من ثنايا وخبايا التاريخ / حسني الزعيم
نبدأ القول بأن “الزعيم” كانت رتبته العسكرية ، وكذلك كان اسم عائلته هو عائلة الزعيم ، ومن هنا جاءت هذه التسمية الموسيقية النادرة .
الزعيم حسني الزعيم 1897- 1952 هو قائد و مفجر و صاحب أول انقلاب عسكري ناجح كما أنه كان منجز الوحدة المصرية السورية الأولى في العصر الحديث ١٩٤٩
وهي وحدة طويت أوراقها وطمست تماما حتى يكون عبد الناصر أول موحد للقطرين اللذين اتحدا كثيرا على مدى التاريخ ،
وعلى الرغم من أن انقلابه لم يعش إلا أربعة أشهر ونصف فقط فيما بين 30 مارس 1949 و14 أغسطس 1949 فإنه كان انقلابا ناجحا إذا ما قورن بانقلاب رشيد عالي الكيلاني في العراق في 1941 أو انقلاب عبد الله بن الوزير في اليمن 1948. ومن هنا فإن التاريخ لا يزال يعتبره أول الانقلابات العسكرية التي استخرجت لها شهادة ميلاد و شهادة تطعيمات على حين ان الانقلابين اللذين سبقاه في العراق واليمن ماتا سريعا فكان من السهل تمزيق شهادة ميلادهما ، لكن المذهل في الأمر أن حسني الزعيم قد عاش في فترة انقلابه القصيرة دورة الحياة الكاملة للانقلاب العسكري من الهلال إلى المحاق وهي الدورة التي استغرقت في مصر ٥٩ عاما كاملة .
ومن الطريف أن الزعيم حسني الزعيم جمع بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزارة في أول عهده ، وإن كان لم يُشكل الوزارة برياسته إلا بعد أكثر من أسبوعين من الانقلاب في 17 أبريل 1949 ثم إنه كلّف بها الدكتور محسن البرازي في 26 يونيو 1949 حين أعلن عن أنه فاز برياسة الجمهورية بانتخاب من الانتخابات المطلقة التي عرفها العرب بعد هذا ونسبوها إلى الرئيس عبد الناصر بينما كان الزعيم هو المبدع . وبقي البرازي رئيسا للوزراء معه حتى أُعدم هذان الرجلان معا حين قام سامي الحناوي بالانقلاب عليهما في 14 أغسطس 1949.
ولد الزعيم حسني الزعيم في حلب 1897 ومن الطريف أن قائد الانقلاب عليه وهو سامي الحناوي ولد في العام التالي 1898 وقد عاش كلاهما 52 عاما ذلك أن سامي الحناوي قتل عام 1950 أي في العام التالي لإعدام الزعيم حسني الزعيم 1949.
بدأ الزعيم حسني الزعيم انقلابه جامعا السلطات كلها في يده، وأجرى انتخابات “انقلابية” حققت له أن يصور نفسه بالباطل رئيسا منتخبا في 26 يونيو 1949.
عاش الزعيم قبل وصوله إلى مرحلة الانقلاب حياة سياسية حافلة بالحركية الفكرية، فوالده كان مُفتيا في الجيش العثماني (كان والد هاشم الأتاسي مفتي حمص ووالد سعد الله الجابري مفتي حلب) وكذلك كان شقيقه صلاح الدين من علماء الدين، وقد تخرج في الأكاديمية العسكرية في إسطنبول وتمرد على العثمانيين في 1917 وانضم لما كان يُسمى ب “الثورة العربية الكبرى” ، وبعد أن انتهى عهد المملكة السورية في 1920 انضوى 1921في العمل في القوات الفرنسية التي مثلت قوة الانتداب الفرنسي على سوريا ، وظل ولاؤه لفرنسا وإن كان قد قاتل في صفوف حكومة فيشي التي يعتبرها الفرنسيون أنفسهم حكومة عميلة للنازي ، ولهذا فإنه حُكم عليه بالسجن عشر سنوات مع الأشغال الشاقة شأنه شان كل المقاتلين الذين اعتبرتهم فرنسا خونة وعاقبتهم وأعدمت بعضهم ، وكان الزعيم قد وصل إلى رتبة عقيد فجُرّد من رتبته العسكرية.
