كتابات مختارة - ماذا تبقى من القومية العربية؟
ماذا تبقى من القومية العربية؟
محيي الدين ابراهيم
الحوار المتمدن 2025 / 4 / 10
قراءة في: ماذا تبقى من القومية العربية؟ لسامي عواد:
ما الذي يتبقّى من فكرة حين يتكفّنها الزمن؟ .. وهل يمكن لحلمٍ وُلد من رحم الخيال السياسي أن يصمد في وجه التاريخ حين يشتدّ عليه السرد؟
ليست القومية العربية روايةً واحدة تُروى، بل طيفًا من الظلال المتنازعة، تسكنها التناقضات أكثر مما يوحّدها الحنين.
لقد عاشت العروبة في خطابات الشعراء، وفي بيانات الثوار، وفي شعارات الزعماء... لكنها لم تستقرّ يومًا في جسد دولة، ولا في وعي أمّة موحّدة.
فمن العروبة العثمانية التي رأت في الانتماء وسيلةً للإصلاح، إلى العروبة الهاشمية التي حاولت أن ترتدي عباءة الدولة، مرورًا بعروبة ما بين الحربين التي تشكّلت في صالات الصحف وتحت أروقة الجمعيات، وصولًا إلى العروبة الناصرية التي بلغت ذروتها ثم كالشهاب مالبثت أن إنكسرت، ومنذ ذلك الحين، ظلّ المشروع يبحث عن اسمه، عن كيانه، عن نقطة التقاء بين الخيال والممكن، إذ لم تكن المشكلة في الحلم ذاته، بل في تعدّد من حلموا به واختلاف تصوّراتهم عنه: فمن أراده إمبراطورية عربية، إلى من تخيّله وحدة ثقافية، إلى من صيّره ذريعة لشرعنة السلطة.
وهكذا، اصطدمت العروبة بجدران الجغرافيا، وتحطّمت على صخور الواقع الاجتماعي، وتاهت بين أنظمة تستثمرها، وشعوب تتغنّى بها ولا تراها، لكن حتى الصورة، حتى الحلم المنكسر، لا يزال يقاوم النسيان... لا لأنّه مشروع قابل للبعث، بل لأنه صار جزءًا من الوجدان، من تلك المنطقة الرمادية بين الوعي واللاوعي السياسي، التي تنتمي إلى الذاكرة أكثر مما تنتمي إلى المستقبل.
فمنذ أكثر من قرن، تشكلت في المجال العربي سردية قومية تدّعي لنفسها وحدة الأصل، وتسلسلًا تاريخيًا يبدو منطقيًا، لكنّ التدقيق فيها يكشف عن بنية معقدة ومتناقضة، تتجاوز كثيرًا هذا السياق الخطّي المبسّط، وهذا التصور لسامي عواد في قراءتي له، ليس دعوة لنسف الفكرة القومية، بل محاولة لتفكيك الرواية السائدة، وإعادة تركيبها وفق منطق تاريخي أكثر تحررًا من الإيديولوجيا، وأكثر انفتاحًا على التعدد الذي عرفته الهوية العربية.
العروبة في ظل الدولة العثمانية:
تطلع للمواطنة لا للانفصال:
في القرن التاسع عشر، لم تكن العروبة نقيضًا للعثمانية، بل وُلدت من رحمها. طبقات الأعيان المدينية التي نشأت في مدن كدمشق وحلب وبيروت، كانت تطمح لأن تتحول من طبقة تجار إلى نخبة سياسية تمارس الحكم، لا بالضرورة عبر الانفصال، بل من خلال الاندماج في هوية عثمانية أكثر حداثة وشمولًا. لذلك كانت العروبة آنذاك إطارًا لإصلاح الدولة، لا لهدمها.
الكواكبي وأشباهه: الأصوات الجانبية لا المركزية:
رغم بروز أصوات مثل عبد الرحمن الكواكبي، نجيب عازوري، ورزق الله حسون، الداعية للاستقلال، فإنها بقيت هامشية التأثير، ومرتبطة غالبًا بمراكز قوى خارجية، لا سيما القاهرة. ومع ذلك، أعادت السردية القومية العربية اللاحقة استدعاء هؤلاء، وتوظيفهم كـ"أسلاف" رمزيين لخدمة خطها السياسي.
