غداً غداً

من قبل , كانوا عندما يتكلموا عن التغييرات التي ستنتج عن التقدم العلمي , يقولون : بعد مائة سنة سيكون كذا .. أو بعد 50 سنة أو علي الأقل : بعد 25 سنة
أما الآن فقد أصبح يقال : بعد عامين .. وفي العام القادم .. بل ويقال : في نهاية هذا العام , وبالأكثر : بعد أقل من 15 سنة ستختفي كذا ويحل محلها كذا ..
وهذا المقال اخترناه - ضمن ما اخترناه من قبل - في هذا الشأن .. فلنقرأ .
----

بترول العصر الحديث!

د. محمد الرميحي    الشرق الأوسط - لندن - 16-9-2017
إعلان
في آخر شهر يوليو (تموز) الماضي أعلنت الحكومة البريطانية على كل وسائل الإعلام أنها بحلول عام 2040 ( أي : بعد 13 عام فقط ) لن تسمح بسير أي مركبة في شوارع المملكة المتحدة تستخدم البترول أو الديزل. تزامن هذا الإعلان بمثله في الجمهورية الفرنسية. بعدها بأسابيع في أوائل شهر سبتمبر (أيلول) الحالي أعلنت الصين من خلال وزير الصناعة، وهي صاحبة الإنتاج الضخم في صناعة السيارات؛ إذ يقدر إنتاجها للسيارات بثلث الإنتاج العالمي، أنها لن تسمح أيضاً بسير سيارات في المستقبل تستخدم الطاقة الأحفورية (البترول والديزل)، لذلك رصدت ستة عشر مليار دولار لإنتاج السيارة الخضراء بدءاً من عام 2019.  ( أي : بعد عام و3 شهور . فقط ) ..