وفي 1944 أصدر الرئيس “الجديد وقتها ” شكري القوتلي عفوا رئاسيا عن الضباط مع السماح بعودتهم إلى الجيش برتبهم السابقة ، وهكذا عاد الزعيم حسني الزعيم إلى الجيش برتبته فيما يُشبه عودة الرئيس السادات إلى الجيش بأقدميته في مطلع 1950 قبل أن تتولى وزارة الوفد الحكم فيما يُشبه عودة الرئيس أحمد حسن البكر إلى الجيش العراقي برتبته في 1957 . وعمل الزعيم حسني الزعيم رئيسا للمحكمة العسكرية في دير الزور ثم انتقل إلى دمشق مديرا لقوى الأمن الداخلي.
الرئيس القوتلي (بلا وعي ) يمهد للانقلاب الطريق
بعد هزيمة 1948 وفي سبتمبر 1948 أقال الرئيس القوتلي عبد الله عطفة قائد الجيش وأحل الزعيم حسني الزعيم محله مع ترقيته لرتبة زعيم على نحو ما هو معتاد في تاريخ قادة الانقلاب العسكريين الذين يحصلون على الثقة و الترقيات والمناصب خلافا لكل الحسابات. و من الجدير بالذكر أن رتبة زعيم في ذلك الوقت هي نفسها رتبة الكولونيل بعد اختيار اللفظ العربي المقابل بما يشبه الترجمة. وفيما بعد وعند توحيد الرتب العسكرية العربية أصبحت رتبة الزعيم هي رتبة “العميد”.
لم يكن اختيار الرئيس القوتلي للرئيس الزعيم بدون مبررات فقد كان ذكيا مقنعا منجزا مجيدا للتقرب حريصا على الاستحواذ على الثقة وكان قد حقق إنجازات عسكرية في حرب فلسطين كما أنه أسهم في حل الاضطرابات السياسية في البلاد (1948 ـ 1949) ومع هذا فقد كانت عصبيته ظاهرة، وكان تقلبه ملحوظا، وكانت روحه المغامرة تفصح عن نفسها كما كانت تصرفاته المقامرة أظهر من أن تستتر، وفضلا عن هذا فإنه كان قليل الثبات سريع الانفعال سهل الاستثارة. لهذا كله فلم يكن الارتياب في إقدامه على القيام بانقلاب عسكري بعيدا عن تفكير أي مثقف مُنصف للحقيقة فقد كان قد بدأ يُمارس أدوارا سياسية بوضوح قبل أن يقود الانقلاب بأكثر من تسعة شهور.
ففي ديسمبر 1948 استقالت حكومة جميل مردم بك واعتذر الرئيس هاشم الأتاسي عن تشكيل الوزارة لكن الزعيم حسني الزعيم نشر الجيش في العاصمة دون إذن أو أمر ، ومن ثم فإن الرئيس القوتلي في ساعة تالية من نفس اليوم أعلن حالة الطوارئ والأحكام العسكرية وكأنه أصبح أمام الأمر الواقع، وبدأ الزعيم حسني الزعيم في اليوم التالي جولة لا يقوم بها إلا سياسي أو انقلابي ، فقد بدأ يزور المواقع العسكرية في المناطق السودانية المختلفة وبعد عشرة أيام شكل الرئيس خالد العظم حكومته، لكنه كان من المعروف أنه في حالة عداء مع الزعيم حسني الزعيم وأصبح الموقف مُتّسما بالتربص بين الرجلين وكأن الرئيس القوتلي بطيبة المدنيين ظن أن مثل هذا سيصُبّ في مصلحة سوريا .
ثم جاء مبرر قوي للانقلاب في قصة المناقشة البرلمانية لحرب 1948 ، حيث لم يتحمل العسكريون مناقشة الأمور العسكرية بوضوح في مجلس النواب، وهكذا اتخذوا من هذه المناقشة سببا لتجميع أنفسهم في كتلة انقلابية ضمت 14 ضابطا ، كان منهم الزعيم حسني الزعيم بالطبع وكان منهم خلفه سامي الحناوي ، وقد اعتمدت خطة انقلاب الزعيم في 30 مارس 1949 على قطع كافة الاتصالات بين سوريا والعالم الخارجي، وتطويق القصر الرئاسي ومجلس النواب والوزارات الرئيسية ومقرات الشرطة والجندرمة، وتولى أكرم الحوراني إعداد بيان الانقلاب الذي أذيع في الإذاعة السورية.
