكهة وكل فكاهة
هيأت نقلا واتخذت شرابا
ما زلت تنثر كل طيبة الشذي
حتي جمعت من الزهور كتابا
مقال آخر : محمد رفعت الدومي
هذه حقبة “بالوكالة”، بـ “الوكالة” بكل تجلياتها وصورها، الحرب بالوكالة والاحتلال بالوكالة واختزال الأوطان وتقسيمها بالوكالة وتحريف الهوية بالوكالة وسرقة خيارات الشعوب ومقدراتها بالوكالة وتثقيفها أيضًا بالوكالة، وإني، تماشيًا مع مزاج الحقبة سوف أوكل إلي الأستاذ “فكري أباظة” إعادة كتابة الكثير من الكلام، ولربما أجمع حكاياته فيما بعد في كتابٍ أضع عليه اسمي دون إنفاق أدني جهد أو خسائر، هو كتاب بالوكالة علي كل حال!
والأستاذ “فكري أباظة” مفردة بشرية كانت في زمانها عالمًا قائمًا بذاته، محام ذائع الصيت، وأحد خطباء ثورة 1919 ومؤلف نشيدها، وسياسي محنك، ولاعب بالنادي الأهلي لبعض الوقت ثم رئيسًا شرفيًا له بعد ذلك، وسيناريست أحياناً، ومؤلف موسيقي حيناً، وكاتب ساخر أعفيَ من الكتابة تعقيبًا علي مقال له لدغ به نظام “جمال عبد الناصر” بقرار من الأخير شخصيًا، وبرلماني جسور قال عنه “مصطفي أمين” :
– لقد كان حزب “فكري أباظة”، الحزب الوطني، لا يزيد عدد أعضاؤه في البرلمان عن ثلاثة أو أربعة، ومع ذلك إذا تكلم أحسست أن وراءه أغلبية، وشعرت أنه لا يتكلم بلسان النواب الأربعة، وإنما بلسان مصر كلها!
شخصية ثرية لعبت دورًا يلمع كالسكين في فصل من فصول “مصر” الجميلة، وحكاياته ترجمة ميسرة له بأصابعه هو من السهل أن يكتشف القارئ أنه لم يكذب خلالها كغيره من المعاقين روحيًا ولم ينسب لنفسه بطولات وهمية بهدف زخرفة شخصيته في أذهان المتلقين، بل جعل من نفسه في الكثير منها هدفاً حلالاً للسخرية، كما سرد رائحة مصر المدنية والروح العامة للمصريين في العقود الأولي من القرن الماضي ببساطة شديدة تليق بأحاديث الأطفال، وهي بساطة مقصودة بطبيعة الحال، يقول عن يوم مولده:
{كان ذلك في نهاية القرن التاسع عشر، قرية صغيرة اسمها “كفر أبو شحاتة”، حيث تمت – بسلام – ولادة سيدة القرية ولكن بعد عناء عنيف بواسطة الداية “أم خضرة”، وحين التقطت الطفل الوليد من بطن أمه صاحت مستغيثة:
– يا لهوي! يا مصيبتي! الحقوني! الولد مش بني آدم! الولد عفريت!
كانت الداية “أم خضرة” معذورة، الشعر الكثيف يملأ وجه الطفل الوليد، حاجبان غزيران وعينان “مفعوصتان”، غابة في وجه. أو وجه في أدغال، أدغال ذات اليمين وذات اليسار، علي أن هذه كلها لم تكن المصيبة، ولكن المصيبة أن الطفل الوليد لا “ينونو” ولا يصرخ ولا يبكي!
واندلع الجزع والخوف في “الدوار”، وتوافدت من القري وفود المعزين لا المهنئين، “فاطمة أم خليل” تلدغ الطفل بدبوس أو بإبرة فلا يتوجع ولا يبكي، “سايمة أم درويش” تقرصه وتنشب في جسمه أظافرها الطويلة فلا يتوجع ولا يبكي، “فرحانة أم سلامة” تغرس في فخذه “سلاية” من جريد النخل ولا يتوجع ولا يبكي، يهرول الأطباء من “منيا القمح” و “الزقازيق” و “القاهرة” ويغرسون في جسمه “الحقن” فلا يتوجع ولا يبكي، وتصيح الداية “أم خضرة” قائلة:
– ألم أقل لكم، دا مش بني آدم، دا عفريت!!
وينمو الطفل ويترعرع ويكبر ويكبر وهو لا يعرف الوجيعة ولا البكاء من نهاية القرن التاسع عشر حتي سنة 1934، أب بعد 34 عامًا، حين وقع في حب مطربة ذات تاريخ وذات شهرة وذات جاذبية، وكان محاميًا ونائبًا، فبذل لها من دمه وشرايينه وإخلاصه وحبه، كل ما يملك من دم وشرايين وإخلاص وحب، فأنقذها من السجون والدمار المالي، وربح قضاياها ضد مليونير شاب.. ثم.. ثم كانت الفاجعة، بعد أن استنزفت كل خدماته واطمأنت علي حاضرها ومستقبلها هجرته..
هنا، هنا فقط. من نهاية القرن التاسع عشر إلي نهاية سنة 1934، بعد 34 عامًا، بكي الطفل لأول مرة، وذلك الطفل هو أنا، أنا “فكري أباظة” مؤلف أو مسجل هذه الحواديت}..