اللافت أن عصر النفط بدأ العد العكسي، ولكن ظهر بترول آخر في العالم، هو «البترول الرقمي» أو صناعة الرقمنة، فالشركات العاملة في المجال الرقمي (جمع البيانات وتسويقها) تكسب اليوم أكثر مما تكسبه مجموع شركات النفط مجتمعة، وإذا كان التوزيع الجغرافي للنفط ومحدودية احتياطياته النسبية في العالم، من جملة العوامل التي أسهمت في رفع قيمته في بحر الزمن الماضي، فإن من طبيعة الأمور أن احتكار المجال الرقمي في العالم الذي يدر مليارات الدولارات ويسيطر على الأجندة العالمية، هو الذي سوف يسود ويقرر مستقبل البشرية، أي تقدم العلم الحديث واحتكار وسائله، هو قوة الشعوب ونقصه هو ضعفها، الفرق أن البترول يُبحث عنه، أما الثروة الجديدة فإننا جميعاً في هذا المعمورة نسهم، من حيث ندري أو لا ندري، برفد شركاتها بملايين الدولارات يومياً، وأيضاً باستطاعتنا التشارك فيها، فمن جهة نقدم لها طوعاً معلومات تقوم هي ببيعها وتسويقها، ومن جهة أخرى يستطيع أي شعب أن يحصل على عائد منها بتبنيه مسار العلم الحديث. لقد غيرت الشبكة العنكبوتية نمط حياة الإنسان، وما زالت تغيره كل يوم، سواء في الأسرة أو العمل أو طبيعة إنتاج المعرفة أو طريقة التسوق، بل وحتى التأثير في نتائج الانتخابات في الدول التي تقوم بذلك دورياً أو في تحديد العلاقات الاجتماعية.
هذا الصيف استخدمت في إحدى الدول الأوروبية خدمات شركات توصيل المشتريات، كان الأمر سهلاً وبسيطاً وممتعاً في وقت واحد بالنسبة لي، تحتاج إلى كتاب أو سلعة، وما هي إلا دقائق حتى تسجل ما ترغب أن تحصل عليه، وتعرف متى سوف تصل تلك البضاعة إلى عنوانك. كان الاستخدام لفترة محدودة، إلا أن المفاجأة أن (الاستعلام أو العلاقات العامة الرقمية) في تلك الشركة، ما لبث أن كتب لي شيئاً من هذا القبيل على عنواني الإلكتروني الذي زودت الشركة به (بناء على دراستنا لطلباتك السابقة، فإننا نقترح البضاعة الفلانية التي قد تعجبك)! ثم تأتيك قائمة للاختيار منها، هذا الأمر لا يصل مرة واحدة، بل يتكرر مرات كثيرة، يسميه المشتغلون بالصناعة (خلق الطلب). أنظمة التشغيل الآلي قد أخذت تكسب أهمية زائدة في الحياة الاقتصادية، وكلما زودناها بمعلومات شخصية عنا، عرفت اهتماماتنا وتوقعت حاجاتنا ولبت شهوتنا في التسوق. اقتصاد الرقميات جعل من شركات عملاقة تتنازل عن عرشها، بما فيها شركات البترول وغيرها من الشركات العالمية الضخمة، فأصبحت تلك الشركات الرقمية تتميز باحتكار عالمي لمصدر مالي تتدفق منه الأرباح بشكل متزايد، وفي الوقت نفسه تدفع البشر إلى البوح بما لديهم من معلومات شخصية، حتى أصبح هناك فزع مما يعرف بـ«التعري الرقمي»، أي لم يعد هناك مستور للحياة العامة أو الخاصة للأشخاص، أينما كانوا، فما يكتب على صفحات الإنترنت يبقى هناك للتداول العام، وأي شخص في الغالب تريد أن تعرف عنه معلومات اليوم عليك فقط بـ«غوغلته»، أي الدخول على موقع العم «غوغل» وطرح السؤال، وفي ثوان يظهر لك تاريخه الذي سلمه بيده إلى تلك الشركة العملاقة، أو سلمه أصدقاؤه ومعارفه، أو الشركة التي يعمل بها. لدى تلك الشركات التي يبلغ دخلها أضخم دخل لشركة عرفت على وجه البسيطة، معلومات لا تعرف اسمك فقط، بل وكنيتك وأسماء أبنائك وبناتك! اليوم بفضل تلك التقنية (البديلة للنفط من حيث الدخل) تعتبر «غوغل» أعلى دخل لشركة في العالم ويتضاعف دخلها كل بضعة أشهر. يسير العالم إلى الاستغناء عن النفط، بابتكار بدائل في الطاقة وفي التقنية، ولكن البدائل المعتمدة على «العلم» أصبحت هي مصدر الدخل، خصوصاً العلم الرقمي، وكلما تقدمت الشعوب في الحصول على «العلم» ملكت الكثير من القوة، على رأسها القوة الاقتصادية. يسير العالم في الوقت نفسه إلى أن يصبح سجيناً للشبكة العالمية الرقمية، ربما إلى حد الإدمان! منذ سنوات قليلة فقط كان السائح إن دخل فندقاً يسأل: هل لديكم (إنترنت) ليتأكد أنه متصل بالعالم، اليوم الفندق الخالي من تلك الشبكة عليه حكماً أن يغلق أبوابه بسبب انصراف الزبائن عنه! لا الاقتصادي ولا الإعلامي ولا السياسي ولا الأحزاب ولا الدول قادرة اليوم عن الاستغناء عن تلك الشبكة، أو التواصل مع الشركات التي تحتكر المعلومات وتجلبها طيعة بين يدي المستخدم. العالم أمام سلطان جديد هو (سلطان البيانات والمعلومات) وقد أصبحت المعلومات والبيانات أهم في بعض الأوقات من الجيوش، أو الأسلحة الفتاكة. حاول أن تطلق إشاعة على منصات التدوين الأصغر «تويتر» سوف تجد أنها سرعان ما التقطت ومُرِّرت على عشرات بل آلاف من المتابعين، ثم أصبحت عند البعض حقيقة لا يدخلها الباطل، بل تُركب عليها حكايات أخرى محسنة وقاتلة في الوقت نفسه. وسائل الإعلام التقليدية (الإذاعة والتلفزيون والصحافة) أخذت تستخدم تلك الوسائل الجديدة ( الفيسبوك , تويتر )  وتعتمد عليها، بدلاً من العكس، حتى غدت تترك لها مكاناً بارزاً في برامجها وصفحاتها.
منظر طبيعي أن ترى عائلة مكونة من أربعة أشخاص في مقهى أو حافلة أو استراحة مطار، وكل منهم منهمك في مطالعة جهازه الرقمي، ويتواصل مع آخرين بعيدين عنه، في الوقت الذي لا يتبادل مع من قربه كلمة واحدة. سلطة البيانات والمعلومات تترك بصماتها على مجمل حياتنا، سواء كنا في بنغلاديش أو في كندا، وتتسلل إلى خصوصياتنا، وتحدد قواعد المسيرة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لنا، وتتحكم محركات البحث في العلوم والمنجزات العلمية من جهة، وفي توسيع دائرة الجهل والخرافة من جهة أخرى، في تاريخ البشرية لم تشاهد مطلقاً «قوة تحكم كونية» كما هي مثلاً كبرى شركات محركات البحث التي يستخدمها العالم اليوم. محركات البحث والإنترنت ألقت حدوداً بين الدول، وعطلت القانون، وغيرت طرق التعامل الاقتصادي، وأصبح الإنسان يمكن له أن يحصل على أكبر قدر من المعلومات وفي الوقت نفسه أكبر قدر من التضليل! ولكن في كل الحالات هناك اقتصاد ينمو بسرعة فائقة وبتوسع منقطع النظير، بعيداً عما عرفه الإنسان من مصادر الثروة التقليدية في تاريخه، إنها ثروة العلم والمعلومات، التي سوف تصبح قريباً جداً أهم مصادر ثروة الأمم وأكثر الأسلحة فتكاً بالغافلين!
آخر الكلام:
تخلق وسائل التواصل الاجتماعي المرقمنة شيئاً من «النرجسية الرقمية» تقوض سلطة المعلمين والآباء، وتخلق أكبر قدر من «الوعي الزائف» لدى شعوب نُزعت مناعتها الثقافية.

تعليقات