ومن الجدير بالذكر أن جميع المواقع استسلمت دون إطلاق رصاصة واحدة، واعتقل الرئيس القوتلي ورئيس الوزراء ونُقلا إلى مستشفى المزة العسكري ولم يُعلن اسم قائد الانقلاب اكتفاء بالإشارة إلى القيادة الجماعية .
وفي الصباح التقى قائد الجيش حسني الزعيم بالسياسي القدير فارس الخوري رئيس مجلس النواب وعدد من الأعضاء وأسفر اللقاء عن السماح للخوري بزيارة رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء كي يحصل من كل منهما على الاستقالة ليكون انتقال السلطة شرعيا. ومما يذكر لفارس الخوري أنه قال للزعيم : سامحك الله ، لقد فتحت بابا يصعب على التاريخ إغلاقه.
وفي اليوم الثالث أي أول أبريل 1949 انعقد البرلمان في فندق الشرق وبحضور سبعين نائبا ففوضوا السلطة الشرعية للزعيم، دون معارضة وذلك خوفا منهم من انقسام الجيش واحتمال الحرب الأهلية.. وفي 2 أبريل أعلن الزعيم الإجراءات الانقلابية المشهورة والتقليدية : حل البرلمان الذي فوضه بالأمس ، وتعطيل الدستور، و تفويض نفسه صلاحيات التشريع. وفي 7 أبريل أعلن الزعيم استقالة الرئيس ، وفي 8 أبريل نشرت الصحف نص استقالة الرئيس بخط يده وبدأت تذيع أن الزعامات السورية بدأت في الاعتراف بالانقلاب : محمد كرد علي رئيس المجمع اللغوي وهاشم الأتاسي رئيس الجمهورية الأسبق ، وميشيل عفلق زعيم البعث ، وإحسان الجابري رئيس الحزب الوطني السوري.
في 17 أبريل كانت العراق وتركيا أول دولتين تعترفان بالانقلاب ، وفي 21 أبريل اعترفت مصر والسعودية ولبنان رسميا ، وفي 27 أبريل اعترفت الدول الغربية الثلاث أمريكا وبريطانيا وفرنسا بيد أن الأردن ظل متحفظا وتبعته لبنان في التحفظ رغم اعترافها بالانقلاب.
استُقبل الزعيم في بداية انقلابه بأمل كبير في أن تنتهي أزمات سوريا على يديه وبخاصة أن نتيجة حرب 1948 كانت قد هدت من عزيمة الشعب العربي وطموحه لكن الزعيم حسني الزعيم بدد الثقة التي حازها بل جلب العداء والمواجهة مع كثير من القوى السياسية والشعبية.
من غير المعروف على نطاق واسع أن الزعيم حسني الزعيم بادر بأن أعلن الوحدة مع مصر وسافر لهذا الغرض إلى القاهرة والتقى مع الملك فاروق وأصبح الملك فاروق رئيسا لدولة الوحدة وأصبح هو نائبا لرئيس دولة الوحدة ، وعلى حين تورد المذكرات التي تتحدث عن عهد الملك فاروق تفصيلات هذا الاتفاق فإن كل أدبيات السياسة في عهد الثورة تقفز عليها أو تتخطاها عن عمد لتُفسح المجال أمام بطل الوحدة جمال عبد الناصر مع أن ما حدث في 1958 لم يكن إلا تكرارا أمينا لما حدث في 1949 لكن الزعيم لسوء حظه فقد منصبه بسرعة.
تسببت زيارة الزعيم للملك فاروق وإعلان الوحدة بين القطرين في توتير علاقة الرئيس الزعيم بالعراق وتوتر علاقته بحزب الشعب بصفة خاصة وسرعان ما تدهورت علاقته بالعراق، حتى إن نوري السعيد أعلن أنه لا يعترف بالاستفتاء الذي أجراه الزعيم على توليه منصب الرئاسة.
وعلى صعيد آخر فقد ظهر الرئيس الزعيم في البداية معاديا للرئيس رياض الصلح وقريبا من القوميين السوريين وقد اجتمع بهم بعد توليه السلطة وإغلاق الحدود مع لبنان .