أرايت كيف استطاع أن يضحكك حيناً ويحزنك حيناً ويضعك في قلب القرية وثقافتها بكلمات شديدة البساطة؟
هو أيضًا سوف يضعك في قلب الدهشة من ذلك الطفل الذي ولد بينه وبين القرد شبه كبير حين يصير رجلاً أغضب الملك “فاروق الأول” أكثر من مرة، كما أصبح مرجعًا سياسيًا شديد الأهمية والوفرة قد اشتبك مع معظم صناع تاريخ مصر في عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي بعلاقات مثيرة تغلب علي معظمها الحميمية علي الرغم من اختلاف طرق النظر إلي الأمور!
ومثله مثل الكثير من المعاقين وذوي العاهات رأي أبوه أن يلحقه بالأزهر، عندما حكي ذلك الحدث التقط صورة مذهلة عن التحولات العقارية في مصر، وعن قيمة الجنيه المصري في ذلك الوقت، كما انتبه مبكرًا جدًا دون أن يقصد إلي ذلك التماهي بين مزاج الأزهر ومزاج الدولة العسكرية، يقول:
{كانت الأسرة تقيم في حي “شبرا” منذ 63 عامًا، في بيت صغير وسط 40 فداناً تملكها السيدة “هرتا” النمساوية، وكان رب الأسرة مستأجرًا لهذه الأربعين فداناً، فلما أرادت المالكة النمساوية “فرولاين هرتا” مغادرة مصر عرضت علي رب الأسرة المستأجر شراء الأربعين فداناً. فعرض أن يكون ثمن كل فدان 20 جنيه نابوليون، أي “بنتو”، أي ما يساوي 77 قرشًا للجنيه النابوليوني، وأصرت المالكة أن يكون 20 جنيها مصريًا، أي 100 قرش للجنيه، وأمام إصرار رب الأسرة علي الـ 77 قرشًا للجنيه باعت السيدة النمساوية الأطيان لآخر!
يا لسوء الحظ، أصبحت هذه الأطيان حي “شيكولاني” وما يجاوره وسعر المتر الواحد لا يقل عن 20 جنيهًا!!!
وهكذا كان الحظ السئ والحظوظ حظوظ..
كان رب الأسرة له – إذ ذاك – أولاد ثلاثة ذكور، أما نمرة 1 فألحق بمدرسة “النحاسين” الابتدائية، والثاني كذلك، أما الثالث فقد أصر الوالد علي أن يلتحق بالأزهر مثل والده، وكفاية الولد نمرة 1 والولد نمرة 2 بالمدارس المدنية!
والولد نمرة 3 كان علي صغر سنه – الرابعة – قبيح الوجه، شاذاً، شقيًا، حتي أن مالكة الأطيان السيدة “هرتا” كانت تقدم الهدايا لأخويه الكبيرين من الشيكولاتة والملبن والملبِّس، أما هو فكانت تقول:
– لا، لا، دي وِحِشْ! دي عفريت!!
ولم يكن هذا هو “التفريق الوجهي” الأوحد. ولا الاضطهاد الأوحد، بل كانت المعاملة المنزلية متباينة، فيه “تفريق عنصري” كما هو الحال تقريبًا في “جنوب أفريقيا” و “روديسيا” و “الولايات المتحدة” بالرغم من أنه لم يكن زنجيًا!!
وألبسوا الولد المضطهد نمرة 3 “كاكولا” وعمامة صغيرة و “مركوبًا” صغيرًا، وألحقه والده بكتاب من كتاتيب الأزهر اسمه “خان جعفر”، علي الأقدام يسير الولد الصغير ذو العمامة و “الكاكولا” مع والده كيلو مترات، علي الأقدام حتي “محطة العاصمة” ثم يأخذون عربة “سوارس تجرها خيول ثلاثة أو أكثر حتي “حي الأزهر”!
كان فطور الولد في الصباح “فول وطعمية”، والغداء “فول وطعمية وطرشي”، والجلوس طول النهار علي “البلاط” في جو خانق..
وأخذ أقاربه “المطربشون” من أولاد عمومته “ينكِّتون” عليه، ويهتفون “فضيلة الشيخ أهوه”، “الأستاذ أهوه”، ويتقاذفون عمامته الصغيرة ويركلونها بأرجلهم، ويجذبونه من قفطانه و”كاكولته” إلي أن أحس الاضطهاد خارج المنزل كما أحسه داخل المنزل، وأحس “مركب النقص”، وتكونت فيه عقدة نفسية فهرب إلي القرية واستنجد بوالدته بعد مرض عنيف من “الفول المدمس والطعمية” اليومية والبلاط، فتقرر الإفراج عنه وإخراجه من الأزهر وإلحاقه بالمدارس المدنية كأخويه، ويا ليته ظل “أزهريًا”!
كان ذلك الولد نمرة 3 هو صاحب الفضيلة الشيخ “فكري أباظة”!}
وإلي لقاء قريب مع الشيخ “فكري” في “مدرسة السعيدية”!
محمد رفعت الدومي
تعليقات
إرسال تعليق