العروبة الهاشمية: مشروع قصير العمر لدولة عربية:
مع الثورة العربية الكبرى وتحالف الشريف حسين مع الحلفاء، انتقلت العروبة من كونها هوية ثقافية إلى مشروع سياسي. العروبة الهاشمية حاولت تأسيس دولة عربية في سوريا بقيادة الملك فيصل، لكن اصطدمت بحقائق الداخل السوري المتشظي، وبالاستعمار الفرنسي الطامع، فانهارت في ميسلون عام 1920، مخلفة وراءها ذاكرة مجيدة لكنها غير مكتملة.
ثلاثينيات القرن العشرين: المذياع واللغة يصنعان أمة:
في فترة ما بين الحربين، بدأت العروبة تتخذ ملامح جديدة، تقوم على اللغة والاتصال الجماهيري عبر الصحافة والمذياع. مثّل ساطع الحُصري، زكي الأرسوزي، وقسطنطين زريق نماذج لهذه العروبة الجديدة، التي تخاطب جمهورًا أوسع، وتستبطن مشاعر التحرر ومواجهة الاستعمار. لكنها، في كثير من تجلياتها، لم تخلُ من تماهي مع الفاشية الأوروبية في البنية والتنظيم والخطاب.
الناصرية: التجربة الأكبر... والانهيار الأوضح:
جاء عبد الناصر ليُجسد طموح القومية العربية في أوضح صورها. من خلال الجمهورية العربية المتحدة، والسياسات الراديكالية، بدا أن الحلم القومي يوشك أن يتحقق. لكن الهزائم في اليمن وسوريا، ثم كارثة 1967، كشفت هشاشة البناء الذي أقيم على عواطف الجماهير، لا على مؤسسات راسخة أو مشروع سياسي متين.
ما الذي تبقى من القومية العربية؟
بقي منها الشعور الثقافي العام بالانتماء، وليس أكثر. مشاريع الوحدة تبعثرت، والخطاب القومي استُهلك، وتحوّلت العروبة إلى لافتة رمزية، تُرفع عند الأزمات أو في مواجهة الهيمنة الخارجية. أما كأيديولوجيا سياسية قابلة للتطبيق، فقد عجزت عن الصمود أمام وقائع التعدد الجغرافي، والانقسامات الاجتماعية، وتحولات السلطة.
ومما سبق يمكننا القول أن التاريخ العربي الحديث ليس سردية واحدة، بل فسيفساء من المشروعات المتنافسة، والانكسارات المتكررة، والأوهام الكبيرة. والعروبة – على اتساعها – لا يمكن اختزالها في خط واحد أو زعيم أو مرحلة، فما تبقى منها ليس مشروعًا سياسيًا جامعًا، بل إحساس غامض بالمصير المشترك ... وربما يكون هذا الإحساس، في زمن التفكك، أثمن ما تبقي.
وفي النهاية لايسعنا إلا الحقيقة أو - ربما - ظل من الحقيقة وهو أنه ليس من الإنصاف أن ندفن العروبة، كما ليس من الحكمة أن نبعثها على صورتها القديمة، فما سُمّي قومية عربية لم يكن يومًا كيانًا تامّ البناء، بل كان حركة روح، تائهة بين أطلال الخلافة، وأوهام الدولة الحديثة، وعذابات الاستعمار، وفتن ما بعده.
حلمٌ وُلد في قلب صحراء تبحث عن ماء، ثم ضاع بين السيوف والميكروفونات، بين المنفى والمنبر، بين الشعار والسلطة.
ولعلّ في فشل المشروع القومي، حكمة لم نفهمها بعد.
فلربما لم تكن العروبة غايةً في ذاتها، بل سبيلاً إلى كشف هشاشتنا أمام فكرة الأمة، وفضيحةً لعجزنا عن صياغة عقد وجوديّ حقيقيّ يجمعنا لا على الهوية، بل على المصير.
وربما، كل سقوط هو نداءٌ للعودة، لكن العودة هنا، لا تكون إلى الماضي، بل إلى الجذر: إلى اللغة كأفقٍ للتفكير، إلى الثقافة كجسرٍ للقاء، إلى الحرية كأرضٍ للانتماء، هكذا فقط، قد تصير العروبة – لا شعارًا سياسيًا، ولا دولةً فاشلة – بل حالة من الكشف؛ وأن ترى نفسك في مرآة الآخر، وتكتشف في شتات الجغرافيا، وحدة الروح.
------
تعليقات
إرسال تعليق