كانت معالجة الرئيس الزعيم للمسائل الاقتصادية محاولة منه لإثبات جدوى الحسم وضرورته ، فقد أسس مكتبا للشكاوى والمظالم ومحكمة عاجلة معه ، وأمر على سبيل المثال بجلد أصحاب المخازن الذين أدينوا ببيع خبز فاسد أمام مخابزهم ، و سرعان ما دخل في مشروعات اقتصادية كثيرة منها خط أنابيب البترول المعروف باسم التابلاين. كما بدأ سياسات الإصلاح الزراعي المعروفة في المقترحات الأمريكية ، واندفع إلى تأميم الأوقاف، وكان سباقا إلى توحيد وعاء الضريبة ورفع ضرائب الدخل والأرباح الصافية.
نقل الزعيم تبعية الجندرمة من وزارة الداخلية إلى وزارة الدفاع ورفع عدد الجند المتطوعين من خمسة آلاف إلى سبعة وعشرين ألفا وكون فرقة من المسلمين اليوغوسلاف لحمايته.
و سرعان ما نجح الزعيم في كثير من خطوات الإصلاح الإداري وفي إقرار قانون الأحوال الشخصية وفي تقليص عدد النواب إلى سبعين وفي تحديث نظام الجامعة السورية وفي إنشاء محكمة دستورية عليا لمراقبة أعمال مجلس النواب والوزارة. وإلى الزعيم يعود الفضل في إنشاء نظام المحافظين الذين يجمعون بين السلطات المدنية والعسكرية وهو ما عجزت مصر عن تطبيقه حين قلدته بعد أكثر من عشر سنوات. و يذكر له انه أول زعيم عربي منح المرأة حق التصويت سابقا بهذا ما أنجزته مصر بأكثر من سبع سنوات بل سابقا بعض الديموقراطيات الغربية. لكن الدوائر الغربية لا تهتم في كتابتها بمثل هذا الإنجاز قدر اهتمامها بأن تنظرإلى الزعيم حسني الزعيم نظرة شكلانية من حيث إنه أنهى تقاليد كانت مميزة للشرق من قبيل لبس الطربوش وهو ما كانت ثورة 1952 حريصة على تقليده فيه منذ أيامها الأولى وهو شعور العسكر تجاه أي غطاء للرأس غير الكاب. كما أنه جاهر بضرورة إلغاء النقاب لكنه لم يُصدر قانونا بهذا. أما الدوائر الغربية اليسارية فتذكر له أنه خرج بالحكم من الطبقة الارستقراطية السورية بكل جاهها وكفاءتها، لتتداوله الطبقات الأخرى بصرف النظر عن الكفاية والأصل ، وقد كان الزعيم هو الذي ألغى الألقاب .
كان الزعيم بالإضافة إلى هذا مولعا بالمظاهر الإمبراطورية من قبل عصا المارشالية التي ظل يظهر بها في كل أنشطته، وقد وضعت هذه العصا فيما بعد في المتحف الحربي السوري.
لكن المعضلة الكبرى التي واجهت الزعيم حسني الزعيم كانت هي مشكلة التسليح ، وهي ذات المشكلة التي واجهت ثورة 1952 فيما بعد ، فقد كانت الدول الغربية تتذرع في رفض ومنع تسليح سوريا بقرار لأمم المتحدة بحظر إرسال الأسلحة الذي فرض خلال حرب 1948 لكن الزعيم كان أطول باعا وأحسن حظا من الثورة المصرية ، وقد لجأ الزعيم إلى الضغط من خلال شركة النفط الإيرانية الإنجليزية فرُفض طلبه وبعد لأي وافقت وزارة الخارجية البريطانية وقدمت له مائة ألف جنيه إسترليني كسُلفة على عوائد النفط لاستخدامها في شراء أسلحة بريطانية ، ووقّع الزعيم حسني الزعيم على هذا الاتفاق في 2 يونيو ثم نجحت مساعيه الموازية مع فرنسا أيضا ، فعقد اتفاقا للتسليح مع فرنسا حصل بموجبه على أسلحة ضمت 250 مدفعا رشاشا ومدافع هاون وعشرة آلاف بندقية، كما أوفد مجموعة من العسكريين للتدريب في فرنسا ، وكان الزعيم حسني الزعيم من الذكاء بحيث لجأ إلى محور ثالث فاستحضر بعثة تركية للتدريب ، لكن السياسيين تمكنوا من أن يهيجوا الضباط عليه بسبب ذكرى استيلاء تركيا على لواء إسكندرون .
كان موقف الزعيم حسني الزعيم من المُعسكرين الدوليين صورة مُبكرة لموقف ثورة 23 يوليو وجمال عبد الناصر في مصر. فقد كان الزعيم ميالا إلى الغرب وبخاصة أنه درس في فرنسا بل وخدم في الجيش الفرنسي ، كما أنه كان يتّخذ من الملك فاروق ملك مصر قدوة له، وهكذا فإنه مع كل ما قدمه له الاتحاد السوفييتي والمُعسكر الشرقي كان يُعلن أنه ضد هذا المُعسكر، على الرغم من إيمانه بالعدالة الاجتماعية وسعيه إلى تحقيقها.
وكان الرئيس الزعيم في بداية عهده قد اعتقل ألفين من الشيوعيين كي يحصل على الدعم الأمريكي والغربي وهو ما حدث بالفعل ، وتمادى الزعيم في الحديث عن حربه على الشيوعية.
موقفه الكاشف من الكيان الصهيوني
ونأتي إلى موقفه من الكيان الصهيوني وهو موقف كاشف ، فمع أن الشائع أن محسن البرازي رئيس الوزراء هو الذي بدأ التباحث مع الإسرائيليين فإن الزعيم حسني الزعيم كان ميالا بشدة إلى الخلاص من حالة الحرب مع إسرائيل وفي عهده وقّعت سوريا اتفاقات الهدنة في 29 يوليو 1949 وكانت هي آخر الدول العربية الأربعة الموقعة على اتفاقيات الهدنة ، وتقول بعض المصادر إنه عرض على بن جوريون الاعتراف بإسرائيل وتبادل السفارات واستيعاب وتجنيس 200 ألف من الفلسطينيين مقابل بعض التنازلات عن المياه في بحيرة طبرية.
لكن مصادر أخرى تروي عن وثائق دبلوماسية أنه اشترط على السفير الأمريكي في دمشق ستيفن ميد (حسب رواية الأخير في مُذكراته) أن تُقدم له أمريكا “الضمان بألاّ يسقط” وقد روى السفيرستيفن ميد نفسه إن أمريكا فعلت العكس وجعلت الزعيم يوقع الهدنة ويخسر حب السوريين ويخسر الجبهة الداخلية ويسقط بل وتُساعد على سقوطه.
ومع هذا الدرس الواضح فإن أحدا لم يتعلم من تجربة الزعيم حسني الزعيم بالقدر الكافي ولا بأي قدر .
الديكتاورية تعلن عن نفسها
أما ديكتاتورية الزعيم فتجلت بوضوح في إغلاق الصحف والمجلات (54 في دمشق وحدها) في مقابل السماح بثماني فقط، ومنعت المظاهرات دون نص على منعها وحُظرت السياسة على الطلاب كما حُظر الانتماء الحزبي على موظفي القطاع العام.
من الطريف أن الزعيم حسني الزعيم كان كرديا وكذلك رئيس وزرائه محسن البرازي وقد جعل تشكيل الوحدات الرئيسية في حاميات المدن من الضباط الشراكة أو الأكراد وأبعد القيادات العربية إلى الجبهة، وبهذا فإنه سرعان ما فقد ولاء الدروز الذين كانوا يفضلون توثيق العلاقة مع الأردن بدلا من توثيقها مع مصر والسعودية ولهذا السبب فقد اعتذر الأمير عادل أرسلان عن قبول منصب رئاسة الوزارة. وعلى الرغم من ذلك فإن الزعيم أعلن عن إلغاء المحاصصة الطائفية التي كان معمولا بها في النظام الانتخابي (1947).
بدأ الزعماء ينفضّون من حول الرئيس الزعيم بسرعة غير معهودة ، فاستقال فيضي الاتاسي زعيم حزب الشعب من الحكومة بعد ثلاث أيام من تشكيلها، وانتقد ميشيل عفلق القيود على الصحافة والحريات فسجنه الزعيم حسني الزعيم وسجن معه من زعماء حزب الشعب ناظم القدسي (رئيس الجمهورية فيما بعد) ورشدي الكيخيا .
بالإضافة إلى هذا ، فقد كان الحزب الوطني في عداء طبيعي مع الزعيم ، لأنه انقلب عليه وعلى زعيمه الرئيس القوتلي. وكذلك كان الشيوعيون الذين اعتقل ألفين منهم.
ومن الطريف أن الزعيم حسني الزعيم فقد علاقته أيضا بمن كتب له بيان الانقلاب وهو أكرم الحوراني ، بسبب تحالف الزعيم مع البرازي حيث يمثل أفراد عائلته الأعداء التقليديين للحوراني في حماة.
ومن ناحية أخرى أهم بكثير ، فقد تدهورت إلى أقصى حد علاقته بالحزب القومي الاجتماعي نتيجة لموقفه المخزي من تسليم أنطون سعادة غدرا إلى لبنان.
و بالإضافة لهذا كله ، فإن التحدي الحقيقي الذي بدأ الزعيم يواجهه (من وجهة نظره هو نفسه ) تمثل في ضرورة التخلص من وجود بعض ضباط الجيش المؤثرين في العاصمة دمشق، فأبعد عدنان المالكي إلى فرنسا في دورة تدريبية وعين أديب الشيشكلي ملحقا عسكريا في السعودية، وسرّح محمد الأطرش و15 آخرين في أعقاب قضية أنطون سعادة، وبدأت علاقته تتوتر بالضباط، كما بدأ الحديث عن اكتشاف محاولات لاغتياله.
جاءت نهاية الزعيم حسني الزعيم على يد سامي الحناوي ، وكما كان شكري القوتلي هو الذي صعّد الزعيم حسني الزعيم ورقّاه فقد كان الزعيم حسني الزعيم هو الذي صعّد سامي الحناوي ورقّاه فمنحه رتبة عقيد وسلمه قيادة اللواء الأول في الجيش، وهو اللواء الذي يعتمد عليه رئيس الجمهورية وقد أتمّ الحناوي الانقلاب بثلاث فرق من الجيش واعتقل الزعيم واجتمع الحناوي مع خمسين من الساسة للتباحث في المرحلة الانتقالية ، وفي مقابل ما كان من حديث الزعيم حسني الزعيم عن أن الفساد المالي للقوتلي كان هو السبب في الانقلاب ، فإن الحناوي لخص أسباب الانقلاب على الزعيم فيما سماه تبديده للثروة العامة وقمع الشعب وازدراء القانون والسياسة الخارجية غير المسئولة.. وقد عقدت للزعيم جلسة محاكمة عسكرية عاجلة أمام المجلس الأعلى للحرب وأدين بتهمة الخيانة العظمى وأُعدم هو ورئيس الوزراء في اليوم نفسه. وهناك رواية شائعة تروي أنه قُتل بمجرد دخول الانقلابيين إلى القصر الجمهوري ، وأن ما روي عن عقد المجلس العسكري والمحاكمة ليس إلا تلفيقا لاحقا ، بل إن بعض الروايات تذكر اسمي ضابطين قوميين كُلّفا باعتقاله فقتلاه مباشرة ، وفي كل الأحوال فقد استقرت الروايات على تفضيل القول بأن المحرك الأول للانقلاب على الزعيم حسني الزعيم وإعدامه كان هو غدره بأنطون سعادة وتسليمه للبنان حيث أُعدم.
ومن الجدير بالذكر أن حكومة الانقلاب أخفت مكان دفن جثة الزعيم حسني الزعيم إلى أن عُثر عليها بالصُدفة في يناير 1950 مدفونة بثياب النوم التي اعتقل بها، في تابوت خشبي تحت كومة حجارة قرب نهر الأعرج في دمشق فنُقلت الجثة إلى مقبرة الدحداح ، وعلى حين لم تُخلد الدولة السورية اسمه بأية وسيلة فقد أقرّت احتفاظ أرملته وابنته بمنزله الذي كان قد امتلكه وهو قائد للجيش كما وافقت على تخصيص معاش تقاعدي لهما. وعلى حين ثأر محمد البرازي لابن عمه محسن البرازي رئيس الوزراء فقتل سامي الحناوي في بيروت في أكتوبر 1950، فإن أحدا لم يثأر لمقتل الزعيم حسني الزعيم الذي يقال إنه قُتل ثأرا لأنطون سعادة.
ومن الطريف أن الاعتراف بانقلاب سامي الحناوي تم بأسرع من الاعتراف بانقلاب الزعيم حسني الزعيم وقد لوحظ أن السفارة البريطانية أبدت سعادتها بالانقلاب، وأن إسبانيا كانت أول دولة اعترفت بانقلاب الحناوي ، وأن الأردن ولبنان سارعتا بالتهنئة، كما نقل عن نوري السعيد رئيس وزراء العراق تعبيره الصريح القائل بأن الزعيم لقي المصير الطبيعي لأي ثورة لا تستند على أي أساس.
مصر تعلن الحداد
في مقابل هذا فإن مصر الملكية أعلنت الحداد على الزعيم حسني الزعيم لمدة ثلاثة أيام! وربما كان هذا الموقف مما حُسب ضد الملك فاروق في التقييمات الغربية. أما فرنسا فلم تُخف اتهامها لبريطانيا بالمشاركة في الانقلاب على حسني الزعيم.
وعلى الرغم من هذا فقد بقي الزعيم حسني الزعيم بمثابة المثل الأعلى و الأسمى و الملهم (غير المعلن صراحة ) لجمال عبد الناصر وثورة يوليو 1952 في مصر ، ولعبد الكريم قاسم وثورة 14 يوليو 1958 في العراق ، ولجعفر نميري وثورة 25 مايو في السودان ، وللعسكريين في اليمن الجنوبي في انقلاباتهم المتكررة، وإلى حد ما لمعمر القذافي في الفاتح من سبتمبر 1969الذي كان متشبعا بالصورة المصرية على حساب الأصل السورى وإن لم يخل الأمر من تبعية تكتيكية كاملة لهذا النمط الزعيمي المطور للميكافيلية .
تولى الصحفي السوري الأستاذ نذير فنصة مهمة الدفاع عن عديله الزعيم حسني الزعيم وقد أصدر كتابه عن فترة حكم الزعيم بعنوان “أيام حسني الزعيم: 137 يوما هزّت سورية” (1983) وقد صدرت طبعة ثانية من هذه المُذكرات عن مؤسسة النوري للطباعة والنشر والتوزيع.
ومن الجدير بالذكر أن الأستاذ نذير فنصة كان أحد شقيقين عملا بالصحافة والآخر الأستاذ بشير، وقد كان رئيسا لتحرير جريدة “ألف باء” وهي جريدة دمشقية واسعة الانتشار وقد صرّح فنصة في هذا الكتاب بأن حسني الزعيم كان مُغامرا وأن الرئيس شكري القوتلي كانت له تحفّظات كثيرة حول تقلّباته وسُمعته كمُناصر ومُقامر. وقد أكّد فنصة ما كان شائعا من مُشاركة أكرم الحوراني في انقلاب الزعيم بكل جُهده.
ويُقدّم الأستاذ نذير فنصة في هذا الكتاب تفصيلات عن زيارة الزعيم لمصر في 22 أبريل 1949 واجتماعه بالملك فاروق (اجتماع أنشاص التاريخي).
ويُشير الأستاذ نذير فنصة في هذا الكتاب إلى تحذير إبراهيم الحسيني رئيس الشُعبة الثانية وقائد الشرطة العسكرية في الجيش السوري لأنطون سعادة من أن الزعيم حسني الزعيم كان ينوي تسليمه للسلطات اللبنانية، كما يذكر أنه هو نفسه (أي فنصة) حصل من الزعيم حسني الزعيم على وعود كاذبة فيما يتعلّقُ بعدم تسليم أنطون سعادة للسلطات اللبنانية وهو ما دعا الأستاذ أحمد أصفهاني في مقال له عن مذكّرات الأستاذ فنصة إلى أن يتساءل: لماذا لم يُحذّر فنصة أنطون سعادة بنفسه ؟ ، أو يُحذّر بعض المسئولين القوميين الذين يعرفهم؟ ولماذا لم ينتبه هؤلاء القوميون السوريون إلى نية الغدر مع أن الأمر فيما يبدو كان شائعا منذ وصل سعادة إلى مطار بيروت في 2 مايو 1947.
----- نقلاً عن موقع " مبشر الجزيرة نت - 29-3-2020
تعليقات
إرسال تعليق